الدر النظيم ... سورة البقرة ، الآية : 166

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
تبرأ المتبوع من التابع وتبرأ الرئيس المتغطرس من المرؤوس الذليل الضعيف، وهذا كما قال الله تعالى في سورة إبراهيم (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22).
قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: هُمُ الشَّيَاطِينُ الْمُضِلُّونَ تَبَرَّءُوا مِنَ الْإِنْسِ. وهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَتْبُوعٍ.
{وَرَأَوُا الْعَذابَ} يَعْنِي التَّابِعِينَ وَالْمَتْبُوعِينَ، قِيلَ: بِتَيَقُّنِهِمْ لَهُ عِنْدَ المعاينة في الدنيا ساعة الاحتضار. وقيل: عند العرض والمسألة فِي الْآخِرَةِ. وكِلَاهُمَا حَاصِلٌ، فَهُمْ يُعَايِنُونَ عِنْدَ الْمَوْتِ مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ مِنَ الْهَوَانِ، "لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد" سورة ق:22 وَفِي الْآخِرَةِ يَذُوقُونَ أَلِيمَ الْعَذَابِ وَالنَّكَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى:{وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ} أَيِ الْوُصُلَاتُ الَّتِي كَانُوا يَتَوَاصَلُونَ بِهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ رَحِمِ وَغَيْرِهِ. الْوَاحِدُ سَبَبٌ وَوُصْلَةٌ.
وَأَصْلُ السَّبَبِ الْحَبْلُ يَشُدُّ بِالشَّيْءِ فَيَجْذِبُهُ، ثُمَّ جُعِلَ كُلُّ مَا جَرَّ شَيْئًا سَبَبًا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ الْأَسْبَابَ أَعْمَالَهُمْ. وَالسَّبَبُ النَّاحِيَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرٍ:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ رام أسباب السماء بسلم
وقد وُجِد هنا نوعٌ من أنواعِ: البديع هو الترصيعُ، وهو عبارةُ عن تَسْجِيع الكلامِ ، وهو هنا في موضعَيْن، أحدُهما {اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} ولذلك حَذَفَ عائدَ الموصولِ الأولِ فلم يَقُلْ: من الذين اتَّبعوهم لفوات ذلك. والثاني: {وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} وهو كثيرٌ في القرآنِ.
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ} إذْ: بدلٌ من "إذ يَرَوْن" أو هي منصوبةٌ بقولِه: "شديدُ العذاب". و "تَبَرَّأ" في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه. والتبرُّؤُ: الخلوصُ والانفصال، ومنه: بَرِئْتُ من الدَّيْن، والجمهورُ على تقديم "اتُّبِعوا" مبنياً للمفعول على "اتَّبعوا" مبنياً للفاعل . وقرأ مجاهد بالعكس ، وهما واضحتان ، إلاَّ أنَّ قراءة الجمهورِ واردةٌ في القرآنِ أكثرَ .
قوله: {وَرَأَوُاْ العذاب} عطفٌ على ما قبلها ، فتكونُ داخلةً في حَيِّز الظرف ، تقديرُه: "إذ تبرّأ الذين اتُّبِعوا ، وإذْ رَأَوا".
قوله: {وَتَقَطَّعَتْ} الواوُ للحال أو للعطفِ ، عَطَفَتْ "تَقَطَّعَتْ" على "تَبَرَّأ" ، وقوله: "ورأوا" حال .
والباءُ في "بهم" فيها أربعةُ أوجهٍ ، أحدُهُما: أنَّها للحالِ أي: تَقَطَّعَتْ موصولةً بهم الأسبابُ نحو: "خَرَج بثيابه" . الثاني: أن تكونَ للتعديةِ ، أي: قَطَّعَتْهُم الأسبابُ كما تقولُ: تَفَرَّقَتْ بهم الطرقُ أي: فَرَّقَتْهم. الثالث: أن تكون للسببية، أي: تَقَطَّعتْ بسببِ كفرِهم الأسبابُ التي كانوا يَرْجُون النجاة بها. الرابع: أن تكونَ بمعنى "عن"، أي: تَقَطَّعت عنهم .