أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
لَفْظُ "أُحِلَّ" يَقْتَضِي أَنَّهُ كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ نُسِخَ. ونزلت هذه الآيةُ في زَلَّةٍ بَدَرَتْ من الفاروق، فَجَعَلَ ذلك سببَ رُخْصةٍ لجميع المسلمين إلى القيامة. فَجَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى شَرِيعَةً، وَخَفَّفَ مِنْ أَجْلِهِ عَنِ الْأُمَّةِ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.وهكذا أحكام العناية.
فقد أخرج أحمد وجماعة عن كعب بن مالك قال: كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فنام حُرِّمَ عليه الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفطرَ من الغد، فرَجَعَ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وقد سمر عنده، فوجد امرأتَه قد نامت فأيقظها وأرادها فقالت: إني قد نمت فقال: ما نمت، ثم وقع بها؛ وصنع كعب بن مالك مثل ذلك فغدا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت. وفي رواية ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما هو نائم إذ سولت له نفسه فأتى أهله ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعتذر إلى الله تعالى وإليك من نفسي، هذه الخاطئة، فإنها زيّنت لي فواقعت أهلي هل تجد لي من رخصة؟ قال: لم تكن حقيقاً بذلك يا عمر فلمّا بلغَ بيتَه أرسل إليه فأنبأه بعذرِه في آية من القرآن وأمر الله تعالى رسولَه أن يَضَعَها في المئة الوسطى من سورة البقرة فقال: {أُحِلَّ لَكُمُ} إلخ..
وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارَ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس ابن صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا- وَفِي رِوَايَةٍ: كَانَ يَعْمَلُ فِي النَّخِيلِ بِالنَّهَارِ وَكَانَ صَائِمًا- فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارَ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ لَهَا: أَعْنَدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ: لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، وَكَانَ يَوْمُهُ يَعْمَلُ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَتُهُ فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ" فَفَرِحُوا فَرَحًا شَدِيدًا، وَنَزَلَتْ: "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ". وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، وَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ".
قَوْلُهُ تَعَالَى:{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ، أَيْ قَدْ أَحَلَّ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ. وَسُمِّيَ الْوِقَاعُ مُبَاشَرَةً لِتَلَاصُقِ الْبَشَرَتَيْنِ فِيهِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ نزول الْآيَةِ جِمَاعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا جُوعَ قَيْسٍ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ السَّبَبُ جُوعُ قَيْسٍ لَقَالَ: فَالْآنَ كُلُوا، ابْتَدَأَ بِهِ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ الذي نزلت الآية لأجله.
قوله تعالى: {لَيْلَةَ الصيام} منصوبٌ على الظرفِ، والناصبُ مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ "الرفث"، تقديرُه: أُحِلَّ لكم أن تَرْفُثوا ليلة الصيامِ، كما خَرَّجوا قول الشاعر:
وبعضُ الحِلْم عِند الجَهْـ ............................ ـلِ للذلَّةِ إذْعان
أي: إذعان للذلة إذعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أن يَنْتَصِب بالرَّفَثِ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على الموصولِ فلذلك احْتُجْنا إلى إضمار عاملٍ مِنْ لفظ المذكورِ. أو أنه متعلِّق بالرفثِ، وذلك على رَأْي مَنْ يرى الاتساعَ في الظروف والمجرورات.
وأضيفت الليلة اتّساعاً لأنَّ شرطَ صحتِه وهو النيةُ موجودةٌ فيها، والإِضافة تحصُل بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حَقِّ الظرف المضاف إلى حَدَثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدثُ في جزء من ذلك الظرف، والصومُ في الليلِ غيرُ معتبرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغَ لذلك ما ذَكرْتُ لك.
والجمهورُ على "أُحِلَّ" مبنياً للمفعولِ للعلمِ به وهو اللَّهُ تعالى، وقرىء مبنياً للفاعلِ، وفيه حينئذٍ احتمالان، أحدُهما: أن يكونَ من باب الإِضمارِ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ، لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّل والمحرِّم. والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قولِهِ: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} وهو المتكلمُ، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله "لكم" التفاتٌ من ضميرِ الغَيْبة في: "فَلْيَسْتجيبوا وَلْيؤمنوا".
