وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَمِنْهُمْ" أَيْ مِنَ النَّاسِ، وَهُمُ الْمُسْلِمُونَ يَطْلُبُونَ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعَافِيَةُ فِي الصِّحَّةِ وَكَفَافُ الْمَالِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: حَسَنَةُ الدُّنْيَا الْعِلْمُ وَالْعِبَادَةُ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَسَنَتَيْنِ نِعَمُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. فَإِنَّ اللَّفْظَ يَقْتَضِي هَذَا كُلَّهُ، فإنّ "حَسَنَةً" نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الدُّعَاءِ، فَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِ حَسَنَةٍ مِنَ الْحَسَنَاتِ عَلَى الْبَدَلِ. وَحَسَنَةُ الْآخِرَةِ: الْجَنَّةُ بِإِجْمَاعٍ. وَقِيلَ: لَمْ يُرِدْ حَسَنَةً وَاحِدَةً، بَلْ أَرَادَ: أَعْطِنَا فِي الدُّنْيَا عَطِيَّةً حَسَنَةً، فَحَذَفَ الِاسْمَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَقِنا عَذابَ النَّارِ" الْمُرَادُ بِالْآيَةِ الدُّعَاءُ فِي أَلَّا يَكُونَ الْمَرْءُ مِمَّنْ يَدْخُلُهَا بِمَعَاصِيهِ وَتُخْرِجُهُ الشَّفَاعَةُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ دُعَاءً مُؤَكَّدًا لِطَلَبِ دُخُولِ الْجَنَّةِ، لِتَكُونَ الرَّغْبَةُ فِي مَعْنَى النَّجَاةِ وَالْفَوْزِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ، كَمَا قَالَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا إِنَّمَا أَقُولُ فِي دُعَائِي: اللَّهُمَّ أَدْخِلْنِي الْجَنَّةَ وَعَافِنِي مِنَ النَّارِ، وَلَا أَدْرِي مَا دَنْدَنَتُكَ وَلَا دَنْدَنَةُ مُعَاذٍ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ)). خَرَّجَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَابْنُ مَاجَهْ أَيْضًا. والدندنة: أن يتكلم الرجل الكلام تسمع نغمته ولا يفهم، وهو أرفع من الهينمة قليلا.
وهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ جَوَامِعِ الدُّعَاءِ الَّتِي عَمَّتِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. قِيلَ لِأَنَسٍ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. قَالُوا: زِدْنَا. قَالَ: مَا تُرِيدُونَ! قَدْ سَأَلْتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ!. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أَكْثَرُ دَعْوَةٍ يَدْعُو بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)). قَالَ: فَكَانَ أَنَسٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدَعْوَةٍ دَعَا بِهَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ. وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهُوَ يَقُولُ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. ماله هِجِّيرَى غَيْرَهَا، ذَكَرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ. والهجير والهجيرى: الدأب والعادة والديدن.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: بَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ دُعَاءِ الْمُسْلِمِ فِي الْمَوْقِفِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ عِنْدَ الرُّكْنِ مَلَكًا قَائِمًا مُنْذُ خَلَقَ الله السموات وَالْأَرْضَ يَقُولُ آمِينَ، فَقُولُوا: "رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ" وسئل عَطَاءٌ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنْ الرُّكْنِ الْيَمَانِيِّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَقَالَ عَطَاءٌ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((وُكِّلَ بِهِ سَبْعُونَ مَلَكًا فَمَنْ قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ قَالُوا آمِينَ) الْحَدِيثَ. خَرَّجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي السُّنَنِ.
قوله تعالى: {فِي الدنيا حَسَنَةً} يجوز في الجارِّ وجهان، أحدهما: أن يتعلَّقَ بآتِنا كالذي قبله. والثاني: أنْ يتعلَّقَ بمحذوف على أنّه حالٌ من "حسنةً" لأنّه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها انتصَبَ حالاً.
قوله: {وَفِي الآخرة حَسَنَةً} هذه الواوُ عاطفةٌ شيئين على شيئين متقدمين . فـ "في الآخرة" عطفٌ على "في الدنيا" بإعادةِ العاملِ. و"حسنةً" عطفٌ على "حسنةٍ. والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ على شيئين فأكثرَ. تقول: "أَعْلَمَ الله زيداً عمراً فاضلاً وبكراً خالداً صالحاً" اللهم إلّا أنْ تنوبَ عن عاملين ففيها خلافٌ لأهلِ العربية. وليس هذا كما زعم بعضهُم أنه من بابِ الفصلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد وبين المعطوفِ بالجار والمجرور، وجعله دليلاً على أبي علي الفارسي حيث منع ذلك إلّا في ضرورةٍ؛ لأنّ هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنّما هو نحو: "أكرمت زيداً وعندك عمراً". وإنما يُرَدُّ على أبي علي بقولِه: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} النساء: 58 وقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} الطلاق: 12.
وقوله: "قِنا" ممَّا حُذِفَ منه فاؤُه ولامُه من وقى يقي وقاية.
حُذِفَتِ الْوَاوُ كَمَا حُذِفَتْ فِي يَقِي وَيَشِي، لِأَنَّهَا بَيْنَ يَاءٍ وَكَسْرَةٍ، مِثْلُ يَعِدُ، أمَّا حذفُ فائه فبالحَمْلِ على المضارع لوقوعِ الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ، وأمَّا حذفُ لامه فلأنَّه الأمرَ جارٍ مجرى المضارعِ المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ فكذلك الأمرُ منه، فوزن "قِنا" حينئذ: عِنا، والأصل: أوْقِنا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغْنِي عن همزةِ الوصلِ فَحُذِفَتْ. و"عذاب" مفعولٌ ثانٍ.