وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
هَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ الذَّاهِبِ بِنَفْسِهِ زَهْوًا، وَيُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُوقِعَهُ الْحَرَجُ فِي بَعْضِ هَذَا. وَكَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَقُولَ لَهُ أَخُوهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، مِثْلُكَ يُوصِينِي!. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى إِذَا قِيلَ لَهُ مَهْلًا ازْدَادَ إِقْدَامًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ يَصِفُ عَرَقَ النَّاقَةِ:
وَكَأَنَّ رُبًّا أَوْ كُحَيْلًا مُعْقَدًا ............... حَشَّ الْوَقُودُ بِهِ جَوَانِبَ قُمْقِمُ
الرُبُّ: الطِلاءُ غيرُ الكثيف. والكُحَيْلُ: النفطُ أو القَطِرانُ تُطلى به الإبل والمُعَقَّدُ: الذي أُوقِدَ تحتَه حتى انعقدَ وغلُظَ. وحَشَّ: اتقد. والقُمْقُمُ: نوعٌ من الأواني.
قال ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ تعالى عنه مِنْ أكبرِ الذنبِ عندَ اللهِ أنْ يُقالَ للعبدِ اتّقِ اللهَ فيقولُ عليك نفسَك. وقيل لعمرَ بنِ الخطّابِ رضي اللهُ تعالى عنه اتّقِ اللهَ فوضعَ خدَّهُ على الأرضِ تواضُعًا للهِ تعالى.
وَذُكِرَ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَاخْتَلَفَ إِلَى بَابِهِ سَنَةً، فَلَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ، فَوَقَفَ يَوْمًا عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا خَرَجَ هَارُونُ سَعَى حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَنَزَلَ هَارُونُ عَنْ دَابَّتِهِ وَخَرَّ سَاجِدًا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَمَرَ بِحَاجَتِهِ فَقُضِيَتْ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَزَلْتَ عَنْ دَابَّتِكَ لِقَوْلِ يَهُودِيٍّ! قَالَ: لَا، وَلَكِنْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: "وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ". وَسَمَّى جَهَنَّمَ مِهَادًا لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّ الْكُفَّارِ.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ
أن تكون مستأنفةً أو معطوفةً على "يُعْجِبُك".
قوله: {بالإِثمِ} في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ للتعديةِ: أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه، أي: حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه. وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } البقرة: 17، و{وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} البقرة: 20، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ. الثاني: أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قول الشاعر:
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ...................... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
والثالث: أنْ تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهانِ، أحدُهما: أن تكونَ حالاً من "العزَّةُ" أي: ملتبسةً بالإِثمِ. والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ أي: أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ.
وفي قوله: "العزَّةُ بالإِثم" التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً. فَمِنْ مجيئها محمودة: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} المنافقون: 8 و{أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} المائدة: 54 ، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل: "بالإِثم" تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها.
قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} حَسْبُهُ: مبتدأ و"جهنَّمُ" خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: "جهنَّمُ" فاعلٌ بـ "حَسْب"، ثم اختلف القائلُ بذلك في "حَسْب" فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدرٌ أريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ "جهنَّمُ" سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَوِيَ "حَسْب" لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها. وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة، وخبراً فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء .
و"جهنَّمُ" اخَتَلَفَ الناسُ فيها، فقيل: هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ، وأصلُها كَهْنَام، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ. وقيل: بل هي عربيةُ الأصلِ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها: هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها "فَعَنَّل" مشتقةٌ من "رَكِيَّةٌ جَهْنام" أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ، وقيل: بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس، لأنّ "فعنَّلاً" مفقودٌ في كلامِهم، وجعل "زَوْنَكاً" فَعَلَّلاً أيضاً، لأنَّ الواوَ أصلٌ في بناتِ الأربعةِ كوَرَنْتَل، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظ، قالوا: "ضَغَنَّط" من الضَّغاطة وهي الضخامة، و"سَفَنَّج" و"هَجَنَّف" للظَّلِيم، والزَّوْنَك: القصير سُمِّي بذلك لأنه يَنْزَوِكُ في مِشْيَتِهِ أي: يَتَبَخْتَرُ، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ........ في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ
وهذا كلُّه يَدُلُّ على أنَّ النونَ زائدةٌ في "زَوْنَكَ" وعلى هذا فامتناعُها
للتأنيثِ والعلَميةِ .