وعُدِّي "الرفث" بـ "إلى"، وإنّما يتعدَّى بالباء لِما ضُمِّن مِنْ معنى
الإِفضاء، كأنه قيل: أُحِلَّ لكم الإِفضاءُ إلى نسائِكم بالرَّفَث.
وقرأ عبد الله "الرَّفوث". والرَّفَثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفُث إذا تكلم بالفُحْشِ، وأَرْفَثَ أتى بالرَّفَثِ، قال العجاج:
ورُبَّ أسرابِ حجيجٍ كُظَّمِ .................... عن اللَّغا وَرَفَثِ التكلُّم
وقيل إنَّ الرفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجلُ من المرأة. وقيل : الرفث: الجِماعُ نفسُه، وأنشد:
ويُرَيْنَ من أَنَسِ الحديثِ زوانيا ........... ولَهُنَّ عن رَفَثِ الرجالِ نفارُ
وقول الآخر :
فَظِلْنَا هنالِكَ في نِعْمَةٍ ....................... وكلِّ اللَّذاذَةِ غيرَ الرَّفَثْ
ولا دليل فيه لاحتمالِ إرادة مقدمات الجِماع كالمداعَبَةِ والقُبْلَةِ.
قوله: {كُنتُمْ تَخْتانُونَ} في محلِّ رفعٍ خبرٌ لأنَّ. و"تَخْتانون" في محلِّ نصبٍ خبرٌ لكان. و"كُنْتُم" ـ هنا ـ لفظُها لفظُ الماضي ومعناها المضيُّ أيضاً، والمعنى: أن الاختيان كان يقعُ منهم فتاب عليهم منه.
و"تَخْتَانون" تَفْتَعِلُون من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ لقولِهم: خانَ يخُون، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خانَ يَخُون خَوْناً وخِيانة، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشيءَ تَنَقَّصْتُه، قال زهير:
بآرِزَةِ الفَقَارَةِ لم يَخُنْهَا ................... قِطافٌ في الرِّكاب ولا خِلاءُ
والاختيانُ: من الخيانة كالاكتساب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة يعني من حيثُ إن الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى.
و"عَلِمَ" إنْ كانَتِ المتعدية لواحد بمعنى عَرَف، فتكونُ "أنَّ" وما في حيِّزها سادَّة مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كانتِ المتعديةَ لاثنينِ كانَتْ سادةً مَسَدَّ المفعولينِ على رأي سيبويه، ومَسَدَّ أحدِهما والآخرُ محذوفٌ على مذهبِ الأخفش .
وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} لا محلَّ له من الإِعراب، لأنّه بيانٌ للإِحلالِ فهو استئنافٌ وتفسيرٌ: وقَدَّمَ قولَه: "هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ" على "وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ" تنبيهاً على ظهورِ احتياجِ الرجل للمرأةِ وعَدَم صَبْرِهِ عنها، ولأنَّه هو البادىءُ بطلبِ ذلك، وكَنَى باللباسِ عن شِدَّة المخالَطَةِ كقولِ النابغة الجَعْدِي:
إذا ما الضجيعُ ثُنَى جيدَها ................. تَثَنَّتْ عليه فكانَتْ لباسا
وفيه أيضاً :
لَبِسْتُ أُناساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ....................... وَأَفْنَيْتُ بعد أُناسٍ أُناسا
قوله: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ} الآن: ظرفٌ للأمرِ في الزمنِ الحاضِرِ والأمرُ مستقبلٌ أبداً، وحقيقَتُه الوقتُ الذي أَنْتَ فيه، وقد يقع على الماضي القريب منكَ، وعلى المستقبلِ القريبِ، تنزيلاً للقريبِ منزلةَ الحاضِرِ، وهو المرادُ هنا، لأنَّ قولَه: "فالآن باشِروهُنَّ" أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكم فيه الجِماعُ من الليل وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أَبَحْنا لكم مباشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوفِ لفظُ الأمرِ فالآن على حقيقته.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال ابنُ عباس ومجاهد
والحكم ابن عُيَيْنَةَ وَعِكْرِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ وَالرَّبِيعُ وَالضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ وَابْتَغُوا الْوَلَدَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ عُقَيْبَ قَوْلِهِ: "فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ". وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ الْقُرْآنُ. الزَّجَّاجُ: أَيِ ابْتَغُوا الْقُرْآنَ بِمَا أُبِيحَ لَكُمْ فِيهِ وَأُمِرْتُمْ بِهِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ الْمَعْنَى وَابْتَغُوا لَيْلَةَ الْقَدْرِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اطْلُبُوا الرُّخْصَةَ وَالتَّوْسِعَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ ابْنُ عطية: وهو قول حسن. وقيل:"ابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ" مِنَ الْإِمَاءِ وَالزَّوْجَاتِ. وقرأ بن عباس والحسن البصري والحسن بن قُرَّةَ: "واتَّبِعُوا" من الاتِّباع.
