عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 36 الثلاثاء سبتمبر 18, 2012 8:30 am | |
| فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) {أَزَلَّهما} أي حَمَلَهما على الزَّلَّة، وما صَرَّفَتْهُما إلّا القُدْرَةُ، أخرَجَهُما عمّا كانا فيه مِن الرُتبةِ والدَرَجَةِ جَهْرًا، ولكن ما ازْدادَ ـ في حُكمِ الحَقِّ سبحانَه ـ شأنُهما إلّا رِفْعةً وقَدْراً. فإنّ خُصوصيَّةَ الحَقِّ سبحانَه عزيزةٌ قال تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} الحجر: 42. فلو كان لإبليسَ سلطانٌ على غِوايَة غيرِه لَكان لَه إِمْكانٌ في هِدايةِ نفسِهِ، وكيف يكون ذلك؟ والتفرُّدُ بالإبداعِ لِكُلِّ شيءٍ من خَصائِصِ نَعْتِه سبحانَه؟.فأزَلَّهما مِن الزّلَّةِ وهي الخَطيئَةُ أيْ اسْتَزَلَّهُما وأَوْقَعَهُما فيها.أو هي مِن التَنْحيَةِ، أيْ نَحّاهُما، يُقالُ أَزَلْتُهُ فَزالَ، وعليه فأزالهما من الزوال أيْ صَرَفَهُما عمّا كانا عليْه مِن الطاعةِ إلى المَعصِيَةِ. ودَلَّ على هذا قولُه تعالى: {إنّما اسْتَزَلَّهمُ الشيطانُ ببعضِ ما كَسَبوا}. آل عمران 155. وقولُه: {فوَسْوَسَ لهما الشيطانُ}. والوَسْوَسَةُ إنّما هي إدْخالُهما في الزّللِ بالمَعصيَةِ وليس للشيطانِ قُدْرةٌ على زَوالِ أَحَدٍ مِنْ مَكانٍ إلى مكانٍ. إنّما قُدْرَتُه على إِدْخالِهِ في الزَّلَلِ فيكونُ ذلك سَبَبًا إلى زَوالِه مِنْ مَكانٍ إلى آخَرَ بِذَنْبِه. فيكون في المعنى من الزوال قال المرؤ القيس: يُزِلُّ الغُلامُ الخِفُّ عَن صَهَواتِهِ ......... ويُلْوي بأَثْوابِ العَنيفِ المُثَقَّلِ الخِفُّ: الخفيفُ، والصَهْوَةُ: موضِعُ اللِّبْدِ من ظهرِ الفرسِ ويُلْوي بها يذهبُ بها من شِدَّةِ عَدْوِهِ، والعنيف الذي لا يُعامِلُ الخيلَ برفقٍ والمُثَقَّل ثقيل الوزن لبَدانَتِه ولما يلبس من الحديد وثقيل الثياب، وقال أيضًا: كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدَّ عن حالِ مَتْنِهِ .......... كما زَلَّتِ الصَفْواءُ بالمُتَنَزَّلِالكُمَيْتُ: لونٌ بين الشُقْرَةِ والدُهْمَةِ، والحال مَوْضِعُ اللِّبدِ من ظهر الفرسِ، والصَفْواءُ: جمعُ صَفاةٍ وهي الحجرةُ المَلْساءُ،والمُتَنَزِّلُ: ما يَنْزِل عليها فينزلق عنها.قوله تعالى: {فأخرجهما مما كانا فيه} فأخرجهما تأكيدٌ وبيانٌ للزّوالِ إذْ قد يُمكنُ أنْ يَزولا عن مكانٍ إلى مكانٍ آخرَ مِنَ الجنَّةِ وليس كذلك وإنّما كان إخراجهما من الجنة إلى الأرض لأنهما خُلِقا منها وليكونَ آدمُ خليفةً في الأرضِ ولمْ يَقصِد إبليسُ ـ لعنَه اللهُ ـ إخراجَه منها وإنّما قَصَدَ إِسقاطَه مِنْ مَرْتَبَتِهِ وإبْعادَه كما أُبعِدَ هُو فلَمْ يَبلُغْ مَقْصِدَه ولا أَدْرَك مُرادَه بل ازدادَ غيظَ نفسٍ وخيبةَ ظَنٍّ. قال اللهُ جَلَّ ثناؤه: {ثمَّ اجْتباهُ ربُّه فتابَ عليهِ وهَدى} فَصارَ عليه السلامُ خَليفةَ اللهِ في أرضِه، ونُسِبَ ذلك إلى إبليس لأنّه بسببِه وإغوائه. واختُلِفَ في الكيفيّةِ فقال ابنُ مسعودٍ وابنُ عبّاسٍ وجمهورٌ العلماءِ أَغواهُما مُشافَهَةً والمُقاسَمَةُ ظاهرُها المُشافَهَةُ. وقال بعضُهم: دخل الجنة في فمِ الحيّةِ وهي ذاتُ أربعٍ كالبُختيَّةِ مِنْ أحسنِ دابَّة خَلَقَها اللهُ تعالى بعد أنْ عَرَضَ نفسَه على كثيرٍ مِن الحيوان فلم يُدْخلْه إلّا الحيّة، فلمّا دخلت به الجنَّةَ خَرَجَ مِن جوفِها إبْليسُ فأَخَذَ مِن الشَجَرةِ التي نَهى اللهُ آدمَ وزوجَه عنها فجاء بِها إلى حَوّاءَ فقال: انظري إلى هذه الشجرةِ ما أطيبَ ريحَها وأطيبَ طعمَها وأَحسَنَ لونَها! فلم يَزَلْ يُغويها حتى أخذتْها حوّاءُ فأكلتْها ثمّ أغوى آدمَ، وقالت له حوّاءُ: كُلْ فإنّي قد أكلتُ فلم يَضُرّني فأكَلَ منها فبَدَتْ لهُما سَواءتُهما وحَصلا في حُكم الذَنْبِ فدخلَ آدمُ في جوفِ الشَجَرَةِ فناداه ربُّه: أينَ أنتَ؟ فقال: أنا هذا يا ربُّ قال: أَلا تَخرج؟ قال أستحي منك يا ربُّ قال: اهبطْ إلى الأرضِ التي خُلقت منها، ولُعِنَتِ الحَيَّةُ ورُدَّتْ قوائمُها في جوفها وجُعلت العدواةُ بينَها وبيْن بَني آدمَ، ولذلك أُمِرْنا بِقَتْلِها، وقيل لحواء: كما أَدميْتِ الشَجَرَةَ فكذلك يُصيبُك الدَمُ كُلَّ شهرٍ وتَحملين وتَضعين كُرْهًا تُشرِفين به على الموت مِرارًا.وقالت طائفةٌ: إنَّ إبليسَ لم يدخل الجنَّةَ إلى آدم بعد ما أُخرجَ منها وإنّما أَغوى بشيطانِه وسُلطانِه ووِسْواسِه الذي أعطاه اللهُ تعالى، كما قال صلى الله عليه و سلم: ((إنّ الشيطانَ يَجري مِن ابنِ آدَمَ مَجْرى الدم)). والله أعلم، وسيأتي في الأعراف أنّه لمّا أَكَل بَقيَ عُريانًا وطَلَبَ ما يَستَتِرُ بِه فتَباعَدَتْ عنه الأشجارُ وبَكَّتوهُ بالمَعْصِيَةِ، فرَحِمتْه شَجَرةُ التّينِ فأخَذَ مِنْ وَرَقِهِ فاسْتَتَرَ بِه والله أعلم. وقيل: إنَّ الحِكْمَةَ في إخراج آدمَ من الجنّةِ عِمارةُ الدُّنيا. وقد كان خروجُ آدمَ عليه السلام من الجنّةِ في اليوم الذي فيه خُلِق أي يومَ الجمعةِ لما جاء في الحديث الشريفِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خيرُ يَومٍ طَلَعتْ فيه الشَمْسُ يومُ الجُمُعَةِ، فيه خُلِقَ آدَمُ، وفيه أُدْخِلَ الجَنَّةَ، وفيه أُخْرِجَ منها)) رواه مسلمٌ والنَّسائيُّ.يُذكَرُ أَنَّ الحيَّةَ كانت خادِمَ آدَمَ عليه السلام في الجنّةِ فخانتْه بأنْ مَكَّنتْ عدوَّ اللهِ من نفسِها وأَظهرت العدواةَ له هناكَ فلمّا أُهبِطوا تأكَّدتِ العَداوةُ وقيل لها: أنتِ عدوُّ بني آدم وهُم أَعداؤك، وحيث لَقيَكِ منهم أحدٌ شَدَخَ رأسَك. روى ابنُ عُمَرَ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ((خمسٌ يَقْتُلُهُنَّ المُحْرِمُ)) فذَكَرَ الحيّةَ فيهِنَّ. ورُوي أنَّ إبليسَ قال لها: أَدخليني الجَنَّةَ وأنتِ في ذِمَّتي، فكان ابنُ عبّاسَ يقول: أَخفِروا ذِمَّةَ إبليس. ورَوتْ ساكنةُ بنتُ الجَعْدِ عن سَرّاءَ بنتِ نبهانَ الغَنَوِيَّةِ قالت: سمعتُ رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلَّم يقول: ((اقتُلوا الحيّاتِ صغيرَها وكبيرَها وأَسودَها وأبيضَها فإنَّ مَن قَتَلَها كانتْ له فِداءً من النّارِ ومن قَتَلَتْهُ كان شهيدًا)) وإنّما كانت له فِداء من النّارِ لمُشاركتِها إبليسَ وإعانتِه على ضَرَرِ آدَمَ وولدِه، فكذلك كان مَن قَتَلَ حيّةً فكأنّما قَتَلَ كافرًا، وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((لا يجتمعُ كافرٌ وقاتلُه في النّارِ أَبَدًا)). أخرجه مُسلمٌ وغيرُه. روى ابنُ جُريْجٍ عن عبد الله بن مسعودٍ قال: ((كنّا معَ النبيِّ صلى الله عليه و سلم بِمِنًى فمَرَّتْ حَيَّةٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: اقتُلوها فسَبَقَتْنا إلى حَجَرٍ فدَخَلَتْه، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: هاتوا بسَعْفَةٍ ونارٍ فأَضْرِموها عليه نارًا)). وهذا الحديثُ يَخُصُّ نَهيَه عليه السلام عن المُثلَةِ وعن أنْ يُعَذَّبَ أحدٌ بعَذابِ اللهِ تَعالى قالوا: فلَمْ يَبْقَ لهذا العدوِّ حُرْمَةٌ حيثُ أنّهُ فاتَه حتّى أَوْصَلَ إليْهِ الهَلاكَ مِن حيث قَدِرَ، فإنْ قيل: قد رُوِيَ عن إبراهيمَ النَّخَعِيِّ أنّه كَرِهَ أنْ تُحرَقَ العَقربُ بالنّارِ وقال: هو مُثْلَةٌ، قيلَ له: يُحتَمَلُ أنْ يَكونَ لمْ يَبْلُغه هذا الأَثَرُ عنِ النَبِيِّ صلى الله عليه و سلم، وعَمِلَ على الأثَرِ الذي جاء: ((لا تُعَذِّبوا بِعذابِ اللهِ)) فكان على هذا سبيلُ العملِ عندَه فإنْ قيلَ: فقد روى مسلمٌ عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ قال: ((كنّا معَ النَبِيِّ صلى الله عليه و سلم في غارٍ وقد أُنْزِلتْ عليه: {والمُرسَلاتِ عُرْفًا} المُرسلات: 1. فنحنُ نأخذُها مِن فِيهِ رَطْبةً إذْ خَرَجَتْ علينا حَيَّةٌ فقال: ((اقْتُلوها)) فابتدرْناها لِنَقْتُلَها فَسَبَقَتْنا فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((وقاها اللهُ شَرَّكم كما وقاكم شرَّها)) فلم يُضْرِمْ نارًا ولا احْتالَ في قتلِها قيل له: يُحْتَمَلُ أنْ يَكونَ لم يَجِدْ نارًا فَتَرَكَها، أو لم يَكنْ الجَحَرُ بِهيئَةٍ يُنْتَفَعُ بالنّارِ هناكَ مع ضَرَرِ الدُخانِ وعَدَمِ وصولِه إلى الحيوان والله أعلم. الأمرُ بقتلِ الحيّاتِ مِن بابِ الإرشاد إلى دَفعِ المَضَرَّةِ المَخوفةِ مِن الحيّاتِ، فما كان منها متحقَّقُ الضَرَرِ وَجَبتِ المُبادَرَةُ إلى قَتْلِهِ لقوله: ((اقتُلوا الحيّاتِ واقتُلوا ذا الطُفْيَتَيْنِ(حيةٌ لها خطان أسودان) والأَبْتَرَ فإنّهما يَخْطَفانِ البَصَرَ ويُسْقِطانِ الحَبَلَ)). فخصَّهُما بالذِكر مع أنهما دَخَلا في العموم، ونَبَّه على ذلك بسببِ عِظَمِ ضَرَرِهِما وما لم يَتَحَقَّقْ ضَرَرُهُ فما كان منها في غيرِ البُيوتِ قُتِلَ أيضًا لِظاهِرِ الأَمْرِ العامِّ ولأَنَّ نَوْعَ الحيّاتِ غالبةُ الضَرَرِ فيُسْتَحَبُّ ذلك فيه، ولِأَنّه كلُّه مُرَوِّعٌ بصورَتِهِ وبِما في النفوسِ مِنَ النَّفرةِ عنه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ اللهَ يُحِبُّ الشَجاعَةَ ولو على قَتْلِ حَيَّةٍ)). فشجَّعَ على قتلِها. وقال فيما خرّجَه أبو داوودَ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ مرفوعًا: ((اقتُلوا الحيّاتِ كلَّهُنَّ فَمَن خاف ثَأْرَهُنَّ فليْس مِنّي)). والله أعلم. ما كان من الحيّاتِ في البُيوتِ فلا يُقتَلُ حتّى يُؤذَنَ ثلاثةَ أيّامٍ لقولِه عليه الصلاةُ والسلام: ((إنّ بالمَدينةِ جِنًّا قد أَسْلَموا فإذا رأيتمْ منهم شَيْئًا فآذِنوه ثلاثةَ أيّامٍ)). وقد حَمَلَ بعضُ العلماءِ هذا الحديثَ على المدينةِ وحدَها لإسلامِ الجنِّ بها قالوا: ولا نَعلمُ هل أَسلَمَ مِنْ جِنِّ غيرِ المَدينةِ أحدٌ أو لا، وقال مالك: نهى عن قتلِ جِنّانِ البُيوتِ في جميعِ البلادِ وهو الصحيح لأنّ اللهَ عزَّ وجلّ قال: {وإذ صَرَفْنا إليك نفرًا من الجِنِّ يَستمعون القرآن} الآية. وفي صحيحِ مُسْلِمٍ عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه و سلم قال: ((أتاني داعي الجِنِّ فذهبتُ معهم فقرأتُ عليهم القرآن)) وفيه: سأَلوهُ الزادَ وكانوا مِن جِنِّ الجزيرةِ، الحديث. وسيأتي بكمالِه في سُورَةِ الجِنِّ إنْ شاءَ اللهُ تعالى وإذا ثَبَتَ هذا فلا يُقْتَلُ شيءٌ منها حتّى يُحَرِّجَ عليه ويُنذَرَ. والتحريج أن يقولَ لها: أنت في حرج فإن عدتِ إلينا فلا تلومينا أن نضيق عليك بالتتبع والطرد والقتلِ. وروى الأَئمّةُ عن أبي السائبِ مَولى هِشامٍ بنِ زُهْرَةَ أَنّهُ دَخَلَ على أبي سعيدٍ الخِدْريِّ في بيتِه قال: فوجدتُه يُصلّي فجلستُ أَنتظرُه حتّى يَقضيَ صلاتَه، فسمِعتُ تَحريكًا في عَراجينَ ناحيةَ البيتِ، فالتفتُّ فإذا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لأَقتُلَها، فأشارَ إليَّ أن جْلِسْ فجلستُ فلمّا انْصرَفَ أشارَ إلى بيتٍ في الدارِ فقال: أَتَرى هذا البيت؟ فقلتُ نعم، فقال: كان فيه فتًى منّا حديثَ عَهدٍ بعُرْسٍ، قال: فخرجْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان ذلك الفتى يستأذِنُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلّم بأنْصافِ النّهارِ فيَرجِعُ إلى أهلِه فاستأذَنَه يومًا فقال له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: خذْ عليك سلاحَك فإنّي أَخشى عليك قُريظةَ، فأخذَ الرجلُ سِلاحَه ثمّ رَجِعَ فإذا أمراتُه بين البابين قائمةً فأهْوى إليها بالرّمحِ ليَطعَنَها بِه وأصابَتْه غِيرَةٌ فقالتْ له: أكفُفْ عليك رُمحَك وأدخُل البيتَ حتّى تَنظُرَ ما الذي اخرجني! فدخلَ فإذا بحيّةٍ عظيمةٍ مُنْطَويَةٍ على الفِراشِ فأهْوى إليْها بالرُّمحِ فأنْتَظَمَها به ثمّ خرَج فركزَه في الدار فاضطرَبَت عليه فما يَدري أيُّهما كان أَسرَعُ موتًا الحيَّةُ أمِ الفتى! قال: فجئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له وقلنا: ادْعُ اللهَ يُحييه لنا فقال: ((استغفروا لصاحبِكم)).