{ولَبِئْسَ المِهادُ} المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ
جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ "المِهاد" وقعَ فاصلةً، وقد تقدَّمَ الكلامُ على "بئس". وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنّه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً.
و"المِهَادُ" فيه قولان، أحدُهما: أنّه جَمْعُ "مَهْد" وهو ما يُوطَّأُ للنومِ والثاني: أنّه اسمٌ مفردٌ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِ الشاعر:
وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ ................... تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ الضربُ الوجيع.
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
هَذِهِ صِفَةُ الْكَافِرِ وَالْمُنَافِقِ الذَّاهِبِ بِنَفْسِهِ زَهْوًا، وَيُكْرَهُ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُوقِعَهُ الْحَرَجُ فِي بَعْضِ هَذَا. وَكَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَقُولَ لَهُ أَخُوهُ: اتَّقِ اللَّهَ، فَيَقُولُ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ، مِثْلُكَ يُوصِينِي!. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى إِذَا قِيلَ لَهُ مَهْلًا ازْدَادَ إِقْدَامًا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ يَصِفُ عَرَقَ النَّاقَةِ:
وَكَأَنَّ رُبًّا أَوْ كُحَيْلًا مُعْقَدًا ............... حَشَّ الْوَقُودُ بِهِ جَوَانِبَ قُمْقِمُ
الرُبُّ: الطِلاءُ غيرُ الكثيف. والكُحَيْلُ: النفطُ أو القَطِرانُ تُطلى به الإبل والمُعَقَّدُ: الذي أُوقِدَ تحتَه حتى انعقدَ وغلُظَ. وحَشَّ: اتقد. والقُمْقُمُ: نوعٌ من الأواني.
قال ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ تعالى عنه مِنْ أكبرِ الذنبِ عندَ اللهِ أنْ يُقالَ للعبدِ اتّقِ اللهَ فيقولُ عليك نفسَك. وقيل لعمرَ بنِ الخطّابِ رضي اللهُ تعالى عنه اتّقِ اللهَ فوضعَ خدَّهُ على الأرضِ تواضُعًا للهِ تعالى.
وَذُكِرَ أَنَّ يَهُودِيًّا كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ عِنْدَ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَاخْتَلَفَ إِلَى بَابِهِ سَنَةً، فَلَمْ يَقْضِ حَاجَتَهُ، فَوَقَفَ يَوْمًا عَلَى الْبَابِ، فَلَمَّا خَرَجَ هَارُونُ سَعَى حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فَنَزَلَ هَارُونُ عَنْ دَابَّتِهِ وَخَرَّ سَاجِدًا، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ أَمَرَ بِحَاجَتِهِ فَقُضِيَتْ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، نَزَلْتَ عَنْ دَابَّتِكَ لِقَوْلِ يَهُودِيٍّ! قَالَ: لَا، وَلَكِنْ تَذَكَّرْتُ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: "وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ". وَسَمَّى جَهَنَّمَ مِهَادًا لِأَنَّهَا مُسْتَقَرُّ الْكُفَّارِ.
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ
أن تكون مستأنفةً أو معطوفةً على "يُعْجِبُك".
قوله: {بالإِثمِ} في هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنْ تكونَ للتعديةِ: أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَملْتُهُ عليه وأَلْزَمْتُهُ إياه، أي: حَمَلَتْهُ العِزَّةُ على الإِثْمِ وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه. وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازم نحو: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } البقرة: 17، و{وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} البقرة: 20، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو: صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ أي: جَعَلْتُ أحدَهما يَصُكُّ الآخرَ. الثاني: أن تكونَ للسببيةِ بمعنى أنَّ إثمَه كان سبباً لأخْذِ العِزَّةِ له كما في قول الشاعر:
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ...................... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
والثالث: أنْ تكونَ للمصاحبةِ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفيها حينئذٍ وجهانِ، أحدُهما: أن تكونَ حالاً من "العزَّةُ" أي: ملتبسةً بالإِثمِ. والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ أي: أَخَذَتْهُ ملتبساً بالإِثمِ.