قَوْلُهُ تَعَالَى:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} حَتَّى: غَايَةٌ لِلتَّبْيِينِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقَعَ التَّبْيِينُ لِأَحَدٍ وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْأَكْلُ إِلَّا وَقَدْ مَضَى لِطُلُوعِ الْفَجْرِ قَدْرٌ. وَاخْتُلِفَ فِي الْحَدِّ الَّذِي بِتَبَيُّنِهِ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: ذَلِكَ الْفَجْرُ الْمُعْتَرِضُ فِي الْأُفُقِ يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَبِهَذَا جَاءَتِ الْأَخْبَارُ وَمَضَتْ عَلَيْهِ الْأَمْصَارُ. رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا يَغُرَّنكُمْ مِنْ سُحُورِكُمْ أَذَانُ بِلَالٍ وَلَا بَيَاضَ الْأُفُقِ الْمُسْتَطِيلَ هَكَذَا حَتَّى يَسْتَطِيرَ هَكَذَا)). . وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ الصِّيَامَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ)). تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ بْنِ فَضَالَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ. وَرُوِيَ عَنْ حَفْصَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((من لَمْ يَجْمَعِ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ)). وروى البخاري ومسلم.
قوله: {حتى يَتَبَيَّنَ} حتى: هنا غايةٌ لقولِهِ: "كُلُوا واشربوا" بمعنى إلى، ويقال: تَبَيَّن الشيءُ وأبان واستبان وبانَ كُلُّه بمعنىً، وكلُّها تكونُ متعديةٌ ولازمةً، إلاَّ "بانَ" فلازمٌ ليس إلاَّ. و"مِن الخيط" مِنْ لابتداءِ الغاية وهي ومجرورُها في محلِّ نصبٍ بـ "يتبيَّن"، لأنَّ المعنى: حتى يُبايِن الخيطُ الأبيضُ الأسودَ.
وَسُمِّيَ الْفَجْرُ خَيْطًا لِأَنَّ مَا يَبْدُو مِنَ الْبَيَاضِ يُرَى مُمْتَدًّا كَالْخَيْطِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
الْخَيْطُ الَابْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ..وَالْخَيْطُ الَاسْوَدُ جُنْحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ
وَالْخَيْطُ فِي كَلَامِهِمْ عِبَارَةٌ عَنِ اللَّوْنِ. وَالْفَجْرُ مَصْدَرُ فَجَّرْتُ الْمَاءَ أُفَجِّرُهُ فَجْرًا إِذَا جَرَى وَانْبَعَثَ، وَأَصْلُهُ الشَّقُّ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلطَّالِعِ مِنْ تَبَاشِيرِ ضِيَاءِ الشمس من مطلعها: فجرًا لِانْبِعَاثِ ضَوْئِهِ، وَهُوَ أَوَّلُ بَيَاضِ النَّهَارِ الظَّاهِرِ الْمُسْتَطِيرِ فِي الْأُفُقِ الْمُنْتَشِرِ، تُسَمِّيهِ الْعَرَبُ الْخَيْطَ الأبيض. قال أبو دواد الْإِيَادِيُّ:
فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَنَا سُدْفَةٌ .................. وَلَاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا
السدفة بضم السين وفتحها وسكون الدال: في لغة نجد ظلمة الليل، وفى لغة غيرهم الضوء. وهو من الأضداد.