ثم قال: إنَّ بالمدينة جِنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا فآذنوه ثلاثةَ أيامٍ فإنْ بَدا لكم بعد ذلك فاقتلوه، فإنّما هو شيطانٌ. وفي طريقٍ أُخرى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لهذه البيوتِ عَوَامِرَ فإذا رأيتم شيئًا منها فحرِّجوا عليها ثلاثًا فإنْ ذهب وإلّا فاقتُلوه فإنّه كافر)) وقال لهم: ((اذهبوا فادْفِنوا صاحبكم)) ولا يفهم من هذا الحديث أن ّهذا الجانَّ الذي قَتَله هذا الفتى كان مُسْلِمًا وأنَّ الجِنَّ قَتَلَتْه بِه قِصاصًا لأنّه لو سُلِّمَ أنَّ القِصاصَ مشروعٌ بيننا وبين الجِنِّ لَكان إنّما يَكونُ في العَمْدِ المَحْضِ، وهذا الفتى لم يَقْصِدْ ولم يتعمَّدْ قَتْلَ نفسٍ مسلمةٍ إذ لم يكن عندَه عِلمٌ من ذلك، وإنّما قَصَدَ إلى قَتْلِ ما سُوِّغَ قتلُ نوعِه شَرعًا فهذا قَتْلٌ خطأٌ ولا قِصاصَ فيه فالأَوْلى أن يُقال: إنّ كُفّارَ الجِنِّ أو فَسَقَتَهم قَتلوا الفَتى بِصاحِبِهم عَدْوًا وانتقامًا، وقد قَتَلتْ سَعْدَ بنَ عُبادَةَ رضيَ اللهُ عنه، وذلك أنّه وُجِدَ مَيْتًا في مُغْتَسَلِهِ وقد اخْضَرَّ جَسَدُه ولم يَشْعُروا بموتِه حتّى سمِعوا قائلًا يقولُ ولا يَروْنَ أحدًا: قد قَتَلْنا سَيِّدَ الخَزْ .............................. رَجِ سَعْدَ بِنَ عُبادَهْ ورميناهُ بسهميْـ .................................. ــنِ فلمْ نُخْطِ فُؤادَهْ وإنّما قال النبي صلى الله عليه و سلم: ((إنّ بالمدينةِ جِنًّا قد اسلموا)) ليُبَيِّنَ طريقًا يَحصُل بِه التَحَرُّزُ مِنْ قتلِ المُسْلِمِ منهم، ويُتَسَلَّطُ بِه على قَتْلِ الكافِرِ منهم. وروي من وجوهٍ أَنَّ عائشةَ زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم قَتَلتْ جانًّا فأُرِيَتْ في المَنام أنّ قائلًا يقولُ لها: لقد قَتَلْتِ مُسْلِمًا فقالت: لو كان مُسلِمًا لم يَدخلْ على أَزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ما دَخَلَ عليكِ إلّا وعليكِ ثِيابُك. فأصبحت فأمرتْ باثْنَيْ عَشَرَ ألفَ دِرهَمٍ فجُعِلتْ في سبيلِ الله. روى أبو الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((خلق الله الجنَّ ثلاثةَ أثلاثٍ فثُلُثٌ كلابٌ وحيّاتٌ وخِشاشٌ الأرض، وثلثٌ ريحٌ هَفافَةٌ، وثُلثٌ كبني آدَمَ لهم الثوابُ وعليهم العِقابُ، وخلَقَ اللهُ الإنسَ ثلاثةَ أثلاثِ فثُلُثٌ لهم قُلوبٌ لا يفقهون بها وأعيُنٌ لا يُبصِرون بها وأذان لا يسمعون بها، إنْ هُم إلّا كالأنعامِ بل هُمْ أَضَلُّ سَبيلًا، وثلثٌ أَجسادُهم كأجسادِ بني آدم وقلوبهم قلوبُ الشياطين، وثلثٌ في ظلِّ اللهِ يومَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّه)). وما كان من الحيوان أصلُه الإذاية فإنّه يُقتَلُ ابتداءً لأجلِ إذايتِه من غيرِ خِلاف كالحيَّةِ والعَقرَبِ والفَأْرِ والوَزَغِ وشَبَهِهِ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((خمسُ فواسِقٍ يُقتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ)) وذكر الحديث فالحَيَةُ أَبدتْ جوهَرَها الخبيثَ حيثُ خانتْ آدمَ بأن أدخلت إبليسَ الجنَّةَ بين فَكّيْها، ولو كانت تُبْرِزُه ما تَرَكَها رَضوانُ تَدخُلُ بِه، وقال لها إبليسُ أنت في ذمتي فأمر رسول الله صلى الله عليه و سلم بقتلها وقال: ((اقتُلوها ولو كنتم في الصلاة)) يعني الحيَّةَ والعقرب والوَزَغَةُ نَفَخَتْ على نار إبراهيم عليه السلام من بين سائر الدواب فلُعِنتْ، وهذا من نوع ما يُروى في الحيَة، وروي عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنّه قال: ((مَنْ قَتَل وَزَغَةً فكأنّما قَتَل كافرًا)) وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه و سلم: ((مَن قتل وزغة في أول ضَربَةٍ كتبتْ له مئةُ حسنةٍ وفي