وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}. الْعَزِيمَةُ: تَتْمِيمُ الْعَقْدِ عَلَى الشَّيْءِ، يُقَالُ: عَزَمَ عَلَيْهِ يَعْزِمُ عُزْمًا (بِالضَّمِّ) وَعَزِيمَةً وَعَزِيمًا وَعَزَمَانًا، وَاعْتَزَمَ اعْتِزَامًا، وَعَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ، أَيْ أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ. قَالَ شِمْرٌ: الْعَزِيمَةُ وَالْعَزْمُ مَا عَقَدْتَ عَلَيْهِ نَفْسَكَ مِنْ أَمْرٍ أَنَّكَ فَاعِلُهُ. وَالطَّلَاقُ مِنْ طَلَقَتِ الْمَرْأَةُ تَطْلُقُ (عَلَى وَزْنِ نَصَرَ يَنْصُرُ) طَلَاقًا، فَهِيَ طَالِقٌ وَطَالِقَةٌ أَيْضًا. قَالَ الْأَعْشَى:
...........................................أَيَا جَارَتَا بِينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ
وَيَجُوزُ طَلُقَتْ (بِضَمِّ اللَّامِ) مِثْلَ عَظُمَ يَعْظُمُ، وَأَنْكَرَهُ الْأَخْفَشُ. وَالطَّلَاقُ حَلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ، وَأَصْلُهُ الِانْطِلَاقُ، وَالْمُطَلَّقَاتُ الْمُخْلَّيَاتُ، وَالطَّلَاقُ: التَّخْلِيَةُ، يُقَالُ: نَعْجَةٌ طَالِقٌ، وَنَاقَةٌ طَالِقٌ، أَيْ مُهْمَلَةٌ قَدْ تُرِكَتْ فِي الْمَرْعَى لَا قَيْدَ عَلَيْهَا وَلَا رَاعِيَ، وَبَعِيرٌ طُلُقٌ (بِضَمِّ الطَّاءِ وَاللَّامِ) غَيْرُ مُقَيَّدٍ، وَالْجَمْعُ أَطْلَاقٌ، وَحُبِسَ فُلَانٌ فِي السِّجْنِ طَلْقًا أَيْ بِغَيْرِ قَيْدٍ، وَالطَّالِقُ مِنَ الْإِبِلِ: الَّتِي يَتْرُكُهَا الرَّاعِي لِنَفْسِهِ لَا يَحْتَلِبُهَا عَلَى الْمَاءِ، يُقَالُ: اسْتَطْلَقَ الرَّاعِي نَاقَةً لِنَفْسِهِ. فَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ الْمُخَلَّى سَبِيلُهَا بِمَا سُمِّيَتْ بِهِ النَّعْجَةُ أَوِ النَّاقَةُ الْمُهْمَلُ أَمْرُهَا. وَقِيلَ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ طَلَقِ الْفَرَسِ، وَهُوَ ذَهَابُهُ شَوْطًا لَا يُمْنَعُ، فَسُمِّيَتِ الْمَرْأَةُ الْمُخَلَّاةُ طَالِقًا لَا تُمْنَعُ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مَمْنُوعَةً.
قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُطَلَّقُ بِمُضِيِّ مُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، كَمَا قَالَ مَالِكٌ، مَا لَمْ يَقَعْ إِنْشَاءُ تَطْلِيقٍ بَعْدَ الْمُدَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: {سَمِيعٌ} وَسَمِيعٌ يَقْتَضِي مَسْمُوعًا بَعْدَ الْمُضِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: "سَمِيعٌ" لِإِيلَائِهِ، "عَلِيمٌ" بِعَزْمِهِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. وَرَوَى سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلِ يُولِي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شي حَتَّى تَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَيُوقَفُ، فَإِنْ فَاءَ وَإِلَّا طَلَّقَ. قَالَ الْقَاضِي ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَتَحْقِيقُ الْأَمْرِ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ عِنْدَنَا:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ" بَعْدَ انْقِضَائِهَا" فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". وَتَقْدِيرُهَا عِنْدَهُمْ:" لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ "فِيهَا" فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ "بِتَرْكِ الْفَيْئَةِ فِيهَا، يُرِيدُ مُدَّةَ التَّرَبُّصِ فِيهَا "فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ". وَهَذَا احْتِمَالٌ مُتَسَاوٍ، وَلِأَجْلِ تَسَاوِيهِ تَوَقَّفَتِ الصَّحَابَةُ فِيهِ.
والإشارةُ في تحقيق الآيتين أنْ يعلمَ العبدُ أنّ اللهَ لا يُضيعُ حقَّ أحدٍ من عباده، لا على نفسِه ولا على غيره، فلمّا تقاصر لسانُ الزوجةِ لكونِها أسيرةً فى يَدِ الزوج فالله تعالى تولّى الأمرَ بمراعاةِ حقِّها فأمرَ الزوجَ بالرجوعِ إليها أو تسريحِها.
وفي تعيين تربُّصِ أربعةِ أشهرٍ في الفيء إشارةٌ عجيبةٌ وهي أنّها مدَّةُ تعلُّقِ الروحِ بالجنين، كما قال عليه الصلاةُ والسلام: ((إنّ أحدَكم يُجمَعُ خَلْقُه)) أيْ يحرز ويقرّ مادّةُ خلْقِه ((في بطنِ أمِّه)) أي في رَحِمِها من قَبيلِ ذِكْرِ الكُلِّ وإرادة الجزء ((أربعين يومًا)) وعن ابن مسعود رضي اللهُ عنه أنّ النطفةَ إذا وقعت فى الرحم فأراد اللهُ أنْ يَخلُق منها تُنْشَرُ في بَشَرةَ المرأةِ تحتَ كلِّ ظُفْرٍ وشعرةٍ فتمكُثُ أربعينَ ليلةً ثمّ تَنْزِلُ دَمًا في الرَحِمِ فذاك جَمْعُها ((ثمّ تكون علقةً)) وهى قطعةُ دَمٍ غليظٍ جامدٍ ((مثلَ ذلك. ثمّ تكونُ مُضغَةً)) وهي قطعةُ لحمٍ قَدْرَ ما تُمضَغُ ((مثل ذلك. ثمّ يُرسِلُ اللهَ إليه المَلَكَ فينفُخ فيه الروح)) وهذا يدلُّ على أنَّ التصوير يكون في الأربعين الثالثةِ ((ويُؤمَرُ بأربعِ كَلِماتٍ)) يعني يؤمَرُ المَلَكُ بكتابة أربعٍ قضاها وهو معطوف على قوله تكون علقةً لأنّ الكتابةَ في الأربعين الثانية ((يُكتَبُ رِزقُه وأجلَه وعمله وشقي أو سعيد)).
قوله تعالى: {عَزَمُواْ الطلاق} في نصبِ "الطلاق" وجهان، أحدُهما: أنه على إسقاطِ الخافضِ، لأنَّ "عزم" يتعدَّى بـ "على"، قال:
عَزَمْتُ على إقامةِ ذي صباحٍ ................. لأمرٍ ما يُسَوَّدُ مَنْ يسَودُ
والثاني: أن تَضَمِّن "عَزَمَ" معنى نَوَى، فينتصبَ مفعولاً به.
قوله: {فَإِنَّ الله} ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعوه. وقرأ عبد الله: "فإن فاؤوا فيهنَّ" وقرأ أُبَيّ "فيها"، والضميرُ للأَشْهُرِ.
وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطلاقَ إنما تكونُ بعد مضيِّ أربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يَرى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مدة أربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المقتدِّمَةُ احتاج إلى تأويلِ الآيةِ.