وَقَدْ تُسَمِّيهِ أَيْضًا الصَّدِيعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمُ: انْصَدَعَ الْفَجْرُ، قَالَ بِشْرُ بْنُ أَبِي خَازِمٍ أَوْ عَمْرُو بْنُ مَعْدِيكَرِبَ:
تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ .................... كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ
وَشَبَّهَهُ الشَّمَّاخُ بِمَفْرِقِ الرَّأْسِ فَقَالَ:
إِذَا مَا اللَّيْلُ كَانَ الصُّبْحُ فيه ............... أشق كمفرق الرأس الدهين
وَيَقُولُونَ فِي الْأَمْرِ الْوَاضِحِ: هَذَا كَفَلَقِ الصُّبْحِ، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر:
فوردت قبل انبلاج الفجر .................. وابن ذكاء كامن فِي كَفْرِ
و"من الفجر" يجوزُ أن تكونَ تبعيضيةً فتتعلَّق أيضاً بـ "يتبيَّن"؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ وهو بعَضُ الفجرِ وأولُه، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ بعاملٍ واحدٍ لاختلافِ معناهما. ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في الأبيض، أي: الخيطُ الذي هو أبيضُ كائناً من الفجرِ، وعلى هذا يجوزُ أن تكونُ "مِنْ" لبيانِ الجنس كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الذي هو الفجرُ.
وهذا من أحسنِ التشبيهات حيث شَبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذَكَر عَديُّ بن حاتَمٍ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم إنه فَهِمَ من الآية حقيقةَ الخيطِ تعجَّب منه، وقال: ((إن وسادَك لَعَرِيض)) ويُروى: "إنك لعريضُ القَفَا" وقد رُوي أنَّ بعضَ الصحابة فَعَلَ كَفِعْل عَدِيّ، ويُرْوى أن بينَ قولِهِ "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" عاماً كاملاً في النزولِ. وهذا النوعُ من بابِ التشبيهِ من الاستعارة، لأنَّ الاستعارَة هي أَنْ يُطْوَى فيها ذِكْرُ المُشَبَّهِ، وهنا قد ذُكِرَ وهو قولُهُ: "من الفجر"، ونظيرُهُ قولُكَ: "رأيت أسداً من زيدٍ" لو لم تَذْكُر: "من زيدٍ" لكانَ استعارةً. ولكنَّ التشبيهَ هنا أبلغُ، لأنَّ الاستعارة لا بدّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثَمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلُ ذلك على الحقيقةِ مدةً، حتى نَزَلَ "مِنَ الفَجْرِ" فَتُرِكَتْ الاستعارة وإنْ كانَتْ أبلغَ لِمَا ذَكَرْتُ لك. والفجرُ مصدر فَجَرَ يَفْجُرُ أي: انشَقَّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: "ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ" جَعَلَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرَهُ اللَّيْلَ ظَرْفًا لِلْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ، وَالنَّهَارَ ظَرْفًا لِلصِّيَامِ، فَبَيَّنَ أَحْكَامَ الزَّمَانَيْنِ وَغَايَرَ بَيْنَهُمَا. فَلَا يجوز في اليوم شي مِمَّا أَبَاحَهُ بِاللَّيْلِ إِلَّا لِمُسَافِرٍ أَوْ مَرِيضٍ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ. فَمَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ مَنْ ذُكِرَ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَقَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَفْطَرَ فِي رَمَضَانَ عَامِدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ فَعَلَيْهِ القضاء والكفارة، لما رواه مالك فِي مُوَطَّئِهِ، وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هريرة أنّ رجلًا أفطر في رمضان فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ أَوْ إِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا، الْحَدِيثَ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِمَنْ أَفْطَرَ بِالْجِمَاعِ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسول الله فَقَالَ: هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: ((وَمَا أَهْلَكَكَ)) قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ، الحديث. وفية ذكر للكفارة عَلَى التَّرْتِيبِ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَحَمَلُوا هَذِهِ الْقَضِيَّةَ عَلَى الْقَضِيَّةِ الْأُولَى فَقَالُوا: هِيَ وَاحِدَةٌ، وَهَذَا غَيْرُ مُسَلَّمٍ بِهِ بَلْ هُمَا قَضِيَّتَانِ مُخْتَلِفَتَانِ، لِأَنَّ مَسَاقَهُمَا مُخْتَلِفٌ، وَقَدْ عَلَّقَ الْكَفَّارَةَ عَلَى من أفطر مجردا عن القيوم فَلَزِمَ مُطْلَقًا. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالطَّبَرِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ فِي رِوَايَةٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ وَالزُّهْرِيُّ. وَيَلْزَمُ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ فَإِنَّهُ يَقُولُ: تَرْكُ الِاسْتِفْصَالِ مَعَ تَعَارُضِ الْأَحْوَالِ يَدُلُّ عَلَى هموم الْحُكْمِ. وَأَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ مَعَ الْقَضَاءِ الْعُقُوبَةَ لِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الشَّهْرِ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَا يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رَمَضَانَ، فَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: عَلَيْهَا مِثْلُ مَا عَلَى الزَّوْجِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: ليس عليها إِلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً، وَسَوَاءً طَاوَعَتْهُ أَوْ أَكْرَهَهَا، لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَابَ السَّائِلَ بِكَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُفَصِّلْ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: إِنْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَى كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ، وَإِنْ أَكْرَهَهَا فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لَا غَيْرَ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِيمَنْ جَامَعَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ أَوْ أَكَلَ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَإِسْحَاقُ: لَيْسَ عليه في الوجهين شي، لَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا كَفَّارَةَ، وَرُوِيَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ إِنْ جَامَعَ، وَقَالَ: مِثْلَ هَذَا لَا يُنْسَى. وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ أَحمد بن حنبل: سَوَاءٌ وَطِئَ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ، لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ
لَمْ يُفَرَّقْ فِيهِ بَيْنَ الناسي والعامد.
قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِذَا أَكَلَ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ قَدْ فَطَّرَهُ فَجَامَعَ عَامِدًا بأَنَّ عَلَيْهِ الْقَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. وقال الجمهور: إن مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنَّ صَوْمَهُ تَامٌّ، لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا أَكَلَ الصَّائِمُ نَاسِيًا أَوْ شَرِبَ نَاسِيًا فَإِنَّمَا هُوَ رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ- فِي رِوَايَةٍ- وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّ اللَّهَ أَطْعَمَهُ وَسَقَاهُ)). أَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. وَقَالَ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ.
وَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: ((مَنْ نَسِيَ وَهُوَ صَائِمٌ فَأَكَلَ أَوْ شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)) فَلَمْ يَذْكُرْ قَضَاءً وَلَا تَعَرَّضَ لَهُ، بَلِ الَّذِي تَعَرَّضَ لَهُ سُقُوطُ الْمُؤَاخَذَةِ وَالْأَمْرُ بِمُضِيِّهِ عَلَى صَوْمِهِ وَإِتْمَامِهِ، هَذَا إِنْ كَانَ وَاجِبًا فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ من القضاء. وأما صَوْمُ التَّطَوُّعِ فَلَا قَضَاءَ فِيهِ لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ)).
لَمَّا بَيَّنَ سُبْحَانَهُ مَحْظُورَاتِ الصِّيَامِ وَهِيَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُبَاشَرَةَ الَّتِي هِيَ اتِّصَالُ الْبَشَرَةِ بِالْبَشَرَةِ كَالْقُبْلَةِ وَالْجَسَّةِ وَغَيْرِهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ قَبَّلَ وَبَاشَرَ فقَالَوا: يُكْرَهُ لِمَنْ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَمْلِكُهَا، لِئَلَّا يَكُونَ سَبَبًا إِلَى مَا يُفْسِدُ الصَّوْمَ. وقالوا في الإنزال عن النظر أنْ لا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُتَابِعَ. وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إِلَّا عَلَى مَنْ قَصَدَ الْفِطْرَ وَانْتِهَاكَ حُرْمَةِ الصَّوْمِ. رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ وَيُبَاشِرُ وَهُوَ صَائِمٌ.