الثانيةِ دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك)) والفأرة أبدتْ جوهرَها بأن عَمَدتْ إلى حِبالِ سفينةِ نوحٍ عليه السلام فقطّعتْها. ورُوي عن أبي سعيدٍ الخِدْرِيِّ أنّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه و سلم قال: يَقتُلُ المُحرِمُ الحيَّةَ والعَقربَ والحِدَأَةَ والسَبُعَ العادِيَ والكَلْبَ العَقُورَ والفُوَيْسِقَةَ)). قوله تعالى: {وقلنا اهبِطوا} الخطابُ لآدمَ وحوّاءَ والحَيَّةِ والشَيْطانِ كما في قول ابنِ عبّاسٍ، وقال مُجاهد والحسن: بنو آدم وبنو إبليس، والهُبوطُ: النُزولُ مِن فوقٍ إلى أسفل، فأُهبِط آدمُ بِـ "سرنديب في الهند" بجبلٍ يُقالُ له "بُوذ" ومعه ريحُ الجنَّةِ، فعَلِقَ بِشَجَرِها وأَودِيتِها فامتلأَ ما هناكَ طِيبًا، فمِن ثَمَّ يُؤتى بالطِيبِ مِن رِيحِ آدمَ عليهِ السلامُ، وكان السّحابُ يَمسحُ رأسَه فأَصْلَعَ فأَوْرَثَ وَلَدَه الصّلَعَ، وفي البُخاري عن أبي هُريْرَةَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((خَلَقَ اللهُ آدمَ وطولُه سِتّونَ ذِراعا)). الحديث. وأخرجه مُسلمٌ وأُهْبِطتْ حوّاءُ بِـ "جَدَّةَ" من ساحل شبه الجزيرة العربية. وإبليسُ بـ "الأُبُلَّةَ" وهي منطقةٌ قريبةٌ من البصرة بالعراق لجهة البحر، والحيَّةُ بـ "بيسان" من أرضِ فلسطين، وقيل: بـ "سِجِسْتانَ" و"سَجَسْتانُ" من أرضِ خُراسان وهي أكثرُ بِلادِ اللهِ حيّاتٍ، ولولا العَرْبَدُ (نوعٌ من الحيّاتِ تَنفُخُ ولا تُؤذي) الذي يأكلُها ويُفني كثيرًا منها لأُخلِيتْ سِجِستانُ من أجلِ الحيّات، ذكرَه أبو الحَسَنِ الأَشْعَرِيُّ. وعن ابنِ عُمَرَ رضيَ الله عنهما، قال: أُهبِطَ آدمُ بالصَّفا، وحوّاءُ بالمروةِ.وقال غيره: قال الله تعالى: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} فهبطوا فَنَزَلَ آدمُ بالهِند، ونزل معه الحجر الأسود، وقبضةٌ مِنْ ورقِ الجَنّةِ فبَثّه بالهِندِ، فنَبَتَتْ شجرةُ الطِيب، فإنّما أصلُ ما يُجاءُ به من الهندِ من الطيبِ من قبضةِ الوَرَقِ التي هَبَطَ بها آدم، وإنّما قَبَضَها آدمُ أَسَفًا على الجَنّةِ حين أُخْرِجَ منها.وقيل: إن آدم، عليه السلام، أُهْبِطَ ويَداه على رُكْبَتَيْهِ مُطأطئًا رأسَه، وأُهبِط إبليسُ مُشَبِّكاً بين صابِعِهِ رافعاً رأسَه إلى السماء. وقد ذكر المفسرون عن ابن عباس، قال: ما أُسكِنَ آدمُ الجنّةَ إلاّ ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. وهو صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخَرِّجاه. وقال غيرُه: لَبِثَ آدمُ في الجَنّةِ ساعةً مِنْ نَهارٍ، تلك الساعةُ ثلاثون ومئةَ سَنَةٍ من أيامِ الدنيا. وروى أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، قال: خرج آدم من الجنّةِ للساعةِ التاسعةِ أو العاشرةِ، فأخرج آدمُ معَه غُصنًا مِن شَجَرِ الجنَّةِ ، على رأسِهِ تاجٌ مِن شَجَرِ الجَنّةِ وهو الإكليلُ مِن وَرَقِ الجَنَّةِ.وعن أبي موسى، قال: إنَّ اللهَ حينَ أَهبَطَ آدمَ مِنَ الجَنَّةِ إلى الأرض، عَلَّمَه صَنْعَةَ كُلِّ شيءٍ، وزَوَّدَهُ مِن ثِمارِ الجَنَّةِ، فثِمارُكم هذه من ثِمارِ الجَنَّةِ، غيرَ أنَّ هذه تَتغيَّرُ وتلكَ لا تَتغيَّرُ. قوله تعالى: {بعضُكم لبعضٍ عَدُوٌّ} العدو: خلاف الصديق وهو مِن عَدا إذا ظلَمَ، وذئبُ عَدوانُ: يَعدو على الناس والعُدوان: الظلم الصراح وقيل: هو مأخوذٌ من المُجاوزةِ من قولك: لا يعدوك هذا الأمر أي لا يَتجاوزُك وعَداهُ إذا جاوَزَه فسُمِّيَ عَدُوًا لمُجاوزَة الحَدِّ في مكروهِ صاحبه، ومنه العَدْوُ بالقَدَمِ لمُجاوَزةِ الشيءِ والمَعنيان مُتقاربان فإنّ مَن ظَلَمَ فقد تَجاوَزَ قلت، وقد حَمَلَ بعضُ العُلماءِ قولَهُ تعالى: {بعضكم لبعض عدوٌّ} على الإنسانِ نفسِه، وفيه بُعْدٌ وإنْ كان صَحيحًا معنًى يَدلُّ عليه قولُه عليه الصلاةُ والسلامُ: ((إنّ العبدَ إذا أَصبَحَ تقولُ جوارحُه للسانِهِ اتَّقِ اللهَ فينا فإنَّكَ إذا استقمتَ اسْتَقَمْنا، وإنْ اعْوجَجْتَ اعْوَجَجْنا)) فإنْ قيل: كيف قالَ: "عدوٌّ" ولم يقلْ "أعداءٌ"؟ ففيه جوابان أحدهما: أنَّ بعضًا وكلًّا يُخبَرُ عنهما بالواحدِ على اللفظِ وعلى المَعنى وذلك في القرآن قال الله تعالى: {وكلُّهم آتيهِ يومَ القيامةِ فَرْدًا}. مريم: 95. على اللَّفْظِ، وقال تعالى: {وكلٌّ أَتَوْهُ داخرينَ}. النمل: 87. على المَعنى. والجوابُ الآخَرُ: أنَّ عدوًا يُفرَدُ في موضِعِ الجمعِ قالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: {وهم لكم عدوٌّ بئسَ للظالمين بَدَلًا}، الكهف: 50. بمعنى أعداء، وقال تعالى: {يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم همُ العدوُّ}. المنافقون: 4. قال ابنُ فارسٍ: العدوُّ اسمٌ جامعٌ للواحِدِ والاثنين والثلاثةِ والتأنيثِ وقد يُجمعُ. وقيل: من عُدْوَتَي الجَبَلِ وهُما طرفاهُ فاعتَبَروا بُعْدَ ما بينهما، ويقال: عُدْوَةَ، وقد يُجْمَعُ على أَعْدَاء.ولم يَكُنْ إخراجُ اللهِ تعالى آدم من الجنّةِ وإهباطُهُ منها عُقوبةً له لأنّه أَهْبَطَهُ بعد أنْ تابَ عليه وقبِلَ توبتَه، وإنّما أهبَطَهُ إمّا تأديبًا وإمّا تَغليظًا للمِحْنةِ، والصحيحُ في إهباطِه وسُكْناهُ في الأرضِ ما قَدْ ظَهَرَ من الحِكْمَةِ الأزَلِيَّةِ في ذلك وهي نَشْرُ نَسْلِه فيها لِيُكَلِّفَهم ويَمْتَحِنَهم ويُرَتِّبَ على ذلك ثوابَهم وعِقابَهم الأُخْرَوِيَّ إذِ الجَنّةُ والنّارُ ليْستا بِدارِ تكليفٍ فكانتْ تلك الأَكْلةُ(بفتح الهمزة: المرَّةُ الواحدةُ وبضمها اللُّقمةُ الواحدةُ) سببَ إهباطِه منَ الجَنّةِ وللهِ أنْ يَفعلَ ما يَشاءُ، وقد قال: {إني جاعلٌ في الأرضِ خليفةً}. وهذه مَنقَبةٌ عظيمةٌ وفضيلةٌ كريمة ٌشريفةٌ وقد تقدّمت الإشارةُ إليْها مَعَ أنّه خُلِقَ مِنَ الأَرضِ، وإنّما أَهبَطَه بعد أنْ تاب َعليه لقولِه ثانية: {قلنا اهبِطوا} البقرة: 38. قوله جلّ ذكره: {وَلَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}. مَشهدُ الأشباحِ ومَأْلَفُها أقطارُ الأرضِ، ومعهدُ الأرواحِ ومَرْتَعُها رِداءُ العَرشِ، ولفظُ الرّداءِ استعارةٌ وتَوَسُّعٌ، فكيف يَكونُ للهِمَمِ بالحِدْثان تَعَلُّقٌ، ولِصُعودِ القُصودِ إلى الحقائقِ على الأغيارِ وُقوعٌ. و"مسْتَقَرٌّ" أي مَوضِعُ اسْتِقرارٍ، وقال السِدِّيُّ: يعني القبور، والأوّلُ أصحُّ لقوله: {مستقرٌّ ومتاعٌ إلى حين}. و{ومتاعٌ}: المَتاعُ ما يُستَمْتَعُ به مِن أَكْلٍ ولِبْسٍ وحياةٍ وحديثٍ وأُنْسٍ وغيرِ ذلك، ومنهُ سُمِّيتْ مُتعةُ النِّكاحِ لأنّها يُتَمَتَّعُ بها. وأنشدَ سُليمانُ بنُ عبدِ المَلِكِ حين وقَفَ على قَبْرِ ابنِه إِثْرَ دَفْنِهِ: وقفتُ على قَبْرٍ غَريبٍ بِقَفْرَةٍ ............. مَتَاعٌ قليلٌ مِن حَبيبٍ مُفارِقِ و اختلف المتأوِّلونَ في {إلى حين} على أقوالٍ، فقالت فِرقةٌ: إلى الموتِ، وهذا قولُ مَن يقولُ: المُسْتَقَرُّ هو المُقامُ في الدنيا، وقيل: إلى قيامِ الساعةِ، وهذا قولُ مَن يَقول: المُسْتَقَرُّ هو القُبورُ، وقال الربيعُ: "إلى حينٍ" إلى أَجَلٍ، والحِينُ: الوقتُ البَعيدُ، فحينئذٍ تبعيدٌ مِن قولِكَ الآنَ قال خُويْلِدٌ: كابي الرَّمادِ عظيمُ القِدْرِ جَفْنَتُهُ ... حينَ الشِّتاءِ كَحَوْضِ المَنْهَلِ اللَّقِفِ كابي الرماد: عظيمُهُ، ولَقِفَ الحوضُ لَقْفًا أي تَهَوَّرَ مِنْ أسْفَلِهِ واتَّسَعَ، وربّما أدخلوا عليه التاءَ، قال أبو وَجْزَةَ: العاطفونَ تَحِينُ ما مِنْ عاطِفٍ .......... والمُطْعِمونَ زَمانَ أيْنَ المَطْعَمِ والحِينُ أيْضًا: المُدَّةُ، ومنه قولُه تعالى: {هل أتى على الإنسان حينٌ منٌ الدهرِ}. الإنسان: 1. والحِينُ: الساعةُ، قال اللهُ تعالى: {أو تقولَ حين تَرى العذابَ}. الزمر: 58. قال ابنُ عَرَفَةَ: الحينُ القِطعةُ مِن الدهرِ كالساعةِ فما فوقها. وقولُه: {فَذَرْهم في غَمرَتِهم حتّى