عبد القادر الأسود
¤° صاحب الإمتياز °¤
عدد المساهمات : 3986 تاريخ التسجيل : 08/09/2011 العمر : 76 المزاج : رايق الجنس :
| موضوع: فيض العليم من معاني الذكر الحكيم ، سورة البقرة ، :الآية: 30 الجمعة سبتمبر 14, 2012 7:27 pm | |
| وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) قَوْلُهُ تَعَالَى:{إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} جَاعِلٌ: هُنَا بِمَعْنَى خَالِقٌ، وَالْأَرْضُ قِيلَ إِنَّهَا مَكَّةُ. رَوَى ابْنُ سَابِطٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((دُحِيَتِ الْأَرْضُ مِنْ مَكَّةَ)) وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ أُمَّ الْقُرَى، قَالَ: وَقَبْرُ نُوحٍ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالرُّكْنِ والمقام. و"خَلِيفَةً" يَخْلُفُ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "خَلِيفَةً" بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مُخْلَفٍ، كَمَا يُقَالُ: ذَبِيحَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ. وَالْخَلَفُ (بِالتَّحْرِيكِ) مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبِتَسْكِينِهَا مِنَ الطَّالِحِينَ. وَالْمَعْنِيُّ بِالْخَلِيفَةِ هُنَا فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَجَمِيعِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي إِمْضَاءِ أَحْكَامِهِ وَأَوَامِرِهِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ رَسُولٍ إِلَى الْأَرْضِ، كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انبئا كَانَ مُرْسَلًا؟ قَالَ: (نَعَمْ) الْحَدِيثَ وَيُقَالُ: لِمَنْ كان رسولا ولم يكن فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ؟ فَيُقَالُ: كَانَ رَسُولًا إِلَى وَلَدِهِ، وَكَانُوا أَرْبَعِينَ وَلَدًا فِي عِشْرِينَ بَطْنًا فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَتَوَالَدُوا حَتَّى كَثُرُوا، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً} النساء: 1. وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ. وَعَاشَ تِسْعَمِئَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةٍ، هَكَذَا ذَكَرَ أَهْلُ التَّوْرَاةِ. وَرُوِيَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ عَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وهَذِهِ الْآيَةُ أَصْلٌ فِي نَصْبِ إِمَامٍ وَخَلِيفَةٍ يُسْمَعُ لَهُ وَيُطَاعُ، لِتَجْتَمِعَ بِهِ الْكَلِمَةُ، وَتَنْفُذُ بِهِ أَحْكَامُ الْخَلِيفَةِ. وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ بَيْنَ الْأُمَّةِ وَلَا بَيْنَ الْأَئِمَّةِ إِلَّا مَا رُوِيَ عَنِ الْأَصَمِّ (الأصم: من كبار المعتزلة واسمه أبو بكر) حَيْثُ كَانَ عَنِ الشَّرِيعَةِ أَصَمَّ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ وَاتَّبَعَهُ عَلَى رَأْيِهِ وَمَذْهَبِهِ، قَالَ: إِنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فِي الدِّينِ بَلْ يَسُوغُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ متى أقاموا حجهم وَجِهَادَهُمْ، وَتَنَاصَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَبَذَلُوا الْحَقَّ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَقَسَمُوا الْغَنَائِمَ وَالْفَيْءَ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى أَهْلِهَا، وَأَقَامُوا الْحُدُودَ عَلَى مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، أَجْزَأَهُمْ ذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا يَتَوَلَّى ذَلِكَ. وَدَلِيلُنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} ص: 26، وَقَالَ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} النور: 55. أَيْ يَجْعَلُ مِنْهُمْ خُلَفَاءَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيِ. وَأَجْمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى تَقْدِيمِ الصِّدِّيقِ بَعْدَ اخْتِلَافٍ وَقَعَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ فِي التَّعْيِينِ، حَتَّى قَالَتِ الْأَنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ، فَدَفَعَهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَالْمُهَاجِرُونَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالُوا لَهُمْ: إِنَّ الْعَرَبَ لَا تَدِينُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَرَوَوْا لَهُمُ الْخَبَرَ فِي ذَلِكَ، فَرَجَعُوا وَأَطَاعُوا لِقُرَيْشٍ. فَلَوْ كَانَ فَرْضُ الْإِمَامَةِ غَيْرَ وَاجِبٍ لَا فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ لَمَا سَاغَتْ هَذِهِ الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاوَرَةُ عَلَيْهَا، وَلَقَالَ قَائِلٌ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ لَا فِي قُرَيْشٍ وَلَا فِي غَيْرِهِمْ، فَمَا لِتَنَازُعِكُمْ وَجْهٌ وَلَا فَائِدَةٌ فِي أَمْرٍ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ثُمَّ إِنَّ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ عَهِدَ إِلَى عُمَرَ فِي الْإِمَامَةِ، وَلَمْ يقل له أحدٌ هذا أمرٌ غيرُ وَاجِبٍ عَلَيْنَا وَلَا عَلَيْكَ، فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا وَأَنَّهَا رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ الَّذِي بِهِ قِوَامُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. وَقَالَتِ الرَّافِضَةُ: يَجِبُ نَصْبُهُ عَقْلًا، وَإِنَّ السَّمْعَ إِنَّمَا وَرَدَ عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ لِقَضِيَّةِ الْعَقْلِ، فَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْإِمَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُدْرَكٌ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ دُونَ الْعَقْلِ. وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْعَقْلَ لَا يُوجِبُ وَلَا يَحْظُرُ وَلَا يُقَبِّحُ وَلَا يُحَسِّنُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ لَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ، وَهَذَا وَاضِحٌ. فَإِنْ قِيلَ إِذَا سُلِّمَ أنَّ طريقَ وُجوبِ الإمامةِ السمعُ، فخبِّرونا هَلْ يَجِبُ مِنْ جِهَةِ السَّمْعِ بِالنَّصِّ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ جِهَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمْ مِنْ جِهَةِ اخْتِيَارِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ لَهُ، أَمْ بِكَمَالِ خِصَالِ الْأَئِمَّةِ فِيهِ، وَدُعَاؤُهُ مَعَ ذَلِكَ إِلَى نَفْسِهِ كَافٍ فِيهِ؟. فَالْجَوَابُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ، فَذَهَبَتِ الْإِمَامِيَّةُ وَغَيْرُهَا إِلَى أَنَّ الطَّرِيقَ الَّذِي يُعْرَفُ بِهِ الْإِمَامُ هُوَ النَّصُّ مِنَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ وَلَا مَدْخَلَ لِلِاخْتِيَارِ فِيهِ. وَعِنْدَنَا: النَّظَرُ طَرِيقٌ إِلَى مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ طَرِيقٌ أَيْضًا إِلَيْهِ، وَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَالُوا لَا طَرِيقَ إِلَيْهِ إِلَّا النَّصَّ بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ أَنَّ الْقِيَاسَ وَالرَّأْيَ وَالِاجْتِهَادَ بَاطِلٌ لا يُعرَفُ به شيءٌ أَصْلًا، وَأَبْطَلُوا الْقِيَاسَ أَصْلًا وَفَرْعًا. ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: فِرْقَةٍ تَدَّعِي النَّصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَفِرْقَةٍ تَدَّعِي النَّصَّ عَلَى الْعَبَّاسِ، وَفِرْقَةٍ تَدَّعِي النَّصَّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَقْدِ النَّصِّ وَعَدَمِهِ عَلَى إِمَامٍ بِعَيْنِهِ هُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ فَرَضَ عَلَى الْأُمَّةِ طَاعَةَ إِمَامٍ بِعَيْنِهِ بِحَيْثُ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ لَعُلِمَ ذَلِكَ، لِاسْتِحَالَةِ تَكْلِيفِ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا طَاعَةَ اللَّهِ فِي غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ التَّكْلِيفِ، وَإِذَا وَجَبَ الْعِلْمُ بِهِ لَمْ يَخْلُ ذَلِكَ الْعِلْمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهُ أَدِلَّةَ الْعُقُولِ أَوِ الْخَبَرَ، وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْإِمَامَةِ لِشَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَكَذَلِكَ ليس في الخَبرِ مَا يُوجِبُ الْعِلْمَ بِثُبُوتِ إِمَامٍ مُعَيَّنٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْخَبَرَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ تَوَاتُرًا أَوْجَبَ الْعِلْمَ ضَرُورَةً أَوِ اسْتِدْلَالًا، أَوْ يَكُونَ مِنْ أَخْبَارِ الْآحَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُهُ التَّوَاتُرَ الْمُوجِبَ لِلْعِلْمِ ضَرُورَةً أَوْ دَلَالَةً، إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ كُلُّ مُكَلَّفٍ يَجِدُ مِنْ نَفْسِهِ الْعِلْمَ بِوُجُوبِ الطَّاعَةِ لِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دِينِ اللَّهِ عَلَيْهِ، كَمَا أَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ عَلِمَ أَنَّ مِنْ دِينِ اللَّهِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَصَوْمَ رَمَضَانَ، وَحَجَّ الْبَيْتِ وَنَحْوَهَا، وَلَا أَحَدَ يَعْلَمُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ ضَرُورَةً، فَبَطَلَتْ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَخْبَارِ الْآحَادِ لِاسْتِحَالَةِ وُقُوعِ الْعِلْمِ بِهِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَى نَقْلِ النَّصِّ عَلَى الْإِمَامِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَجَبَ إِثْبَاتُ إِمَامَةِ أَبِي بَكْرٍ وَالْعَبَّاسِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَوْمًا يَنْقُلُونَ النَّصَّ صَرِيحًا فِي إِمَامَتِهِ، وَإِذَا بَطَلَ إِثْبَاتُ الثَّلَاثَةِ بِالنَّصِّ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ـ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ ـ كَذَلِكَ الْوَاحِدُ، إِذْ لَيْسَ أَحَدُ الْفِرَقِ أَوْلَى بِالنَّصِّ مِنَ الْآخَرِ. وَإِذَا بَطَلَ ثُبُوتُ النَّصِّ لِعَدَمِ الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ إِلَيْهِ ثَبَتَ الِاخْتِيَارُ وَالِاجْتِهَادُ. فَإِنْ تَعَسَّفَ مُتَعَسِّفٌ وَادَّعَى التَّوَاتُرَ وَالْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِالنَّصِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلُوا عَلَى الْفَوْرِ بِنَقِيضِ دَعْوَاهُمْ فِي النَّصِّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَبِأَخْبَارٍ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٍ تَقُومُ أَيْضًا فِي جُمْلَتِهَا مَقَامَ النَّصِّ، ثُمَّ لَا شَكَّ فِي تَصْمِيمِ مَنْ عَدَا الْإِمَامِيَّةَ عَلَى نَفْيِ النَّصِّ، وَهُمُ الْخَلْقُ الْكَثِيرُ وَالْجَمُّ الْغَفِيرُ. وَالْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ لَا يَجْتَمِعُ عَلَى نَفْيِهِ مَنْ يَنْحَطُّ عَنْ مِعْشَارِ أَعْدَادِ مُخَالِفِي الْإِمَامِيَّةِ، وَلَوْ جَازَ رَدُّ الضَّرُورِيِّ فِي ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يُنْكِرَ طَائِفَةٌ بَغْدَادَ وَالصِّينَ الْأَقْصَى وَغَيْرَهُمَا. وفِي رَدِّ الْأَحَادِيثِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا الْإِمَامِيَّةُ فِي النَّصِّ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ كَفَرَتْ بِهَذَا النَّصِّ وَارْتَدَّتْ، وَخَالَفَتْ أَمْرَ الرَّسُولِ عِنَادًا، مِنْهَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالَاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ)). قَالُوا: وَالْمَوْلَى فِي اللُّغَةِ بِمَعْنَى أَوْلَى، فَلَمَّا قَالَ: ((فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ)) بِفَاءِ التَّعْقِيبِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ "مَوْلَى" أَنَّهُ أَحَقُّ وَأَوْلَى. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِذَلِكَ الْإِمَامَةَ وَأَنَّهُ مُفْتَرَضُ الطَّاعَةِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ لِعَلِيٍّ: ((أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي)). قَالُوا: وَمَنْزِلَةُ هَارُونَ مَعْرُوفَةٌ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ مُشَارِكًا لَهُ فِي النُّبُوَّةِ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ، وَكَانَ أَخًا لَهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ، وَكَانَ خَلِيفَةً، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخِلَافَةُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ عَلَى مَا يَأْتِي ذِكْرُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.وَالْجَوَابُ عَنِ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَوَاتِرٍ، وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي صِحَّتِهِ، وَقَدْ طَعَنَ فِيهِ أَبُو دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ وَأَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ، وَاسْتَدَلَّا عَلَى بُطْلَانِهِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مُزَيْنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَغِفَارُ وَأَسْلَمُ مَوَالِي دُونَ النَّاسِ كُلِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مَوْلًى دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)). قَالُوا: فَلَوْ كَانَ قَدْ قَالَ: ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ)) لَكَانَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ كَذِبًا. جَوَابٌ ثَانٍ: وَهُوَ أَنَّ الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا رَوَاهُ ثِقَةٌ عَنْ ثِقَةٍ فَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فَضِيلَتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَوْلَى بِمَعْنَى الْوَلِيِّ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْخَبَرِ: مَنْ كُنْتُ وَلِيَّهُ فَعَلِيٌّ وَلِيُّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} التحريم: 4. أَيْ وَلِيُّهُ. وَكَانَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْخَبَرِ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّ ظَاهِرَ عَلِيٍّ كَبَاطِنِهِ، وَذَلِكَ فَضِيلَةٌ عَظِيمَةٌ لِعَلِيٍّ. جَوَابٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أُسَامَةَ وَعَلِيًّا اخْتَصَمَا، فَقَالَ عَلِيٌّ لِأُسَامَةَ: أَنْتَ مَوْلَايَ. فَقَالَ: لَسْتُ مَوْلَاكَ، بَلْ أَنَا مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ)). جَوَابٌ رَابِعٌ: وَهُوَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الْإِفْكِ فِي عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: النِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ. شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَوَجَدَ أَهْلُ النِّفَاقِ مَجَالًا فَطَعَنُوا عَلَيْهِ وَأَظْهَرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا الْمَقَالَ رَدًّا لِقَوْلِهِمْ، وَتَكْذِيبًا لَهُمْ فِيمَا قَدِمُوا