والجمهور من العلماء عَلَى صِحَّةِ صَوْمِ مَنْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ وَهُوَ جُنُبٌ. لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ جِمَاعٍ غَيْرِ احْتِلَامٍ ثُمَّ يَصُومُ. وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدْرِكُهُ الْفَجْرُ فِي رَمَضَانَ وَهُوَ جُنُبٌ مِنْ غير احتلام فَيَغْتَسِلُ وَيَصُومُ، أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وجمهور العلماء عَلَى وُجُوبِ صوْمِ الْحَائِضِ التي تَطْهُرُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَتَتْرُكُ التَّطَهُّرَ حَتَّى تُصْبِحَ، سَوَاءٌ تَرَكَتْهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا،كَالْجُنُبِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: تَقْضِي لِأَنَّهَا فَرَّطَتْ فِي الِاغْتِسَالِ. وَإِذَا طَهُرَتِ الْمَرْأَةُ لَيْلًا فِي رَمَضَانَ فَلَمْ تَدْرِ أَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ، صَامَتْ وَقَضَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ احْتِيَاطًا، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا.
وَلا يضر الاحتجام لحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُوَ مُحْرِمٌ صَائِمٌ. إنما يكره ذلك لأنه قد يضعف الصائم.
قوله: {إِلَى الليل} في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى الليل، و"إلى" إذا كان ما بعدها من غيرِ جنسِ ما قبلَها لم يدخُلْ فيه، والآيةُ من هذا القبيلِ. و"إلى الليل" متعلِّق بالإِتمامِ فهو غايةٌ له، فَإِذَا كَانَ مَا بَعْدَ "إلى" مِنْ جِنْسِ ما قبلها فهو داخل في حكمه، فَشَرَطَ تَعَالَى تَمَامَ الصَّوْمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ اللَّيْلُ، كَمَا جَوَّزَ الْأَكْلَ حَتَّى يَتَبَيَّنَ النهار. ومن تَمَامِ الصَّوْمِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ دُونَ رَفْعِهَا، فَإِنْ رَفَعَهَا فِي بَعْضِ النَّهَارِ وَنَوَى الْفِطْرَ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ فَهُو عَلَى صَوْمِهِ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنَ الصَّوْمِ إِلَّا الْإِفْطَارُ بِالْفِعْلِ وَلَيْسَ بِالنِّيَّةِ. فإِذَا تَبَيَّنَ اللَّيْلُ سُنَّ الْفِطْرُ شَرْعًا. لقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا جَاءَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ)). خَرَّجَهُ مسلم من حديث عبد الله بن أبي أَوْفَى. وَنَهَى عَنِ الْوِصَال بقوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ إِيَّاكُمْ وَالْوِصَالَ)) تَأْكِيدًا فِي الْمَنْع، أخرجه الْبُخَارِيُّ. فَإِنْ أَفْطَرَ وَهُوَ شَاكٌّ فِي غُرُوبِ الشمس فعليه القضاء مع الكفارة عند مالك إلّا أن يكون الغالب عليه غروبها فيقضي ولا كفارة عليه. أوَ شَكَّ عِنْدَهُ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ لَزِمَهُ الْكَفُّ عَنِ الْأَكْلِ، فَإِنْ أَكَلَ مَعَ شَكِّهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَالنَّاسِي. فَإِذَا أَكَلَ عَلَى ظَنٍّ أَنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَقَدْ أَكَلَ بِإِذْنِ الشَّرْعِ فِي وَقْتِ جَوَازِ الْأَكْلِ فَلَا قَضَاءَ عليه، كذلك قال مجاهد. وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ إِذَا غُمَّ عَلَيْهِ الْهِلَالُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَأَكَلَ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ. وَكَذَلِكَ الْأَسِيرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِذَا أَكَلَ ظَنًّا أَنَّهُ مِنْ شعبان ثم بان خلافه. كَمَا أَنَّ مَنِ اغْتَابَ فِي صَوْمِهِ أَوْ شَهِدَ بِزُورٍ مُفْطِرٌ حُكْمًا، لقَوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةً فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
وَيُسْتَحَبُّ لِلصَّائِمِ إِذَا أَفْطَرَ أَنْ يُفْطِرَ عَلَى رُطَبَاتٍ أَوْ تَمَرَاتٍ أَوْ
حُسُوَاتٍ مِنَ الْمَاءِ، لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَعَلَى تَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمَرَاتٌ حَسَا حُسُوَاتٍ مِنْ مَاءٍ. وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وَقَالَ فِيهِ: إِسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْطَرَ قَالَ: ((لَكَ صُمْنَا وَعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْنَا فَتَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)). وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِذَا أَفْطَرَ: ((ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتِ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)). وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ: ((أَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ وَأَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ)). وَرُوِيَ أَيْضًا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)). وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةِ مَا تُرَدُّ). وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ بِفِطْرِهِ وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ)).