حين}. المؤمنون: 54. أي حتّى تَفنى آجالُهم. وقولُه تعالى: {تُؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ}. إبراهيم: 25. أي كلَّ سَنَةٍ، وقيل: بلْ كلَّ سِتَّةِ أَشهُرٍ، وقيل: بلْ غُدْوَةً وعَشِيًّا. قال الأَزْهَرِيُّ: الحين اسمٌ كالوقتِ يَصلُحُ لِجميعِ الأزْمانِ كلِّها طالتْ أو قَصُرت، والمعنى أنّه يُنتَفَعُ بِها في كلِّ وقتٍ، ولا يَنقطِعُ نَفْعُها البَتَّةَ، قال: والحينُ يومُ القِيامَةِ، والحينُ: الغَدْوَةُ والعَشِيَّةُ. قال الله تعالى: {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون}. الرومُ: 17. ويُقال: عاملتُه مُحايَنَةً من الحين، وأَحْيَنَتُ بالمَكانِ: إذا أَقمتُ بِه حينًا، وحان حِينُ كذا أي قَرُبَ، قالت بُثَيْنَةُ: وإنَّ سُلُوِّيَ عن جَميلٍ لِساعَةٍ ..... مِنَ الدَّهْرِ ما حانَتْ ولا حانَ حِينُها وكما اختلَفَ أهلُ اللِّسانِ في الحِينِ فقد اختَلَفَ فيه أيضًا أهل عِلْمِ الفِقْهِ، فقال الفرّاءُ: الحِينُ حينانِ: حينٌ لا يُوقَفُ على حَدِّهِ والحينُ الذي ذَكَرَ اللهُ جَلَّ ثَناؤه: {تؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها}. إبراهيم: 25. ستّةُ أَشهُرٍ. وقال ابنُ العربي: الحينُ المَجهولُ لا يَتعلَّقُ به حُكْمٌ والحينُ المعلومُ هو الذي تتعلَّق به الأحكامُ ويَرتَبِطُ بِه التَكْليفُ، وأَكثَرُ المعلومِ سَنَةٌ ومالكُ يَرى في الأحكام والأيْمانِ أَعَمَّ الأسماءِ والأَزْمِنَةِ والشافعيُّ يَرى الأقلَّ، وأبو حَنيفةَ توسَّطَ فقال: ستةُ أشهرٍ. وقال مالكٌ رحمَهُ اللهُ: مَن حَلَفَ ألّا يَفعلَ شيئًا إلى حينٍ أو زَمانٍ أو دَهْرٍ فذلك كلُّه سَنَةٌ. وعن ابنِ عبّاسٍ وأصحابِ الرأيِ و عِكْرِمَةَ وسعيدٍ بنِ جُبيرٍ وعامرٍ الشَّعبيِّ وعبيدةَ في قوله تعالى: {تؤتي أُكُلَها كلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها} أنّه ستةُ أشهرٍ. وقال الأُوزاعيُّ وأبو عبيدٍ: الحينُ سِتَّةُ أشهرٍ. وليس عند الشافعيِّ في الحِينِ وقتٌ معلومٌ ولا للحِينِ غايةٌ، وقد يكون الحِينُ عندَه مُدَّةَ الدّنيا، وقال: لا نُحنِّثُهُ أَبَدًا، والورعُ أنْ يَقضيهِ قبلَ انقضاءِ يومٍ. وقال أبو ثَوْرٍ وغيرُه: الحينُ والزمانُ على ما تَحْتَمِلُه اللُّغةُ، يُقالُ: قد جئتُ مِن حينٍ ولَعَلَّهُ لمْ يَجِىءْ مِن نِصْفِ يومٍ. وبالجُملةِ الحِينُ له مَصارفُ ولم يَرَ الشافعيُّ تعيينَ مَحْمَلٍ مِن هذه المَحامِلِ لأنّه مُجْمَلٌ لم يُوضَعْ في اللُّغةِ لمَعْنًى مُعيَّنٍ. وقال بعضُ العلماءِ في قولِه تعالى: "إلى حين" فائدةُ بِشارةٍ إلى آدمَ عليه السلامُ لِيَعلَمَ أنّه غيرُ باقٍ فيها ومنتقلٌ إلى الجَنَةِ التي وُعِدَ بالرجوعِ إليْها، وهي لغيرِ آدمَ دالّةٌ على المَعادِ فحسب والله أعلم.{فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا} المفعولُ هنا واجبُ التقديمِ لأنّه ضميرٌ متصلٌ، والفاعلُ ظاهرٌ، وكلُّ ما كان كذا فهذا حكمُه. وقرأ حمزة: "فَأَزَالهما" والقِراءتان يُحتمل أن تكونا بمعنىً واحدٍ، وذلك أنَّ قراءةَ الجماعةِ "أَزَلَّهما" يجوز أَنْ تكونَ مِنْ " زَلَّ عن المكان" إذا تَنَحَّى عنه فتكونَ من الزوالِ كقراءَةِ حمزة، ونرُدُّ قراءَةَ الجماعة إلى قراءة حمزة، أو نَرُدُّ قراءَةَ حمزةَ إلى قراءَةِ الجماعة بأَنْ نقول: معنى أزالَهما أي: صَرَفَهُمَا عن طاعةِ الله تعالى فَأَوْقَعَهما في الزَلَّةِ لأنَّ إغواءَه وإيقاعَه لهُما في الزَلَةِ سببُ للزوالِ. ويُحتمل أن تُفيدَ كلُّ قراءةٍ معنًى مستقلاً، فقراءةُ الجماعةُ تُؤْذِنُ بإيقاعهما في الزَّلَّةِ، فيكونُ زلَّ استنزل، وقراءةُ حمزة تؤذن بتنحيتِهما عن مكانِهما ـ وقد تقدّم تفصيلٌ في هذا ـ ولا بُدَّ من المَجازِ في كِلْتا القراءتينِ لأنَّ الزَّلَلَ أصلُه في زَلَّة القَدَمِ، فاستُعْمِلَ هنا في زَلَّةِ الرأي، والتنحيةُ لا يَقْدِرُ عليها