عَلَيْهِ مِنَ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَالطَّعْنِ فِيهِ، وَلِهَذَا مَا رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا كُنَّا نَعْرِفُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا بِبُغْضِهِمْ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَلَا خِلَافَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُرِدْ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ هَارُونَ مَاتَ قَبْلَ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ـ عَلَى مَا يَأْتِي مِنْ بَيَانِ وَفَاتَيْهِمَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ـ وَمَا كَانَ خَلِيفَةً بَعْدَهُ وَإِنَّمَا كَانَ الْخَلِيفَةُ يُوشَعَ بْنَ نُونٍ، فَلَوْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: ((أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى)) الْخِلَافَةَ لَقَالَ: أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ يُوشَعَ مِنْ مُوسَى، فَلَمَّا لَمْ يَقُلْ هَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنِّي اسْتَخْلَفْتُكَ عَلَى أَهْلِي فِي حَيَاتِي وَغَيْبُوبَتِي عَنْ أَهْلِي، كَمَا كَانَ هَارُونُ خَلِيفَةَ مُوسَى عَلَى قَوْمِهِ لَمَّا خَرَجَ إِلَى مناجاة رَبِّهِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ خَرَجَ عَلَى سَبَبٍ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الْمَدِينَةِ عَلَى أَهْلِهِ وَقَوْمِهِ، فَأَرْجَفَ بِهِ أَهْلُ النِّفَاقِ وَقَالُوا: إِنَّمَا خَلَّفَهُ بُغْضًا وَقِلًى لَهُ، فَخَرَجَ عَلِيٌّ فَلَحِقَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ قَالُوا كَذَا وَكَذَا! فَقَالَ: ((كَذَبُوا بَلْ خَلَّفْتُكَ كَمَا خَلَّفَ مُوسَى هَارُونَ)). وَقَالَ: ((أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى)). وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِخْلَافَ عَلَى زَعْمِهِمْ فَقَدْ شَارَكَ عَلِيًّا فِي هَذِهِ الْفَضِيلَةِ غَيْرُهُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَخْلَفَ فِي كُلِّ غَزَاةٍ غَزَاهَا رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ: ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِهِ، عَلَى أَنَّ مَدَارَ هَذَا الْخَبَرِ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَهُوَ خَبَرٌ وَاحِدٌ. وَرُوِيَ فِي مُقَابَلَتِهِ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ مَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَنْفَذَ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ قِيلَ لَهُ: أَلَا تُنْفِذُ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ فَقَالَ: ((إِنَّهُمَا لَا غِنَى بِي عَنْهُمَا إِنَّ مَنْزِلَتَهُمَا مِنِّي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنَ الرَّأْسِ)). وَقَالَ: ((هُمَا وَزِيرَايَ فِي أَهْلِ الْأَرْضِ)). وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: ((أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى)). وَهَذَا الْخَبَرُ وَرَدَ ابْتِدَاءً، وَخَبَرُ عَلِيٍّ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَبُو بَكْرٍ أَوْلَى مِنْهُ بِالْإِمَامَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا يَكُونُ بِهِ الْإِمَامُ إِمَامًا وَذَلِكَ فِي ثَلَاثِ طُرُقٍ، أَحَدِهَا: النَّصُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِيهِ، وَقَالَ بِهِ أَيْضًا الْحَنَابِلَةُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَبَكْرٌ ابْنُ أُخْتِ عَبْدِ الْوَاحِدِ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْخَوَارِجِ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى أَبِي بَكْرٍ بِالْإِشَارَةِ، وَأَبُو بَكْرٍ عَلَى عُمَرَ. فَإِذَا نَصَّ الْمُسْتَخْلِفُ عَلَى وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ كَمَا فَعَلَ الصِّدِّيقُ، أَوْ عَلَى جَمَاعَةٍ كَمَا فَعَلَ عُمَرُ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي، وَيَكُونُ التَّخْيِيرُ إِلَيْهِمْ فِي تَعْيِينِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي تَعْيِينِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. الطَّرِيقِ الثَّالِثِ: إِجْمَاعُ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا مَاتَ إِمَامُهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ إِمَامٌ وَلَا اسْتَخْلَفَ فَأَقَامَ أَهْلُ ذَلِكَ الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ حَضْرَةُ الْإِمَامِ وَمَوْضِعُهُ إِمَامًا لِأَنْفُسِهِمُ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ وَرَضَوْهُ فَإِنَّ كُلَّ مَنْ خَلْفَهُمْ وَأَمَامَهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْآفَاقِ يَلْزَمُهُمُ الدُّخُولُ فِي طَاعَةِ ذَلِكَ الْإِمَامِ، إِذَا لَمْ يَكُنِ الْإِمَامُ مُعْلِنًا بِالْفِسْقِ وَالْفَسَادِ، لأنها دعوة مُحِيطَةٌ بِهِمْ تَجِبُ إِجَابَتُهَا وَلَا يَسَعُ أَحَدٌ التَّخَلُّفَ عَنْهَا لِمَا فِي