وَيُسْتَحَبّ صُومُ ستٍّ مِنْ شَوَّالٍ، لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كان له كصيام الدهر)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} بيّن جلّ وعَلا أَنَّ الْجِمَاعَ يُفْسِدُ الِاعْتِكَافَ. وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُبَاشِرُ وَلَا يُقَبِّلُ. وَكما أَجْمَعَوا عَلَى أَنَّهُ إنّما يكون في المسجد و((كُلُّ مَسْجِدٍ لَهُ مُؤَذِّنٌ وَإِمَامٌ فَالِاعْتِكَافُ فِيهِ يَصْلُحُ)). وَأَقَلُّ الِاعْتِكَافِ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وقَالَ الشَّافِعِيُّ: أَقَلُّهُ لَحْظَةً وَلَا حد لأكثره. وكان رسول الله يعتكف العشر الأواخر من رمضان، ويعتكف في غيره. وهو لَيْسَ بِوَاجِبٍ، بل هُوَ قُرْبَةٌ مِنَ الْقُرَبِ وَنَافِلَةٌ مِنَ النَّوَافِلِ عَمِلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ وَأَزْوَاجُه واشترط بعضهم له الصيام لقوله عليه الصلاة والسلام لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ((اعْتَكِفْ وَصُمْ)). وَعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَا اعْتِكَافَ إِلَّا بِصِيَامٍ)). وَقَيل لَيْسَ بشَرْطِ والله أعلم.
وَلَيْسَ لِلْمُعْتَكِفِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ معتكفة إلا لما لأبد لَهُ مِنْهُ، فَإِذَا خرج المعتكف لضرورة وما لأبد لَهُ مِنْهُ وَرَجَعَ فِي فَوْرِهِ بَعْدَ زَوَالِ الضَّرُورَةِ بَنَى عَلَى مَا مَضَى مِنَ اعْتِكَافِهِ ولا شي عَلَيْهِ. وَمِنَ الضَّرُورَةِ الْمَرَضُ الْبَيِّنُ وَالْحَيْضُ. ويَعُودُ الْمَرِيضَ وَيَشْهَدُ الْجَنَائِزَ، وَالْجُمُعَةَ.
"وأنتم عاكفون" جملةٌ حاليةٌ من فاعل "تباشروهُنَّ"، والمعنى: لا تباشروهُنَّ وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المرادُ النهيّ عن مباشرتِهِنَّ في المسجدِ بقيدِ الاعتكافِ، لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً.
والعُكُوف: الإِقامَةُ والملازَمَةُ له، يقال: عَكَف بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قُرىء: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ} الأعراف: 138 بالوجهين وقال الفرزدق:
تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِين كأنَّهم ........... على صَنَمٍ في الجاهليةِ عُكَّفُ
وقال الطرماح :
وظلَّ بناتُ الليلِ حولي عُكَّفاً ............ عكوفَ البواكي بينهنَّ صَريعُ
ويقال: الافتعالُ منه في الخير، والانفعالُ في الشَّرِّ. وأمَّا الاعتكافُ في الشرع فهو إقامةٌ مخصوصةٌ بشرائط، والكلامُ فيه بالنسبة إلى الحقيقةِ الشرعيةِ كالكلام في الصلاةِ.
