وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ
(124)
قوله جلّ ذكره: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} البلاء تحقيق الولاء ، فأصدقهم ولاءً أشدُّهم بلاءً . ولقد ابتلى الحقُّ سبحانه خليلَه عليه السلام بما فرض عليه وشرع له ، فقام بشرط وجوبها ، ووَفَّى بحكم مقتضاها ، فأثنى عليه سبحانه بقوله: { وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى } النجم: 37 ، أي لم يُقَصِّر بوجهٍ البتّة . فكان متخلّياً عن جميع ما سواه ، سِرًّا وعَلَنًا ، فلم يلاحظ جبريلَ ، عليه السلام ، حين تعرّض له وهو يُقْذف في لُجَّةِ الهَلاك ، فقال: هل لك من حاجة ؟ فقال: أمَّا إِليكَ فلا .....
{ربُّه} يعود الضميرُ إلى إبراهيم ، وقدِّمَ المفعولُ لفظاً وإن كان مؤخراً رتبةً ، والابتلاء فى الأصل الاختبار .
{بكلمات} جمع كلمة وهى اللفظ الموضوع لمعنى مفرد فيكون الكلمات عبارة عن الألفاظ المنظومة ، لكنّها قد تُطلَق على المعاني التي تحتها لما بين الدالّ والمدلول من التضايف ، والمتضايفان متكافئان في الوجود كما فى قوله تعالى: {وتمت كلمةُ ربّكَ صدقاً وعدلاً} أي قضيةً وحكمةً ، وقولُه {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي} أي للمعاني التى تبرز بالكلمات .
{فاتمّهنّ} أي قام بهنّ حقَّ القيام وأدّاهُنّ أحسنَ التأدية من غير تفريط وتوان ، ولذا قيل لم يُبْتَلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلاّ إبراهيم فكتب الله له البراءة فقال {وإبراهيم الذي وفّى} .
وفُسّرَتْ الكلماتُ بوجوهٍ ذُكرت منها العشرُ التى هي من السنة كما قال ابن عباس رضى الله عنهما هي عشرُ خصال كانت فرضاً في شِرعه وهي سنَّةٌ فى شرعنا ، خمسٌ منها فى الرأس وهى: المَضمَضَةُ ، والاسْتِنْشاقُ ، وفَرْقُ الرأسِ ، وقَصُّ الشاربِ ، والسِواكُ . وخمسٌ في البدن وهي: الخِتانُ ، وحلْقُ العانَةِ ، ونَتْفُ الإبِطِ ، وتقليمُ الأظفار ، والاسْتِنْجاءُ بالماء ، أي غَسْلُ مكانِ الغائطِ والبولِ بالماءِ . ولْنَذْكُرْ منها بعضَ ما يحتاج إلى البيان فنقول: فَرْقُ شَعرِ الرأسِ تفريقُه وتقسيمُه إلى نصفين ، وكان المشركون يفرقون أشعارَ رُؤسِهم وأهلُ الكتاب يٌسدِلون ، أي يُرسِلون شُعورَهم على الجبين وهي شعرُ الناصية ، وكان النبي ، عليه الصلاة والسلام ، يحبّ موافقةَ أهلِ الكتاب فيما لم ينزل فيه حٌكْمٌ لاحتمالِ أنْ يعملوا بما ذُكِرَ في كتابهم . ثمّ نَزَلَ جبريلُ فأمره بالفَرْق .
وكان عليه الصلاة والسلام يَقُصُّ شاربَه كلَّ جُمعةٍ قبلَ أنْ يخرج إلى صلاةِ الجُمُعةِ .
قال النووي: المختارُ فيه أنْ يَقُصَّ حتّى يَبدو طَرَفُ الشَفَةِ ، ويكون مثل الحاجب ، وفي أحياءِ علومِ الدين ، لا بأس بتركِ طِرِفيّ الشارب . فَعَلَ ذلك عمرٌ رضي اللهُ تعالى عنه وغيرُه لأنَّ ذلك لا يَسْتُرُ الفَمَ ولا يَبقى فيه غمرُ الطعام وتوفيرُ الشاربِ كتوفيرِ الأَظافرِ مندوبٌ للمُجاهد فى دار الحرب ، وإن كان قطعُهُما من الفطرة ، وذلك ليكون أهيبَ فى عين العدو ، والسُنّةُ تقصيرُ الشارِبِ فحَلْقُه بِدْعةٌ كَحَلْقِ اللِّحْية . وفى الحديث: (( جُزّوا الشواربَ واعفوا اللِّحى)) والجَزُّ: القَصُّ والقَطْعُ ، والإعفاءُ: التوفيرُ والتركُ على حالها ، وحَلْقُ اللِّحْيَةِ قبيحٌ ، بَلْ مُثْلَةٌ وحرام . وكما أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الرأسِ فى حقِّ المرأةِ مُثْلَةٌ منهيٌّ عنها ، وتَشبُّهٌ بالرجال ، وتفويتٌ للزينَةِ . قال الفقهاءُ: اللِّحْيةُ في وَفْرِها جمالٌ وفي حَلْقِها تَفويتُه على الكَمال ومِنْ تسبيحِ الملائكة سبحانَ مَن زَيّنَ الرجالَ باللِّحى وزيَّنَ النِساءَ بالذوائب .
ولا بأسَ بأخذِ الزائدِ على القَبْضةِ مِن اللِّحْيةِ لأنّه ـ عليه الصلاةُ والسلام ـ كان يأخذ من لحيتِه طولاً وعرضاً إذا زاد على قَدْرِ القبضة ، ويُكرَهُ نَتفُ الشيبِ كُرْها للشيبِ وإراءة للشباب .
وأمّا الخِتانُ فهو قَطْعُ الجِلْدِ الزائدة من الذكر ، وجمهور العلماء على أنّ ذلك من مؤكدات السنن ومن فطرة الإسلام التي لا يسع تركها فى الرجال إلاّ أن يُولَد الصبي مختوناً ، وقد وُلِد الأنبياء كلُّهم مختونين مسرورين ، أي مقطوعي السرّة كرامة لهم إلاّ إبراهيم خليل الله فإنّه خَتن نفسَه ببَلْدةِ قدوم ، بالتخفيف والتشديد ، وهو ابن مئة وعشرين .
واختلفوا في الختان قيل لا يختن حتى يبلغ لأنّه للطهارة ولا طهارة عليه حتى يبلغ ، وقيل إذا بلغ عشراً ، وقيل تسعاً ، وقيل فيما بين سبع سنين إلى عشر ، وقيل المستحب في وقت الختان من اليوم السابع من ولادته إلى عشر سنين ، ويُكره الترك إلى وقت البلوغ وتوقف أبو حنيفة في وقته ، واستحبّ العلماء فى الرجل الكبير يُسلِمُ أن يختتن وإن بلغ ثمانين . وعن الحسن أنه كان يرخص للشيخ الذي يُسلم أن لا يختتن ولا يرى به بأساً ولا يُردّ شهادتَه وذبيحتَه وحَجَّه وصلاتَه ، قال ابن عبد البَرّ: وعامّة أهل العلم على هذا .
وأمّا تقليمُ الأظفار فهو قصُّها والقُلامة بالضم ما يُزالُ منها ، ونُدِبَ قصُّ الأظفار لأنّه ربما يُجنِبُ ولا يَصل الماءُ إلى البشرة بسبب تراكم الوسخ فيبق جُنُباً ، فمن أجنب وبقي موضع إبرة من جسده بعد الغسل غير مغسول فهو جُنُبٌ حتى يعمَّ الغسلُ جسدَه كلَّه ، وفي الحديث: ((مَن قلّم أظفارَه يومَ الجمعة أعاذه الله تعالى من البلايا إلى الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام)) . وفي الحديث الآخر: ((مَن أراد أن يأمَنَ من الفَقر وشِكاية العين فلْيُقلِّمْ أظفارَه يوم الخميس بعد العصر)) .