إِقَامَةِ إِمَامَيْنِ مِنَ اخْتِلَافِ الْكَلِمَةِ وَفَسَادِ ذَاتِ الْبَيْنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ (لا يكون في قلبه غشٌّ ونفاق) عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطَةٌ)). فَإِنْ عَقَدَهَا وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ فَذَلِكَ ثَابِتٌ وَيَلْزَمُ الْغَيْرُ فِعْلَهُ، خِلَافًا لِبَعْضِ النَّاسِ حَيْثُ قَالَ: لَا تَنْعَقِدُ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ وَدَلِيلُنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَقَدَ الْبَيْعَةَ لِأَبِي بَكْرٍ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ ذَلِكَ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَوَجَبَ أَلَّا يُفْتَقَرَ إِلَى عَدَدٍ يَعْقِدُونَهُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ. ومَنِ انْعَقَدَتْ لَهُ الْإِمَامَةُ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَقَدْ لَزِمَتْ، وَلَا يَجُوزُ خَلْعُهُ مِنْ غَيْرِ حَدَثِ وَتَغَيُّرِ أَمْرٍ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. فَإِنْ تَغَلَّبَ مَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الْإِمَامَةِ وَأَخَذَهَا بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ فَقَدْ قِيلَ إِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ طَرِيقًا رَابِعًا، وَقَدْ سُئِلَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التُّسْتَرِيُّ: مَا يَجِبُ عَلَيْنَا لِمَنْ غَلَبَ عَلَى بِلَادِنَا وَهُوَ إِمَامٌ؟ قَالَ: تُجِيبُهُ وَتُؤَدِّي إِلَيْهِ مَا يُطَالِبُكَ مِنْ حَقِّهِ، وَلَا تُنْكِرُ فِعَالَهُ وَلَا تَفِرُّ مِنْهُ، وَإِذَا ائْتَمَنَكَ عَلَى سِرٍّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ لَمْ تُفْشِهِ. وَلَوْ وَثَبَ عَلَى الْأَمْرِ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ مِنْ غَيْرِ مَشُورَةٍ وَلَا اخْتِيَارٍ وَبَايَعَ لَهُ النَّاسُ تَمَّتْ لَهُ الْبَيْعَةُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وقالوا ثمّةَ أَحَدَ عَشَرَ شرطًا يجب تحقُّقها في الإمام وهي: الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مِنْ صَمِيمِ قُرَيْشٍ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ)). وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيه. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ مُجْتَهِدًا لَا يَحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ فِي الِاسْتِفْتَاءِ فِي الْحَوَادِثِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ ذَا خِبْرَةٍ وَرَأْيٍ حَصِيفٍ بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَتَدْبِيرِ الْجُيُوشِ وَسَدِّ الثُّغُورِ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ (بيضةُ الإسلام: جماعتُهم) وَرَدْعِ الْأُمَّةِ وَالِانْتِقَامِ مِنَ الظَّالِمِ وَالْأَخْذِ لِلْمَظْلُومِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا تَلْحَقُهُ رِقَّةٌ فِي إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَلَا فَزَعٌ مِنْ ضَرْبِ الرِّقَابِ وَلَا قَطْعِ الْأَبْشَارِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا كُلِّهِ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كُلُّهُ مُجْتَمِعًا فِيهِ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوَلِّي الْقُضَاةَ وَالْحُكَّامَ، وَلَهُ أَنْ يُبَاشِرَ الْفَصْلَ وَالْحُكْمَ، وَيَتَفَحَّصَ أُمُورَ خُلَفَائِهِ وَقُضَاتِهِ، وَلَنْ يَصْلُحَ لِذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا مَنْ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ كُلِّهِ قَيِّمًا بِهِ. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ حُرًّا، وهو ما فعله سلطان العلماء العزُّ بن عبد السلام رحمه الله بالمماليك حيث أفتى بأنه لا يجوز لهم أن يحكموا إلّا بعد أن يباعوا ويشتروا أنفسهم ليصبحوا أحراراً وقد نفذ ذلك بهم فاشتروا حريَّتَهم بمبلغ حدّدها ودفعت إلى بيت مال المسلمين. السادسُ: الإِسْلَامِ فلا يجوز أن يحكم المسلمين من لم يكن مسلماً. السَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ ذَكَرًا فالمرأةُ لا تصلح للحكم لأسباب تتعلق بتركيبة جسمها، وغلبة العاطفة عل حالها. وَقد أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ إِمَامًا وَإِنَ اخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ كَوْنِهَا قَاضِيَةً فِيمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهَا فِيهِ. الثامن: سَلامَةُ الْأَعْضَاءِ. التَّاسِعُ: أَنْ يَكُونَ بَالِغًا. الْعَاشِرُ: أن يكون عَاقِلًا، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ. الْحَادِي عَشَرَ: أَنْ يَكُونَ عَدْلًا، لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُعْقَدَ الْإِمَامَةُ لِفَاسِقٍ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَفْضَلِهِمْ فِي الْعِلْمِ، لِقَوْلِهِ عليه الصلاةُ والسلام: ((أئمَّتُكم شُفعاؤكم فانظروا بِمَنْ تَسْتَشْفِعُونَ)). وَفِي