قرأ قتادة: "عَكِفُون" كأنه يقال: عاكِفٌ وعَكِفُ نحو بار وَبَرّ ورَابٌّ ورَبٌّ. وقرأ الأعمش: "في المسجدِ" بالإِفرادِ كأنه يريد الجنسَ.
قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإِشارة أَخْبَرَ عنه بجمعٍ، فلا يجوز أنْ يُشار به إلى ما نُهِيَ عنه في الاعتكاف لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنَتْه آيةُ الصيامِ من أولها إلى هنا، وآيةُ الصيامِ قد تَضَمَّنَتْ عدةَ أوامِرَ، والأمرُ بالشيء نْهَيٌ عن ضدَّه، فبهذا الاعتبارِ كانَتْ عِدَّةَ مناهيَ، ثم جاء آخرُها صريحَ النهي وهو: "ولا تباشِرُوهُنَّ" فأَطْلَقَ على الكل "حدوداً" تغليباً للمنطوقِ به، واعتباراً بتلك المناهي التي تضمَّنَتْهَا الأوامرُ، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطُرِرْنا إلى هذا التأويلِ لأنَّ المأمورَ به لا يقال فيه "فلا تَقْرَبُوها".
ودخولُ الفاءِ هنا عاطفةٌ على شيءٍ محذوفٍ تقديرُه: تَنَبَّهوا فلا تَقْرَبُوها، ولا يَجُوز في هذه الفاء أَنْ تكونَ زائدةً كالتي في قولِهِ تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} البقرة: 40 على أحدِ القولَيْنِ، لأنه كانَ ينبغي أن ينتصِبَ "حدودَ الله" على الاشتغالِ، لأنه الفصيحُ فيما وَقَعَ قبل أمر أو نهي نحو: "زيداً فاضْرِبْه، وعمراً فلا تُهِنْهُ" فلمَّا أَجْمَعَت القُرَّاءُ هنا على الرفع علمنا أنَّ هذه الجملةَ التي هي "فلا تَقْرَبُوها" منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلاَّ يلزمْ وجودُ غيرِ الفصيحِ في القرآنِ.
والحدودُ: جَمْعُ حَدٍّ وهو المنعُ، ومنه قيلَ للبَوَّاب: حَدَّاد، لأنَّه يَمْنَعُ من العبور. وحَدُّ الشيءِ منتهاه ومنقطَعُه، ولهذا يُقال: الحَدُّ مانِعٌ جامع أي: يَمْنَعَ غير المحدودِ الدخولَ في المحدودِ. والنهيُ عن القربانِ أبْلَغُ من النهيِ عن الالتباسِ بالشيءِ، فلذلك جاءتِ الآيةُ الكريمةُ.
وقال هنا: "فلا تقْرَبُوها" وفي مواضع أُخَرَ: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} البقرة: 229 ومثلُه: {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} البقرة : 229 {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} النساء: 14 لأنه غَلَّب هنا جهةَ النهي إذ هو المُعَقَّبُ بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} وما كان مَنْهِيّاً عن فعلِهِ كان النهيُ عن قُرْبَانِهِ أبلغَ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ فجاء "فلا تَعْتَدُوها" عَقِبَ بيانِ أحكامٍ ذُكِرَت قبلُ كالطلاقِ والعِدَّة والإِيلاءِ والحَيْض والمواريث، فناسَبَ أن يَنْهَى عن التَّعدِّي فيها، وهو مجاوَزَةُ الحَدِّ الذي حَدَّه اللَّهُ فيها.
قوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} الكافُ في محلِّ نصب: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: بياناً مثلَ هذا البيانِ، أو حالاً من المصدرِ المحذوفِ كما هو مذهبُ سيبويه.