فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
يقول الله ـ تباركت أسماؤه ـ : فإن سلكوا طريقتكم ، وأخذوا بسبيلكم ، أُكرِموا بما أُكْرمتم ، ووصلوا إلى ما وصلتم ، وإنْ أبَوْا إلا امتيازاً أبَيْنَا إلا هوانهم .
قوله تعالى: {بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} في الباءِ أقوالٌ ، أحدُها: أنها زائدةٌ كما هي في قولِه: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} البقرة: 195 وقوله: {وهزّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ} مريم: 25 وقول الشاعر:
. . . . . . . . . . . . . . . .... ... سُودُ المَحاجِرِ لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ
والثاني: أنها بمعنى "على" ، أي: فإنْ آمَنوا على مثلِ إيمانكم بالله . والثالث: أنَّها للاستعانةِ كما هي في "نَجَرْتُ بالقَدُوم" و"كَتَبْتُ بالقلم" والمعنى: فإنْ دَخَلوا في الإِيمانِ بشهادةٍ مثلِ شهادتِكم .
وعلى هذه الأوجهِ فيكونُ المؤمَنُ به محذوفاً، و"ما" مصدريةً والضميرُ في "به" عائداً على الله تعالى ، والتقديرُ: فإنْ آمنوا باللهِ إيماناً مثلَ إيمانِكم به ، و"مثل"هنا فيها قولان ، أحدُهما: أنَّها زائدةٌ والتقديرُ: بما آمنْتُم به ، وهي قراءة عبدِ الله بنِ مسعودٍ وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ ، وذكر البيهقي عن ابن عباس: "لا تقولوا بمثلِ ما آمنتم به فإنَّ اللهَ لَيس لَه مِثْلٌ ولكن قولوا بالذين آمنتم به} وهذه تُرْوَى قراءةً عن أُبَيّ ، ونظيرُها في الزيادةِ قولُ الشاعرِ:
فَصُيِّروا مثلَ كعصفٍ مَأْكُولْ ...
وقال بعضهم:هذا من مجازِ الكلام تقولُ: هذا أمرٌ لا يَفْعَلُه مثلُك، أي لا تَفْعَلُه أنت ، والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به ، وهو يَؤُول إلى إلغاءِ "مثل" وزيادتِها ، والثاني: أنها ليست بزائدةٍ ، والمثليةُ متعلقةٌ بالاعتقادِ ، أي: فإن اعتقدوا بمثلِ اعتقادكم ، أو متعلقةٌ بالكتابِ أي: فإنْ آمنوا بكتاب مثلِ الكتابِ الذي آمنتُمْ به ، والمعنى: فإنْ آمَنوا بالقرآنِ الذي هو مُصَدَّقٌ لِما في التوراةِ والإِنجيلِ ، وهذا التأويلُ ينفي زيادةَ الباء . و"ما" في قولِه: { بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ } فيها وجهان ، أحدُهما: أنَّها بمعنى الذي والمرادُ بها حينئذٍ: إمَّا اللهُ تعالى بالتأوِيل المتقدِّمِ عِندَ مَنْ يُجيز وقوعَ "ما" على أولي العلمِ نحو: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} الشمس:5 وإمَّا الكتابُ المنزَّلُ .
والثاني: أنَّها مصدريةٌ وقد تقدَّم ذلك . والضميرُ في "به" فيه أيضاً وجهان ، أحدُهما: أنَّه يعودُ على اللهِ تعالى كما تقدَّم . والثاني: أن يعودَ على "ما" إذا قيل: إنَّها بمعنى الذي .
قوله: {فَقَدِ اهتدوا} جوابُ الشرط في قوله: "فإنْ آمنوا"، وليس
الجوابُ محذوفاً،كهو في قوله:{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} فاطر:4 لأنَّ تكذيبَ الرسلِ ماضٍ محقَّقُ هناك فاحتجْنا إلى تقديرِ جوابٍ ، وأمَّا هنا فالهدايةُ منهم لم تقعْ بعدُ فهي مستقبلةٌ معنىً وإن أُبْرِزَتْ في لفظِ المُضِيّ .
قوله: {فِي شِقَاقٍ} خبرٌ لقوله: "هم" وجَعَلَ الشِّقاقَ ظرفاً لهم وهم مظروفون له مبالَغَةً في الإِخبارِ باستعلائِه عليهم ، وهو أَبْلَغُ مِنْ قولِك هم مُشاقُّون ، ومثلُه: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} الأعراف: 66 ونحوُه: والشِّقاقُ مصدرٌ من شاقَّه يُشاقُّه نحو: ضاربه ضِراباً ، ومعناه المخالَفَةُ والمُعَادَاةُ ، وفي اشتقاقِه ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها: أنه من الشِّقِّ وهو الجانبُ .
وذلك أن أحد المُشاقِّين يَصير في شِقِّ صاحبِه أي: جانبِه ، قال امرؤ القيس:
إذا ما بَكَى مِنْ خَلْفِها انْصَرَفَتْ له ......... بشِقًّ وشِقٌّ عندَنا لم يُحَوَّلِ
أي: بجانبٍ .
الثاني: أنه من المَشَقَّة فإنَّ كلاً منهما يَحْرِصُ على ما يَشُقُّ على صاحبِه .
الثالث: أنَّه من قولهم: "شَقَقْتُ العَصا بيني وبينك" وكانوا يفعلون ذلك عند تَعادِيهم، والفاءُ في قولهِ:"فَسَيَكْفِيكَهُم" تُشْعِرُ بتعقيبِ الكفاية عَقِبَ شِقاقهم . وجيءَ بالسينِ دونَ سوف لأنها أقربُ منها زماناً بوَضْعِها ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: فسيكفيكَ شِقاقَهم؛ لأنَّ الذواتِ لا تُكْفى إنما تُكْفَى أفعالُها ، والمَكْفِيُّ به هنا محذوفٌ أي: بمَنْ يَهْدِيه الله أو بتفريق كلمتِهم .
وقوله: {فسيكفيكم الله وهو السميع العليم} كفاية الله متحققة لأنّ عناية الله بكم متعلقة ، فمن نابذكم قصمته أيادي النصرة ، ومن خالفكم قهرته قضايا القسمة ، وهو السميع لمناجاة أسراركم معنا على وصف الدوام، العليم باستحقاقكم "منّا" خصائص اللطف والإكرام .