وفي قوله: "العزَّةُ بالإِثم" التَتْميم وهو نوعٌ من عِلْمِ البديعِ، وهو عبارةٌ عن إردافِ الكلمةِ بأُخْرَى تَرْفَعُ عنها اللَّبْسَ وتُقَرِّبُها من الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمومةً. فَمِنْ مجيئها محمودة: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} المنافقون: 8 و{أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} المائدة: 54 ، فلو أُطْلِقَتْ لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمودةَ فقيل: "بالإِثم" تتميماً للمرادِ فَرُفِعَ اللَّبْسُ بها.
قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} حَسْبُهُ: مبتدأ و"جهنَّمُ" خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: "جهنَّمُ" فاعلٌ بـ "حَسْب"، ثم اختلف القائلُ بذلك في "حَسْب" فقيل: هو بمعنى اسم الفاعل، أي الكافي، وهو في الأصل مصدرٌ أريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ "جهنَّمُ" سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَوِيَ "حَسْب" لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها. وهو من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأ فيُجَرُّ بباء زائدة، وخبراً فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤَنَّثُ وإنْ وقع صفةً لهذه الأشياء .
و"جهنَّمُ" اخَتَلَفَ الناسُ فيها، فقيل: هي أعجميةٌ وعُرِّبتْ، وأصلُها كَهْنَام، فمنعُها من الصرفِ للعلمية والعُجْمَةِ. وقيل: بل هي عربيةُ الأصلِ، والقائلون بذلك اختلَفوا في نونِها: هل هي زائدةٌ أم أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ ووزنُها "فَعَنَّل" مشتقةٌ من "رَكِيَّةٌ جَهْنام" أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم وهو الكراهةُ، وقيل: بل نونُها أصليَّةٌ ووزنُها فَعَلَّل كعَدَبَّس، لأنّ "فعنَّلاً" مفقودٌ في كلامِهم، وجعل "زَوْنَكاً" فَعَلَّلاً أيضاً، لأنَّ الواوَ أصلٌ في بناتِ الأربعةِ كوَرَنْتَل، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظ، قالوا: "ضَغَنَّط" من الضَّغاطة وهي الضخامة، و"سَفَنَّج" و"هَجَنَّف" للظَّلِيم، والزَّوْنَك: القصير سُمِّي بذلك لأنه يَنْزَوِكُ في مِشْيَتِهِ أي: يَتَبَخْتَرُ، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
أَجْمَعْتَ أَنَّك أنتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ........ في فُحْشِ زانيةٍ وَزْوكِ غُرابِ
وهذا كلُّه يَدُلُّ على أنَّ النونَ زائدةٌ في "زَوْنَكَ" وعلى هذا فامتناعُها
للتأنيثِ والعلَميةِ .
{ولَبِئْسَ المِهادُ} المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ
جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ "المِهاد" وقعَ فاصلةً، وقد تقدَّمَ الكلامُ على "بئس". وحُذِفَ هذا المخصوصُ بذلك على أنّه مبتدأ والجملةُ من نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواء تقدَّم أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاه خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ أو مبتدأً محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كنا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأسْرِهَا من غَيْرِ أنْ ينوبَ عنها شيءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ من ذلك أنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها إذ ليس لها موضعٌ من الإِعرابِ، وليست معترضةً ولا مفسِّرةً ولا صلةً ولا مستأنفةً.
و"المِهَادُ" فيه قولان، أحدُهما: أنّه جَمْعُ "مَهْد" وهو ما يُوطَّأُ للنومِ والثاني: أنّه اسمٌ مفردٌ، سُمِّيَ به الفراشُ المُوَطَّأُ للنومُ، وهذا من بابِ التهكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشونه وهو كقولِ الشاعر:
وخيلٍ قد دَلَفْتُ لها بِخَيْلٍ ................... تحيةُ بينِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ
أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ الضربُ الوجيع.