وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ
(45)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} لمّا أمرَهم ـ سبحانَه ـ بتركِ الضَلالِ والإضلالِ والتزامِ
الشرائعِ، وكان ذلك شاقًّا عليهم لِما فيه مِنْ فَوَاتِ مَحبوبِهم وذَهابِ مطلوبِهم
عالجَ مَرَضَهم بهذا الخطاب، والصبرُ حبسُ النفسِ على ما تَكره، وفطمُها عن المَألوفاتِ،
والصَّبْرُ فِي اللُّغَةِ الحبسُ، وَقُتِلَ فُلَانٌ صَبْرًا أَيْ أُمْسِكَ
وَحُبِسَ حَتَّى أُتْلِفَ، وَصَبَّرْتُ نَفْسِي عَلَى الشَّيْءِ حَبَسْتُهَا.
وَالْمَصْبُورَةُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمَحْبُوسَةُ
عَلَى الْمَوْتِ وَهِيَ الْمُجَثَّمَةُ. وَقَالَ عَنْتَرَةُ:
فَصَبَرْتُ
عَارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً .............. تَرْسُو إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ
تَطَلَّعُ
والصلاةُ التَعَرُّضُ لِحُصولِ المُواصلاتِ. ولقد أَمَرَ تَعَالَى
بِالصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ وَعَنِ الْمُخَالَفَةِ فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: {وَاصْبِرُوا}
يُقَالُ فُلَانٌ صَابِرٌ عَنِ الْمَعَاصِي وَإِذَا صَبَرَ عَنِ الْمَعَاصِي فَقَدْ
صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ، وَلَا يُقَالُ لِمَنْ صَبَرَ عَلَى الْمُصِيبَةِ:
صَابِرٌ إِنَّمَا يُقَالُ صَابِرٌ عَلَى كَذَا. فَإِذَا قُلْتَ صَابِرٌ مُطْلَقًا
فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّما يُوَفَّى
الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} الزمر: 10.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالصَّلاةِ}
خَصَّ الصَّلَاةَ بِالذِّكْرِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ تَنْوِيهًا
بِذِكْرِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ إِذَا حَزَبَهُ (نَزَلَ به مُهِمٌّ)
أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ ابن
عَبَّاسٍ نُعِيَ لَهُ أَخُوهُ قُثَمُ ـ وَقِيلَ بِنْتٌ لَهُ ـ وَهُوَ فِي سَفَرٍ
فَاسْتَرْجَعَ وَقَالَ: عَوْرَةٌ سترها الله، ومَؤونةٌ كَفَاهَا اللَّهُ، وَأَجْرٌ
سَاقَهُ اللَّهُ. ثُمَّ تَنَحَّى عَنِ الطَّرِيقِ وَصَلَّى ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى
رَاحِلَتِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ}.
فَالصَّلَاةُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هِيَ الشَّرْعِيَّةُ. وَقَالَ
قَوْمٌ: هِيَ الدُّعَاءُ عَلَى عُرْفِهَا فِي اللُّغَةِ فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى
هَذَا التَّأْوِيلِ مُشْبِهَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا
وَاذْكُرُوا اللَّهَ} الأنفال 45، لِأَنَّ الثَّبَاتَ هُوَ الصَّبْرُ وَالذِّكْرَ
هُوَ الدُّعَاءُ وَقَوْلٌ ثَالِثٌ قَالَ مُجَاهِدٌ: الصَّبْرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ
الصَّوْمُ وَمِنْهُ قِيلَ لِرَمَضَانَ شَهْرُ الصَّبْرِ فَجَاءَ الصَّوْمُ
وَالصَّلَاةُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي الْآيَةِ مُتَنَاسِبًا فِي أَنَّ
الصِّيَامَ يَمْنَعُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَيُزَهِّدُ فِي الدُّنْيَا وَالصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَتَخَشُّعٌ وَيُقْرَأُ فِيهَا
الْقُرْآنُ الَّذِي يُذَكِّرُ الْآخِرَةَ. والصبرُ مِفتاحُ الفَرَجِ، لِما فيه من
كَسْرِ الشهوةِ وتصفيةِ النفسِ المُوجِبَيْنِ للانْقطاعِ إلى اللهِ تعالى المُوجبِ
لإجابةِ الدعاءِ.