التَّنْزِيلِ فِي وَصْفِ طَالُوتَ: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} البقرة: 247. فَبَدَأَ بِالْعِلْمِ ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقُوَّةِ وَسَلَامَةِ الْأَعْضَاءِ. وَقَوْلُهُ: "اصْطَفاهُ" مَعْنَاهُ اخْتَارَهُ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى شَرْطِ النَّسَبِ. وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا مِنَ الزَّلَلِ وَالْخَطَأِ، وَلَا عَالِمًا بِالْغَيْبِ، وَلَا أَفَرَسَ الْأُمَّةِ وَلَا أَشْجَعَهُمْ، وَلَا أَنْ يَكُونَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَقَطْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ قُرَيْشٍ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ قد انعقد على إمامةِ أبي بكرٍ وَعُثْمَانَ وَلَيْسُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ. ويَجُوزُ نَصْبُ الْمَفْضُولِ مَعَ وُجُودِ الْفَاضِلِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ وَأَلَّا يَسْتَقِيمَ أَمْرُ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا نُصِبَ لِدَفْعِ الْعَدُوِّ وَحِمَايَةِ الْبَيْضَةِ وَسَدِّ الْخَلَلِ وَاسْتِخْرَاجِ الْحُقُوقِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَجِبَايَةِ الْأَمْوَالِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَقِسْمَتِهَا عَلَى أَهْلِهَا. فَإِذَا خِيفَ بِإِقَامَةِ الْأَفْضَلِ الْهَرَجُ وَالْفَسَادُ وَتَعْطِيلُ الْأُمُورِ الَّتِي لِأَجْلِهَا يُنَصَّبُ الْإِمَامُ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا ظَاهِرًا فِي الْعُدُولِ عَنِ الْفَاضِلِ إِلَى الْمَفْضُولِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا عِلْمُ عُمَرَ وَسَائِرِ الْأُمَّةِ وَقْتَ الشُّورَى بِأَنَّ السِّتَّةَ الذين حددهم عمر رضي الله عنه ليختاروا أحدهم وفِيهِمْ فَاضِلٌ وَمَفْضُولٌ، وَقَدْ أَجَازَ الْعَقْدَ لِكُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إِذَا أَدَّى الْمَصْلَحَةَ إِلَى ذَلِكَ وَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارِ أَحَدٍ عَلَيْهِمْ، وذلك في مرضه الذي توفي فيه لما طعنه المجوسي الحاقد أبو لؤلؤةإذا نُصِّبّ الْإِمَامُ ثُمَّ فَسَقَ بَعْدَ انْبِرَامِ الْعَقْدِ فَقَالَ الْجُمْهُورُ: إِنَّهُ تَنْفَسِخُ إِمَامَتُهُ وَيُخْلَعُ بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ إِنَّمَا يُقَامُ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَحِفْظِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْمَجَانِينِ وَالنَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْفِسْقِ يُقْعِدُهُ عَنِ الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ وَالنُّهُوضِ بِهَا. فَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا أَدَّى إِلَى إِبْطَالِ مَا أُقِيمَ لِأَجْلِهِ، أَلَا تَرَى فِي الِابْتِدَاءِ إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْقَدَ لِلْفَاسِقِ لِأَجْلِ أَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى إِبْطَالِ مَا أُقِيمَ لَهُ، وَكَذَلِكَ هَذَا مِثْلُهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَنْخَلِعُ إِلَّا بِالْكُفْرِ أَوْ بِتَرْكِ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ أَوِ التَّرْكِ إِلَى دُعَائِهَا أو شيءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بن الصامت رضي الله عنه: (وَأَلَّا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، قَالَ: ((إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فيه برهان)).و (بواحاً) أي جهارا، من باح بالشيء يبوح به إذا أعلنه. وَفِي حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: ((لَا مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلَاةَ)) الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُمَا مُسْلِمٌ. وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: ((لَا مَا صَلَّوْا)). أَيْ مَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ وَأَنْكَرَ بِقَلْبِهِ. أَخْرَجَهُ أَيْضًا مُسْلِمٌ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْلَعَ نَفْسَهُ إِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ نَقْصًا يُؤَثِّرُ فِي الْإِمَامَةِ. فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَجِدْ نَقْصًا فَهَلْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ وَيَعْقِدَ لِغَيْرِهِ؟ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَإِنْ فَعَلَ لَمْ تَنْخَلِعْ إِمَامَتُهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إِذَا عَزَلَ نَفْسَهُ انْعَزَلَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَقِيلُونِي أَقِيلُونِي. وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ: لَا نُقِيلُكَ وَلَا نَسْتَقِيلُكَ، قَدَّمَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا فَمَنْ ذَا يُؤَخِّرُكَ! رَضِيَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا فَلَا نَرْضَاكَ! فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لَأَنْكَرَتِ الصَّحَابَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَلَقَالَتْ لَهُ: لَيْسَ لَكَ أَنْ تَقُولَ هَذَا، وَلَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْعَلَهُ. فَلَمَّا أَقَرَّتْهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ، إِذَا انْعَقَدَتِ الْإِمَامَةُ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ أَوْ بِوَاحِدٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ كَافَّةً مُبَايَعَتُهُ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِقَامَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ تَأَبَّى عَنِ الْبَيْعَةِ لِعُذْرٍ عُذِرَ، وَمَنْ تَأَبَّى لِغَيْرِ عُذْرٍ جُبِرَ وَقُهِرَ، لِئَلَّا تَفْتَرِقَ كَلِمَةُ الْمُسْلِمِينَ. وَإِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَالْخَلِيفَةُ الْأَوَّلُ وَقُتِلَ الْآخَرُ، وَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ هَلْ هُوَ مَحْسُوسٌ أَوْ مَعْنًى فَيَكُونُ عَزْلُهُ قَتْلَهُ وَمَوْتَهُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا)). رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْرَجَهُ مسلم. وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: ((وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنَ اسْتَطَاعَ فَإِنْ جَاءَ آخر ينازعه فاضربوا عُنُقَ الْآخَرِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا، وَمِنْ حَدِيثِ عَرْفَجَةَ: ((فَاضْرِبُوهُ بِالسَّيْفِ كَائِنًا مَنْ كَانَ)). وَهَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى مَنْعِ إِقَامَةِ إِمَامَيْنِ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى النِّفَاقِ وَالْمُخَالَفَةِ وَالشِّقَاقِ وَحُدُوثِ الْفِتَنِ وَزَوَالِ النِّعَمِ، لَكِنْ إِنْ تَبَاعَدَتِ الْأَقْطَارُ وَتَبَايَنَتْ جَازَ ذَلِكَ. فَأَمَّا إِقَامَةُ إِمَامَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فِي عَصْرٍ وَاحِدٍ وَبَلَدٍ وَاحِدٍ فَلَا يَجُوزُ إِجْمَاعًا. {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ} إذ: وَإِذَا حَرْفَا تَوْقِيتٍ، فَـ "إِذْ" لِلْمَاضِي، وَإِذَا لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَقَدْ تُوضَعُ إِحْدَاهُمَا مَوْضِعَ الْأُخْرَى. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا جَاءَ "إِذْ" مَعَ مُسْتَقْبَلٍ كَانَ مَعْنَاهُ مَاضِيًا، نَحْوَ قَوْلِهِ: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} الأنفال: 30. و{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} الأحزاب: 37. معناه إذ مَكَرُوا، وَإِذْ قُلْتَ. وَإِذَا جَاءَ "إِذَا" مَعَ الْمَاضِي كَانَ مَعْنَاهُ مُسْتَقْبَلًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ} النازعات: 34. {فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ} عبس: 33. و{إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ} النصر: 1.أي يجئ. فـ "إذْ" ظرفُ زمانٍ ماضٍ، يُخَلِّصُ المضارعَ للمُضيِّ، وبُنيَ لشبهِهِ بالحرفِ في الوَضْع والافتقار، وتليه الجملُ مُطلَقاً، فإذا كانتِ الجملةُ فعليةً قَبُحَ تقديمُ الاسمِ وتأخيرُ الفعلِ نحو: إذ زيدٍ قام. وقد تُحْذَفُ الجملةُ المضافُ هو إليها للعلمِ ويُعَوَّضُ منها تنوينٌ كقولِهِ تعالى: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ}، وليس كسرتُه والحالةُ هذه كسرةَ إعرابٍ ولا تنوينُهُ تنوينَ صَرْفٍ، بلْ الكَسْرُ لالْتِقاءِ الساكنيْنِ والتنوينُ للعِوَضِ بِدليلِ وُجودِ الكَسْرِ ولا إضافةَ قال أبو ذُؤيبٍ:نَهَيْتُكَ عن طِلابِكَ أمَّ عمروٍ ................. بعاقبةٍ وأنتَ إذٍ صَحيحُو{قَالَ رَبُّكَ} جملةٌ فعليّةٌ في محلِّ خَفْضٍ بإضافةِ الظرفِ إليها.وفي "إذْ" تسعةُ أوجُهٍ، أحسنُها أَنَّه منصوبٌ بـ {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا} أي: قالوا ذلك القولَ وقتَ قولِ اللهِ تعالى لهم: إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةً، وهذا أسهلُ الأوجهِ. الثاني: أنّه منصوبٌ بـ "اذكُرْ" مقدَّراً، وقد تقدَّم أنَّه لاَ يَتَصَرَّفُ، فلا يَقَعُ مفعولاً. الثالث: أنَّه منصوبٌ بـ "خَلَقَكم" المتقدِّمِ في قولِه: {اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} والواو زائدةٌ. وهذا ليس بشيء لطولِ الفصلِ. الرابعُ: أنّه منصوبٌ بـ "قال" بعده. وهو فاسدٌ لأنَّ المُضافَ إليه لا يَعملُ في المضاف. الخامس: أنَّه زائدٌ. السادسُ: أنّه بمعنى "قد". السابع أنّه خبرٌ لمُبتَدَأٍ محذوفٍ تقديرُه: ابتداءُ خَلْقِكم وقتُ قولِ ربِّك. الثامن: أنّه منصوبٌ بفعلٍ لائقٍ، تقديرُه: ابتدَأَ خَلقُكم وقتَ قولِه ذلكَ، وهذان ضعيفان لأنَّ وقتَ ابتداءِ الخلقِ ليس وقتَ القول، وأيضاً فإنّه لاَ يَتَصرَّف. التاسع: أنه منصوبٌ بـ "أحياكم" مقدَّراً، وهذا مردودٌ باختلافِ الوقتين أيضاً.و"للملائكة" متعلِّقٌ بـ "قال" واللامُ للتبليغ. وملائكةٌ جمعُ مَلَك.