وذكر الإمام النووى أن المستحب منه أن يبدأ باليدين قبل الرجلين فيبتدئ بمُسَبِّحةِ يدِه اليُمنى ثم الوسطى ثم البُنْصُر ثم الخُنْصُر ثم الإبهام ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها إلى آخرها ثم يعود إلى الرِجل اليُمنى فيبدأ بخُنصرها ويختم بخنصر الرجل اليسرى ، وهكذا قرره الإمام الغزالي في الإحياء وفى الحديث: (( نَقُّوا بَراجمَكم )) وهي مفاصل الأصابع والعُقد التي على ظهرها يجتمع فيها الوسخ واحدها بٌرْجُمة بضم الباء والجيم وسكون الراء بينهما ، وهو ظهر عقدة كلِّ مفصل فظهر العقدة يُسمى بُرجمة وما بين العقدتين يسمى راجبة وجمعها رواجب ، وذلك مما يلى ظهرها وهو قصبة الأصابع فلكل أصبع برجمتان وثلاث رواجب إلا الإبهام فإن له برجمة وراجبتين فأمر بالتنقية .
وعن مجاهد قال أبطأ جبرائيل عليه السلام على النبى صلى الله تعالى عليه وسلم فقال له النبى عليه السلام (( ما حَبَسك يا جبريل )) قال وكيف آتيكم وأنتم لا تقصِّرون أظفارَكم ولا تأخُذون من شواربكم ولا تُنقّون بَراجمكم ولا تستاكون ثم قرأ: {وما نتنزل إلاّ بأمر ربك} .
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ}كأنه قيل فماذا قال له ربّه حين الكلمات فقيل {قال إني جاعلك للناس} أي لأجل الناس {إماماً} يأتمون بك فى هذه الخصال ويقتدي بك الصالحون فهو نبيٌّ فى عصره ومُقتَدىً لكافّة الناس إلى قيام الساعة. وقد أنجز الله وعده له فقال لمحمد صلى الله تعالى عليه وسلم: {ثم أوحينا اليك أن اتبع ملّة إبراهيم} ونحو ذلك فلذلك اجتمع أهلُ الأديان كلّهم على تعظيمِه ، وجميعُ أمّة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ، يقولون فى آخر صلاتهم اللّهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، قيل في سبب ذلك أنا لما قلنا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد قيل لنا إن إبراهيم هو الذى طلب من الله تعالى أن يرسل إليكم مثل هذا الرسول الذى هو رحمة للعالمين حيث قال: {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم } فما هَديَّتُكم فحينئذ نقول كما صليت على إبراهيم .. الخ . ثم نلاحظ أنّ هذه الخيرات كلها من الله تعالى ، فنقول شكراً لإحسانه ربنا إنك حميد مجيد .
وفى الخبر أنّ إبراهيم عليه السلام رأى فى المنام جنّة عريضة مكتوبٌ على أشجارها لا إله إلاّ الله محمد رسول الله فسأل جبريل عنها فأخبره بالقصة فقال: يا ربِّ أَجْرِ على لسان أمّة محمد ذكري فاستجاب الله دعاءه وضمّه في الصلاة مع محمد صلى الله عليه وسلم ، قال كأنّه قيل فماذا قال إبراهيم عليه السلام عند ذلك فقيل: { قال ومن ذريتي } عطف على الكاف في جاعلك ، و" من " تبعيضيّة متعلقة بجاعل أي وجاعل بعض ذريتي إماماً يقتدى به أي اجعل لكنه راعى الأدب بالاحتراز عن صورة الأمر وتخصيص البعض بذلك لبداهة استحالة إمامة الكلّ وإن كانوا على الحق ، والذريّة نسلُ الرجل وقد تطلق على الآباء والأبناء من الذكور والإناث والصغار والكبار ومنه قوله تعالى: {وآية لهم أنّا حملنا ذريتهم} أراد آباءهم الذين حملوا فى السفينة وتقع الذرية على الواحد كما فى قوله تعالى: {ربّ هب لي من لدنك ذريّة طيّبة} يعني ولداً صالحاً {قال} الله استئنافٌ أيضاً {لا ينال} لا يصيب {عهدي الظالمين} يعني إنّ أولادك منهم مسلمون وكافرون فلا تصل الإمامة والاستخلاف ، بالنبوة الذي عهدت إليك ، من كان ظالماً من أولادك وغيرهم وإنما ينال عهدي من كان بريئاً من الظلم لأن الإمام إنما هو لمنع الظلم فكيف يجوز أن يكون ظالماً.