والصَّبْرُ عَلَى الْأَذَى وَالطَّاعَاتِ مِنْ جِهَادِ النَّفْسِ
وَقَمْعِهَا عَنْ شَهَوَاتِهَا وَمَنْعِهَا مِنْ تَطَاوُلِهَا وَهُوَ مِنْ
أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَالَ يَحْيَى بْنُ الْيَمَانِ
الصَّبْرُ أَلَّا تَتَمَنَّى حَالَةً سِوَى مَا رَزَقَكَ اللَّهُ وَالرِّضَا بِمَا
قَضَى اللَّهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ـ الصَّبْرُ مِنَ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنَ
الْجَسَدِ، وَصَدَقَ ـ كَرَّمَ اللَّهُ وجهَهُ ـ ذَلِكَ أَنَّ الْإِيمَانَ
مَعْرِفَةٌ بِالْقَلْبِ وَإِقْرَارٌ بِاللِّسَانِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ فَمَنْ
لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْعَمَلِ بِجَوَارِحِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِيمَانَ
بِالْإِطْلَاقِ. فَالصَّبْرُ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّرَائِعِ نَظِيرُ الرَّأْسِ
مِنَ الْجَسَدِ لِلْإِنْسَانِ الَّذِي لَا تَمَامَ لَهُ إِلَّا بِهِ. ولقد وَصَفَ
اللَّهُ تَعَالَى جَزَاءَ الْأَعْمَالِ وَجَعَلَ لَهَا نِهَايَةً وَحَدًّا فَقَالَ:
{مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها} الأنعام 160. وَجَعَلَ
جَزَاءَ الصَّدَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوْقَ هَذَا فَقَالَ: {مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ} البقرة: 261.
الْآيَةَ. وَجَعَلَ أَجْرَ الصَّابِرِينَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَمَدَحَ أَهْلَهُ
فَقَالَ: {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ} الزمر: 10.
وَقَالَ: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} الشورى:
43. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالصَّابِرِينَ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّما
يُوَفَّى الصَّابِرُونَ} أَيِ الصَّائِمُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي صَحِيحِ
السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الصِّيَامُ لِي
وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)). فَلَمْ يَذْكُرْ ثَوَابًا مُقَدَّرًا كَمَا لَمْ
يَذْكُرْهُ فِي الصَّبْرِ. وَاللَّهُ أعلم.
ولِفَضْلِ الصَّبْرِ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى نَفْسَهُ بِهِ كَمَا
فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ: ((ليسَ أَحَدٌ، أوْ ليسَ شيءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى سَمِعَهُ، مِنَ اللَّهِ
تَعَالَى: إِنَّهُمْ لَيَدْعُونَ لَهُ وَلَدًا وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ
وَيَرْزُقُهُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. ووَصْفُ اللَّهِ ـ تَعَالَى ـ بِالصَّبْرِ
إِنَّمَا هُوَ بِمَعْنَى الْحِلْمِ، وَمَعْنَى وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْحِلْمِ،
هُوَ تَأْخِيرُ الْعُقُوبَةِ عَنِ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا. وَوَصْفُهُ تَعَالَى
بِالصَّبْرِ لَمْ يَرِدْ فِي التَّنْزِيلِ وَإِنَّمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَبِي
مُوسَى وَتَأَوَّلَهُ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى تَأْوِيلِ الْحِلْمِ. وَجَاءَ فِي