الشيطانُ، وإنّما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي في زَلَّة الرأي، والتَنْحِيَةُ لا يقْدِر عليها الشيطانُ، وإنّما يَقْدِرُ على الوسوسَةِ التي هي سببُ التنحيةِ. قولُهُ: "عنها" متعلِّقٌ بالفعلِ قبلَه. ومعنى "عَنْ" هنا السببيَّةُ إنْ أَعَدْنَا الضميرَ على "الشجرة" أي: أَوْقَعَهما في الزَّلَّةِ بسبب الشجرة. ويَجوز أن تكونَ على بابِها من المُجاوَزَةِ إنْ عاد الضميرُ على "الجَنَّةِ"، وهو الأظهرُ، لتَقَدُّمِ ذِكْرِها، وتَجيءُ عليه قراءةُ حَمزةَ واضِحَةً، ولا تَظهَرُ قراءتُهُ كلَّ الظهورِ على كونِ الضميرِ للشجرة. وقولُهُ: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} الفاءُ هنا واضحةُ السببيَّةِ. و"مِمَّا كَانَا" متعلِّقٌ بأَخْرَجَ، و"ما" يجوزُ أنْ تَكونَ مَوصولةً اسْمِيَّةً وأنْ تَكونَ نَكِرةً مَوْصوفَةً، أي: منَ المَكانِ أو النَعيمِ الذي كانا فيه، أو مِنْ مَكانٍ أو نعيمٍ كانا فيه، فالجُملةُ مِنْ كان واسْمِها وخَبَرِها لا مَحَلَّ لها على الأولِ ومحلُّهَا الجرُّ على الثاني، و"مِنْ" لابتداءِ الغايةِ.قولُهُ تعالى: "اهبِطوا" جُملَةٌ أمْرِيَّةٌ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالفِعلِ قبلَها، مَقولُ القول. وقُرئ "اهبُطوا" بِضمِّ الباءِ وهو كثيرٌ في غيرِ المُتعدِّي، وأمّا الماضي فهبَطَ بالفتحِ فقط، وجاء في مُضارِعِهِ اللُّغتان، والمَصْدَرُ: الهُبوطُ بالضمِّ، وهو النُزولُ. وقيلَ: الانتقالُ مُطلَقاً. وقيلَ: الهُبوطُ الخروجُ منِ البَلَدِ، وهو أيضاً الدخولُ فيها فهو من الأضداد. والضميرُ في "اهبِطوا" الظاهرُ أنّه لِجَماعَةٍ، وهم: آدَمَ وحوَّاءَ وإبليسَ. وقيل: إنه يعودُ لآدمَ وحواء، والمرادُ هما وذريتُهما، لأنّهما لمَّا كانا أصلَ الإِنسِ ومتشَعَّبَهم جُعِلاَ كأنّهما الإِنسُ كلُّهم، ويَدُلُّ عليه {قلنا اهبِطوا منها جميعاً} البقرة: 138.قولُه: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} هذه جملةٌ من مبتدأٍ وخبرٍ، وفيها قولان، أَصَحُّهُما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: اهبِطوا مُتعادِيْن والثاني: أنّها لا مَحَلَّ لها لأنَّها استئنافُ إخبارٍ بالعَداوة. واللامُ في "لِبعض" متعلقةٌ بـ "عَدُوّ" ومُقوِّيةٌ له. والبعضُ في الأصل مصدرُ بَعَضَ الشيءَ يَبْعَضُه إذا قَطَعَه، فأُطْلِقَ على القِطْعةِ منَ الناسِ لأنّها قِطعةٌ منه، وهو يُقابِلُ "كُلاًّ"، وحكمُهُ حكمُه في لُزومِ الإِضافةِ معنىً، وأنّه مَعرِفةٌ بِنيَّةِ الإِضافةِ فلا تَدْخُل عليه ألـ التعريف ـ كما هو شائع ـ وينتصِبُ عنه الحال. تقول: مَرَرْتُ ببعضٍ جالساً وله لفظٌ ومعنًى، وقد تقدَّم تقريرُ جميعِ ذلك في لفظِ "كُلّ". قولُه: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} هذه الجملةُ يَجوزُ فيها الوجهان المتقدِّمان في الجُملةِ قبلَها من الحالِيَّةِ والاستئنافِ، كأنّه قِيلَ: "اهبِطوا" مُتَعادِينَ ومستحقِّينَ الاستقرارَ. و"لكم" خبرٌ مقدَّمٌ. و"فِي الأرض" متعلِّقٌ بما تعَلَّقَ به الخبرُ من الاستقرار. وتعلُّقُه به على وجهين أحدُهما: أنّه حالٌ، والثاني: أنّه غيرُ حالٍ بَلْ كَسائِرِ الظُروفِ، ويجوزُ أنْ يكونَ {فِي الأرضِ} هو الخَبَرَ، و"لكم" متعلِّقٌ بما تَعَلَّقَ به.قولُه: {إلى حِينٍ} الظاهرُ أنّه مُتعلِّقٌ بِـ "متاعٌ"، وأنَّ المَسألةَ مِن بابِ الإِعمالِ لأنَّ كلَّ واحدٍ من قولِهِ: "مُسْتَقَرٌّ" وَ"مَتَاعٌ" يَطْلُبُ قولَه: "إلى حِينٍ" من جهةِ المعنى. وجاء الإِعمالُ هنا على مختارِ البصريين وهو إعمالُ الثاني وإهمالُ الأولِ فلذلك حُذِفَ منه، والتقديرُ: ولكم في الأرض مستقرٌّ إليه ومتاعٌ إلى حين. ويُقال: اسْتقرَّ وقَرَّ بمعنًى. و"المَتاعُ": البُلْغَةُ مأخوذةٌ من مَتَعَ النَهارُ أي:ارتفع. والحِينُ: القِطعةُ مِنَ الزمانِ طويلةً كانت أو قصيرةً، وقد كان لنا في ذلك تفصيلٌ قبلُ. | |
|