{ وَإِذِ ابتلى إبراهيمَ رَبُّهُ بكلمات } في مُتَعَلَق { إِذْ } احتمالات تقدّمت الإشارةُ إليها ، فمن الممكن تعلُّقُها بـ { قَالَ } الآتي بعدها ، وعلّقها بعضُهم بمضمر مؤخّّرٍ ، أيْ كان كيت وكيت والمشهور: تعلّقها بمضمر مقدّم تقديرُه اذكر أو اذكروا وقت كذا ، والجملة حينئذ معطوفة على ما قبلها عطفَ القصة على القصة ، والجامع الاتحاد في المقصد ؛ فإن المقصد من تذكيرهم وتخويفهم تحريضُهم على قبول دينه ـ صلى الله عليه وسلم ـ واتباعِ الحقّ ، وترْكِ التعصُّبِ ، وحبِّ الرئاسة ، كذلك المقصد من قصة إبراهيم عليه السلام وشرح أحواله ، الدعوة على ملة الإسلام ؛ وترك التعصب في الدين ، وذلك لأنّه إذا عُلمَ أنّه نال الإمامة بالانقياد لحكمه تعالى وأنه لم يستجب دعاءه في الظالمين وأنّ الكعبة كانت مطافاً ومعبداً في وقته مأموراً هو بتطهيره ، وأنّه كان يحجّ البيتَ داعياً مبتهلاً كما هو في دين النبي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنّ نبيّنا عليه الصلاة والسلام من دعوته ، وأنه دعا في حقّ نفسِه وذريَّته بملّةِ الإسلام ، كان الواجب على من يعترف بفضلِه وأنّه من أولاده ، ويزعم اتّباعَ ملّته ؛ ويباهي بأنه من ساكن حرمِه وحامي بيته ، أن يكون حاله مثل ذلك ، ويجوز العطف على {نِعْمَتِيَ } أي: اذكروا وقتَ ابتلاء إبراهيم فإنّ فيه ما يَنفعُكم ويردُّ اعتقادَكم الفاسدَ أَنّ آباءكم شفعاؤكم يوم القيامة ، لأنه لم يقبل دعاء إبراهيم في الظَلَمَةِ . ويدفعُ عنكم حبَّ الرئاسة المانعَ عن متابعة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنّه يُعلم منه أنه لا ينال الرئاسة الظالمين .
والابتلاء في الأصل الاختبار كما قدّمنا والمرادُ به هنا التكليف ، أو المعاملة ، معاملة الاختبار مجازاً ، إذ حقيقة الاختبار محالة عليه تعالى لكونه عالم السرَّ والخفيّات .
و"إبراهيم" علم أعجمي ، قيل: معناه قبل النقل أب رحيم ، وهو مفعولٌ مقدَّم لإضافة فاعله إلى ضميره ، والتعرُّضُ لعنوان الربوبية تشريفٌ له ـ عليه الصلاةُ والسلام ـ وإيذانٌ بأنّ ذلك الابتلاءَ تربيةٌ له وترشيحٌ لأمرٍ خطير .
و"الكلمات" جمع كلمة وأصل معناها اللفظ المفرد وتستعمل في الجمل المفيدة ، وتطلق على معاني ذلك لما بين اللفظ والمعنى من شدّة الاتصال واختُلف فيها ، فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: إنها العَشَرةُ التي من الفطرة ، المضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب ، وإعفاء اللحية، والفَرق، ونتف الإبط ، وتقليم الأظفار ، وحلق العانة، والاستطابة ، والخِتان .
وعنه أيضاً: لم يُبْتَلَ أحدٌ بهذا الدين فأقامه كلَّه إلاّ إبراهيم ، ابتلاه الله تعالى بثلاثين خصلة من خصال الإسلام ، عشر منها في سورة براءة الآية (112) { التائبون .. } الخ ، وعشرٌ في الأحزاب الآية (53) {إِنَّ المسلمين والمسلمات .. } الخ ، وعشر في سورة: المؤمنين وسورة: {سَأَلَ سَائِلٌ} إلى { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} المعارج .
