وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (127)
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ}إذ: عطفٌ على "إذ" قبلها فالكلامُ فيهما واحِدٌ ، و"يرفعُ"في معنى رفَعَ ماضياً ، لأنَّها من الأدواتِ المخلِّصةِ المضارعَ للمُضِيّ ، وآثر صيغة المضارع مع أن القصة ماضية استحضاراً لهذا الأمر ليقتدي الناس به في إتيان الطاعات الشاقة مع الابتهال في قبولها وليعلموا عظمة البيت المبني فيعظموه .
و{القواعدُ} جمع قاعدة وهي الأساس والأصل لِما فوقُ ، وهي صفةٌ غالبة ومعناها الثابتة ، ومنه "قَعَّدك الله" أي: أسأل الله تَثْبيتك ، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها ، لأنه إذا بُني عليها نُقِلَتْ من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع . ورفع القواعد على هذا المعنى مجاز عن البناء عليها إذ الظاهر من رفع الشيء جعله عالياً مرتفعاً ، والأساس لا يرتفع بل يبقى بحاله لكن لما كانت هيأته قبل البناء عليه الانخفاض ولما بني عليه انتقل إلى هيأة الارتفاع بمعنى أنه حصل له مع ما بني عليه تلك الهيأة صار البناء عليه سبباً للحصول كالرفع فاستعمل الرفع في البناء عليه واشتق من ذلك ، وأمّا القواعدُ من النساء فمفردُها " قاعِد " من غير تاءٍ لأنَّ المذكر لاحظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج . ولم يقل "قواعد البيت" بالإِضافة لِما في البيان بعد الإِبهام من تفخيمِ شَأْنِ المبيَّن.
قوله: {مِنَ البيت} فيه وجهان ، أحدُهما: أنَّه متعلِّقٌ بـ "يرفع" ومعناها ابتداءُ الغايةِ . والثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "القواعدِ" فيتعلَّقُ بمحذوفٍ تقديرُه: كائنةً من البيت ، ويكون معنى "مِنْ" التبعيضَ .
قوله: {وَإِسْمَاعِيلُ} فيه قولان ، أحدُهما ـ وهو الظاهرُ ـ أنَّه عطفٌ على "إبراهيم" فيكونُ فاعلاً مشاركاً له في الرفعِ ، ويكونُ قولُه: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} في محلِّ نَصْب بإضمار القولِ ، ذلك القولُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ منهما أي: يَرْفَعان يقولان: ربَّنَا تقبَّلْ ، ويؤيِّد هذا قراءةُ عبد الله بإظهار فعلِ القولِ ، قرأ: "يقولان ربَّنا تقبَّلْ" أي: قائِلين ذلك ، ويجوز ألاَّ يكونَ هذا القولُ حالاً بل هو جملةٌ معطوفةٌ على ما قبلها ، ويكونُ هو العاملَ في "إذ" قبله ، والتقديرُ: يقولان ربَّنا تقبَّلْ إذ يرفعان أي: وقتَ رَفْعِهما . والثاني: الواوُ واو الحالِ ، و"إسماعيلُ" مبتدأٌ وخبرهُ قولٌ محذوفٌ هو العاملُ في قولِه: "ربَّنا تَقبَّلْ" فيكونُ "إبراهيم" هو الرافعَ ، و"إسماعيلُ" هو الداعيَ فقط ، قالوا: لأنَّ إسماعيلَ كان حينئذٍ طفلاً صغيراً ، وَرَوْوه عن علي عليه السلام . والتقديرُ: وإذ يرفع إبراهيمُ حالَ كونِ إسماعيل يقول: ربَّنا تقبَّلْ منا .
وفي المجيء بلفظِ الربِّ تنبيهٌ بذِكْرِ هذه الصفةِ على التربية والإصلاح . وتقبَّلْ بمعنى اقبْلَ ، فتفعَّلْ هنا بمعنى المجرَّد . وتقدَّم الكلام على نحوِ {إِنَّكَ أَنتَ السميع} من كون "أنت" يجوزُ فيه التأكيدُ والابتداءُ والفصلُ ، وتقدَّمت صفةُ السمع وإن كان سؤالُ التقبُّلِ متأخراً عن العمل للمجاوَرَةِ ، كقولِه: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت} آل عمران: 106 وتأخَّرت صفةُ العِلْمِ لأنَّها فاصلةٌ ، ولأنَّها تَشْمَل المسموعاتِ وغيرَها .