واختُلِف في "مَلَكٍ" على ستّةِ أقوالٍ، وذلك أنّهم اختلفوا في ميمِه، هل هي أصليةٌ أو زائدةٌ؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا، فقال بعضهم: مَلَك ووزنُه فَعَلَ مِن المُلْك، وشَذَّ جمعُه على فَعائِلَةٍ فالشُذوذُ في جَمْعِه فقط. وقال بعضُهم: بلْ أصلُهُ مَلْأَكٌ، والهمزةُ فيه زائدةٌ كشَمْأَلٍ ثمّ نُقِلَت حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَت الهمزةُ تخفيفاً، والجمعُ جاء على أصلِ الزيادةِ فهذان قَوْلان عند هؤلاء. والقائلون بزيادتِها اختلفوا أيضاً، فمنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من "أَلَك" أي: أرسَلَ ففاؤُه همزةٌ وعينُه لامٌ، ويدلُّ عليه قول الشاعر: أَبْلِغْ أبا دَخْتَنُوسَ مَأْلُكَةً ................. غيرَ الذي قد يُقال مِلْكَذِبِأبو دختنوس هو لقيط بن زرارة ودختنوسُ اسم أعجمي سمى به ابنته. وقال لبيد: وغلامٌ أَرْسَلَتْه أمُّه .............................. بِأَلوكٍ فَبَذَلْنَا ما سَأَلْوقال عديّ بن زيد: أَبْلِغِ النُّعْمانَ عني مَألُكا ................ أنَّه قد طالَ حَبْسي وانتظاريفأصل مَلَكَ: مَأْلَك، ثم قُلِبت العينُ إلى موضع الفاء، والفاءُ إلى موضع العين فصارَ مَلأَكاً على وزنَ مَعْفَل، ثم نُقِلَتْ حركةُ الهمزةِ إلى اللامِ وحُذِفَتِ الهمزةُ تخفيفاً، فيكونُ وزنُ مَلَكَ: مَعَلاً بحَذْفِ الفاء. ومنهم مَنْ قال: هو مشتقٌّ من لَأَك أي أرسل أيضاً، ففاؤُه لامٌ وعينُه همزةٌ ثم نُقِلَت حركةُ الهمزةِ وحُذِفَت كما تقدَّم، ويَدُلُّ على ذلك أنه قد نُطِقَ بهذا الأصلِ قال الشاعر علقمةُ بن عبد يمدح الملك الحارث: فَلَسْتُ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لِمَلأَكٍ ........... تَنَزَّلَ من جَوِّ السماء يَصُوبُثم جاء الجمعُ على الأصلِ فَرُدَّتِ الهمزةُ على كِلا القَوْلينِ، فوزن ملائِكَة على هذا القول: مَفَاعِلَةٌ، وعلى القولِ الذي قبلَه: مَعَافِلَةٌ "بالقلب". وقيل: هو مشتقٌّ من: لاكَه يَلُوكه أي: أداره يُديره، لأنَّ المَلَكَ يُديرُ الرسالةَ في فِيهِ، فأصلُ مَلَكٍ: مَلْوَكٌ، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى اللّامِ الساكنةِ قبلَها، فتحَرَّك حرفُ العِلَّةِ وانْفَتَحَ ما قبلَه فَقُلِبَ ألِفاً فصارَ مَلاكاً مِثل مَقَامٍ، ثم حُذِفَت الألفُ تخفيفاً فوزنُه مَفَلَ بحذفِ العينِ، وأصلُ ملائكةٍ ملاوِكةٌ فقُلبت الواوُ همزةً، ولكنَّ شرطَ قلبِ الواوِ والياءِ همزةً بعد ألفِ مَفاعِلٍ أنْ تكونَ زائدةً نحو عَجائز ورسائل، على أنّه قد جاء ذلك في الأصليّ قليلاً قالوا: مصائِبُ ومنائِر، وقُرِئ شاذاً: "معائِش" بالهمز، فهذه خمسةُ أقوال. والسادس: قال النَّضْرُ بنُ شُمَيْلٍ: "لا اشتقاقَ للمَلَكِ عند العَرَبِ".والهاء في ملائكة لتأنيث الجَمْع نحو: صَلادِمة. وقيل للمبالغة كعلاَّمة ونسَّابة، وليس بشيء، وقد تُحْذَفُ هذه الهاء شذوذاً، قال الشاعر: أبا خالدٍ صَلَّتْ عليكَ الملائِكُ ... في هذه الآيات الكريمة عطف ـ سبحانه ـ قصة خلق آدم أبي البشر على قصة خلق الأنفس وخلق السماوات والأرض انتقالًا في الاستدلال على أنّ اللهَ واحدٌ، وجمْعاً بين تعدد الأدلّة وبين مختلف الحوادث وأصلها، حتى يكون التدليل أجمع، والإِيمان بالله أقوى وأثبت. والمعنى: واذكر يا محمد وقت أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة.والملائكةُ، هم جُنْدٌ من خلق اللهِ، رَكّزَ اللهُ فيهِمُ العقلَ والفهمَ، وفَطَرَهم على الطاعة، وأقدرهم على التشكيل بأشكال مختلفة، وعلى الأعمال العظيمة الشاقّة، ووصفَهم في القرآن بأوصاف كثيرة منها أنهم {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} وأنّهم {لا يَعصون اللهَ ما أمرهم وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} ومنها: أنّهم رُسُلُ اللهِ أرسلهم بأمره، ومنهم رسل الوحي إلى من اصطفاهم من خلقه، والـ "خليفة" من يخلُفُ غيرَه وينوبُ مَنابَه، فهو فَعيل بمعنى فاعل، والتاء فيه للمبالغة، والمراد به آدم ـ عليه السلام ـ لأنّه كان خليفةً من الله في الأرض، وكذلك سائر الأنبياء استخلفهم الله ـ تعالى ـ في عمارة الأرض، وسياسة الناس، وتكميل نفوسهم، وإجراءِ أحكامِه عليهم، وتنفيذِ أوامرِه فيهم. وقيل: آدم وذريته، لأنّه يخلُف بعضُهم بعضاً في عمارة الأرض، واستغنى بذكره عن ذكر ذريتِه لكونِه الأصل.وخطابُ اللهِ لملائكتِه بأنّه سيجعلُ في الأرضِ خليفةً، ليس المقصودُ منه المشورة، وإنّما خاطبَهم بذلك من أجلِ ما ترتّبَ عليه من سؤالِهم عن وجه الحكمةِ من هذه الخلافة، وما أُجيبوا به من بعد، أو من أجلِ تعليمِ العبادِ المُشاورةَ في أمورِهم قبلَ أنْ يُقدِموا عليها وعرضِها على ثِقاتِهم ونُصائحهم وإنْ كان هو ـ سبحانه ـ بِعلمِه وحِكمتِه البالغةِ غنياًّ عن المشاورة. أو الحكمةُ تعظيمُ شأنِ المجعولِ، وإظهارُ فضلِه، بأنْ بَشّرَ بوجودِه سكّانَ مَلكوتِهِ، ونوّه بعظيمِ شأنِ المَجعولِ بذِكرِه في الملأِ الأعلى قبلَ إيجادِه، ولَقَّبَه بالخليفة. ثمّ حكى ـ سبحانَه ـ إجابةَ الملائكة فقال: {قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ}. فالفسادُ: الخروجُ عن الاعتدالِ والاستقامةِ ويُضادُّهُ الصَلاحُ. يُقالُ فَسَدَ الشيءُ فساداً وفُسوداً وأَفسَدَه غيرُه. والسّفْكُ: الصَّبُّ والإِهْراقُ، يُقال: سفكتُ الدمَ والدمعَ سَفْكًا ـ من بابِ ضَرَبَ ـ صَبَبْتُهُ. والفاعلُ سافكٌ وسف | |
|