أَسْمَائِهِ ـ سبحانَه ـ "الصَّبُورُ" لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحِلْمِ
عَمَّنْ عَصَاهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ}
اخْتَلَفَ الْمُتَأَوِّلُونَ فِي عَوْدِ الضَّمِيرِ مِنْ قَوْلِهِ: "وَإِنَّها"،
فَقِيلَ: عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهَا خَاصَّةً لِأَنَّهَا تَكْبُرُ عَلَى
النُّفُوسِ مَا لَا يَكْبُرُ الصَّوْمُ، وَالصَّبْرُ هُنَا: الصَّوْمُ فَالصَّلَاةُ
فِيهَا سِجْنُ النُّفُوسِ وَالصَّوْمُ إِنَّمَا فِيهِ مَنْعُ الشَّهْوَةِ فَلَيْسَ
مَنْ مَنَعَ شَهْوَةً وَاحِدَةً أَوْ شَهْوَتَيْنِ كَمَنْ مَنَعَ جَمِيعَ
الشَّهَوَاتِ. فَالصَّائِمُ إِنَّمَا مَنَعَ شَهْوَةَ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ ثُمَّ يَنْبَسِطُ فِي سَائِرِ الشَّهَوَاتِ مِنَ الْكَلَامِ
وَالْمَشْيِ وَالنَّظَرِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مُلَاقَاةِ الْخَلْقِ
فَيَتَسَلَّى بِتِلْكَ الْأَشْيَاءِ عَمَّا مُنِعَ. وَالْمُصَلِّي يَمْتَنِعُ مِنْ
جَمِيعِ ذَلِكَ فَجَوَارِحُهُ كُلُّهَا مُقَيَّدَةٌ بِالصَّلَاةِ عَنْ جَمِيعِ
الشَّهَوَاتِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَانَتِ الصَّلَاةُ أَصْعَبَ عَلَى النَّفْسِ،
وَمُكَابَدَتُهَا أَشَدَّ فَلِذَلِكَ قَالَ: "وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ" وَقِيلَ: عَلَيْهِمَا وَلَكِنَّهُ كَنَّى عَنِ الْأَغْلَبِ
وَهُوَ الصَّلَاةُ كَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ} التوبة: 34. وَقَوْلُهُ: {وَإِذا رَأَوْا
تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها}. الجمعة: 11. فَرَدَّ الْكِنَايَةَ
إِلَى الْفِضَّةِ لِأَنَّهَا الْأَغْلَبُ وَالْأَعَمُّ، وَإِلَى التِّجَارَةِ
لِأَنَّهَا الْأَفْضَلُ وَالْأَهَمُّ، وَقِيلَ: إِنَّ الصبرَ لمّا كان داخلًا فِي
الصَّلَاةِ أَعَادَ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ} التوبة: 62. وَلَمْ يَقُلْ: يُرْضُوهُمَا لِأَنَّ رِضَا الرَّسُولِ
دَاخِلٌ في رضا اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ومنه قول حسان بن ثابت ـ رضي الله عنه:
إنَّ
شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرَ الْأَسْــ.............ــوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كانَ
جُنونا
وَلَمْ يَقُلْ يُعَاصَيَا رَدٌّ إِلَى الشَّبَابِ لِأَنَّ الشَّعْرَ
دَاخِلٌ فِيهِ. وَقِيلَ: رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ
حُذِفَ اخْتِصَارًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ
وَأُمَّهُ آيَةً}. المؤمنون: 50. ولم يَقُلْ آيَتيْن ومنْه قولُ الشاعر ضابئ
البَرجمي:
فَمَنْ
يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ ................. فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بها
لغريب
وقال
الأضبط بن قريع السعدي:
لِكُلِّ
هَمٍّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ .............. وَالصُّبْحُ وَالْمُسْيُ لَا فَلَاحَ
مَعَهْ
أَرَادَ: لَغَرِيبَانِ، لَا فَلَاحَ معهم وَقِيلَ: عَلَى
الْعِبَادَةِ الَّتِي يَتَضَمَّنُهَا بِالْمَعْنَى ذِكْرُ الصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ.
وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ وَهِيَ الِاسْتِعَانَةُ الَّتِي يَقْتَضِيهَا قَوْلُهُ:
"وَاسْتَعِينُوا". وَقِيلَ عَلَى إِجَابَةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصلاة والسَّلَامُ
لِأَنَّ الصَّبْرَ وَالصَّلَاةَ مِمَّا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ، وَقِيلَ عَلَى
الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّلَاةِ إِنَّمَا هُوَ إِلَيْهَا، "وَكَبِيرَةٌ" مَعْنَاهُ ثَقِيلَةٌ شَاقَّةٌ. قَالَ أَرْبَابُ الْمَعَانِي
إِلَّا عَلَى مَنْ أُيِّدَ فِي الْأَزَلِ بِخَصَائِصِ الِاجْتِبَاءِ وَالْهُدَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {عَلَى الْخاشِعِينَ}
الْخَاشِعُونَ جَمْعُ خَاشِعٍ وَهُوَ الْمُتَوَاضِعُ. وَالْخُشُوعُ: هَيْئَةٌ فِي
النَّفْسِ يَظْهَرُ مِنْهَا فِي الْجَوَارِحِ سُكُونٌ وَتَوَاضُعٌ. وَقَالَ
قَتَادَةُ: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ وَهُوَ الْخَوْفُ وَغَضُّ الْبَصَرِ فِي
الصَّلَاةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الْخَاشِعُ الَّذِي يُرَى أَثَرُ الذُّلِّ
وَالْخُشُوعِ عَلَيْهِ كَخُشُوعِ الدَّارِ بَعْدَ الْإِقْوَاءِ هَذَا هُوَ
الْأَصْلُ قَالَ النَّابِغَةُ:
رَمَادٌ
كَكُحْلِ الْعَيْنِ لَأْيًا أُبَيِّنُهُ ........ وَنُؤْيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ
أَثْلَمُ خَاشِعُ
وَمَكَانٌ خَاشِعٌ: لَا يُهْتَدَى لَهُ. وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ
أَيْ سَكَنَتْ. وَخَشَعَتْ خَرَاشِيُّ صَدْرِهِ إِذَا أَلْقَى بُصَاقًا لَزِجًا.
وَخَشَعَ بِبَصَرِهِ إِذَا غَضَّهُ.
وفَرَّق بعضُهم بين الخضوع
والخُشوع ، فقال: الخُضُوع في البدنِ خاصةً، والخُشُوع في البدنِ والصوت والبصر
فهو أعمُّ منه، ولذلك قلت :
قلبي لعزك يخشــعُ ............................
ولك الجوارح تخضعُ
يا مَن وَعَتْه مسامعي ...........................
في كل صوت يُسمعُ
يا مَن رأته بصـيرتي ...............................
قي كل نور يسطـعُ
وقيل:
الخشوع هو الخضوع لمن ترى أنه فوقك بلا منازع .
وَالْخُشْعَةُ: قِطْعَةٌ مِنَ الْأَرْضِ رَخْوَةٌ وَفِي الْحَدِيثِ: ((كَانَتْ
خُشْعَةً عَلَى الْمَاءِ ثُمَّ دُحِيَتْ بَعْدُ)). وَبَلْدَةٌ خَاشِعَةٌ:
مُغْبَرَّةٌ لَا مَنْزِلَ بِهَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ سَأَلْتُ
الْأَعْمَشَ عَنِ الْخُشُوعِ فَقَالَ يَا ثَوْرِيُّ أَنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ
إِمَامًا لِلنَّاسِ وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ! سَأَلْتُ إِبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيَّ عَنِ الْخُشُوعِ فَقَالَ: أُعَيْمِشُ! تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ إِمَامًا
لِلنَّاسِ وَلَا تَعْرِفُ الْخُشُوعَ! لَيْسَ الْخُشُوعُ بِأَكْلِ الْخَشِنِ
وَلُبْسِ الْخَشِنِ وَتَطَأْطُؤِ الرَّأْسِ! لَكِنَّ الْخُشُوعَ أَنْ تَرَى
الشَّرِيفَ وَالدَّنِيءَ فِي الْحَقِّ سَوَاءً وَتَخْشَعُ لِلَّهِ فِي كُلِّ
فَرْضٍ افْتُرِضَ عَلَيْكَ وَنَظَرَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى شَابٍّ قَدْ