وفي رواية الحاكم في "مستدركه" أنها ثلاثون ، وعد السور الثلاثة الأول ولم يعد السورة الأخيرة ، فالذي في براءة التوبة والعبادة والحمد والسياحة والركوع والسجود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحفظ لحدود الله تعالى ، والإيمان المستفاد من { وَبَشّرِ المؤمنين } التوبة : 112 أو من { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين } التوبة : 111 في الأحزاب ، الإسلام والإيمان والقنوت والصدق والصبر والخشوع والتصدق والصيام والحفظ للفروج ، والذكر والذي في المؤمنين : الإيمان والخشوع والإعراض عن اللغو والزكاة والحفظ للفروج إلا على الأزواج أو الإماء ثلاثة والرعاية للعهد ، والأمانة اثنين ، والمحافظة على الصلاة ، وهذا مبني على أن لزوم التكرار في بعض الخصال بعد جمع العشرات المذكورة ، كالإيمان والحفظ للفروج لا ينافي كونها ثلاثين تعداداً إنما ينافي تغايرها ذاتاً ومن هنا عدت التسمية مائة وثلاث عشرة آية عند الشافعية باعتبار تكررها في كل سورة ، وما في رواية عكرمة مبني على اعتبار التغاير بالذات وإسقاط المكررات ، وعده العاشرة البشارة للمؤمنين في براءة ، وجعل الدوام على الصلاة والمحافظة عليها واحداً { والذين فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لَّلسَّائِلِ والمحروم } المعارج: 4 2 ، 5 2 غير الفاعلين للزكاة لشموله صدقة التطوع وصلة الأقارب ، وما روي أنها أربعون وبينت بما في السور الأربع مبني على الاعتبار الأول أيضاً فلا إشكال وقيل : ابتلاه الله تعالى بسبعة أشياء : بالكوكب ، والقمرين ، والختان على الكبر ، والنار ، وذبح الولد ، والهجرة إلى الشام .
قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} العاملُ في "إذ" "اذكر" مقدراً ، وهو مفعولٌ ، وقد تقدَّم أنَّه لا يَتَصَرَّفُ .
و"ابتلى" وما بعده في محلِّ خفضٍ بإضافةِ الظرفِ إليه . وأصلُ "ابتلى": ابتلَوَ ، فألفُه عن واوٍ ، لأنَّه من بَلا يَبْلو أي: اختبرَ .
و"إبراهيمَ" مفعولٌ مقدمٌ، وهو واجبُ التقديمِ عند جمهورِ النحاةِ؛ لأنه متى اتَّصل بالفاعلِ ضميرٌ يعودُ على المفعولِ وَجَبَ تقديمُه لئلا يعودَ الضميرُ على متأخِّرٍ لفظاً ورتبةً . وهو المشهورُ .
و"إبراهيم" عَلَمٌ أَعْجَمي ، قيل: معناه قبل النقلِ: أبٌ رحيمٌ ، وفيه لغاتٌ تسعٌ ، أشهرُها: إبراهيم بألف وياء ، وإبراهام بألِفَيْن ، وبها قرأ هشام وابنُ ذكوان في أحدِ وَجْهَيْهِ في البقرةِ ، وانفرَدَ هشام بها في ثلاثةِ مواضعَ من آخرِ النساءِ وموضِعَيْنِ في آخرِ بَراءة وموضعٍ في آخرِ الأنعام وآخرِ العنكبوت ، وفي النجم والشورى والذاريات والحديد والأول من الممتحنة ، وفي إبراهيم وفي النحل موضعين وفي مريم ثلاثة ، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسةَ عشرَ في البقرة وثمانيةَ عشرَ في السور المذكور . ورُوي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك.
ويروى أنه قيل لمالكِ بنِ أنس: إنَّ أهلَ الشامِ يقرؤون ستةً وثلاثين موضعاً: إبراهام بالألف ، فقال: أهلُ دمشقِ بأكل البطيخ أبصرُ منهم بالقرآءة . فقيل: إنَّهم يَدَّعون أنها قراءةُ عثمانَ ، فقال: هذا مصحفُ عثمانَ فَأَخْرجه فوجَدَه كما نُقِل له . الثالثة: إبراهِم بألفٍ بعد الراء وكسرِ الهاءِ دون ياءٍ ، وبها قرأ أبو بكر ، وقال زيدٌ بن عمرو بن نفيل:
عُذْتُ بما عاذَ به إبراهِمُ ................ إذ قالَ وَجْهي لك عانٍ رَاغِمُ
الرابعة:كذلك،إلا أنه بفتحِ الهاءِ. الخامسة:كذلك إلا أنه بضمِّها.