نَكَسَ رَأْسَهُ فَقَالَ يَا هَذَا! ارْفَعْ رَأَسَكَ فَإِنَّ الْخُشُوعَ لَا
يَزِيدُ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ـ رضي الله
عنه: الْخُشُوعُ فِي الْقَلْبِ، وَأَنْ تُلِينَ كَفَّيْكَ لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ
وَأَلَّا تَلْتَفِتَ فِي صَلَاتِكَ. وَسَيَأْتِي هَذَا الْمَعْنَى مُجَوَّدًا
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ} المؤمنون: 2 – 1. فَمَنْ أَظْهَرَ لِلنَّاسِ خُشُوعًا
فَوْقَ مَا فِي قلبِه فإنّما أَظهرَ نِفاقًا على نِفَاقٍ. قَالَ سَهْلُ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ لَا يَكُونُ خَاشِعًا حَتَّى تَخْشَعَ كُلُّ شَعْرَةٍ عَلَى
جَسَدِهِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الزمر: 23. وهَذَا هُوَ الْخُشُوعُ الْمَحْمُودُ
لِأَنَّ الْخَوْفَ إِذَا سَكَنَ الْقَلْبَ أَوْجَبَ خُشُوعَ الظَّاهِرِ فَلَا
يَمْلِكُ صَاحِبُهُ دَفْعَهُ فَتَرَاهُ مُطْرِقًا مُتَأَدِّبًا مُتَذَلِّلًا،
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَجْتَهِدُونَ فِي سَتْرِ مَا يَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمَذْمُومُ فَتَكَلُّفُهُ وَالتَّبَاكِي وَمُطَأْطَأَةُ الرَّأْسِ
كَمَا يَفْعَلُهُ الْجُهَّالُ لِيُرَوْا بِعَيْنِ الْبِرِّ وَالْإِجْلَالِ،
وَذَلِكَ خَدْعٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَتَسْوِيلٌ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ.
رَوَى الْحَسَنُ أَنَّ رَجُلًا تَنَفَّسَ عِنْدَ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ كَأَنَّهُ يَتَحَازَنُ فَلَكَزَهُ عُمَرُ أَوْ قَالَ لَكَمَهُ.
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا تَكَلَّمَ أَسْمَعَ وَإِذَا مَشَى
أَسْرَعَ وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ وَكَانَ نَاسِكًا صِدْقًا وَخَاشِعًا حَقًّا
وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ الْخَاشِعُونَ هُمُ
الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا.
قوله: {واستعينوا بالصبر} هذه الجملةُ الأمريّةُ عَطْفٌ على ما قبلَها من الأوامر، ولكن
اعتُرِضَ بينها بهذه الجمل. وأصلُ "استعينوا"
اسْتَعْوِنُوا فَفُعِل به ما فُعِل في {نَسْتَعِينُ} الفاتحة:5 وقد تقدَّم تحقيقُه
ومعناه.
و"بالصبر"
متعلقٌ بِه والباءُ للاستعانةِ أو للسببيّةِ، والمُسْتَعانُ عليه محذوفٌ ليَعُمَّ
جميعَ الأحوال المستعانِ عليها، و"استعان" يتعدَّى بنفسِه نحو: {وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ} الفاتحة: 5. ويَجوزُ أنْ تَكونَ الباءُ للحال أي: ملتبسينَ بالصبر،
والظاهر أنّه يتعدَّى بنفسه وبالباء تقولُ: استَعَنْتُ اللهَ واستعنْتُ بالله. وقد
تقدَّم أنَّ السينَ للطلب.
قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} إنَّ واسمُها وخبرُها، والضميرُ في "إنها"
يعودُ على الصلاة وإنْ تقدَّم شيئان، لأنّها أغلبُ منه وأهمُّ.
قوله: {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} استثناءٌ مفرَّعٌ، وجازَ ذلك وإنْ كانَ الكلامُ مُثْبَتاً لأنّه في
قوةِ المنفيِّ، أي: لا تَسْهُل ولا تَخِفُّ إلاَّ على هؤلاء، فـ "على الخاشعين" متعلَّقٌ بـ "كبيرة" نحو: "كَبُر
عليَّ هذا" أي: عَظُم وشَقَّ.