وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
إقامة الصلاة ، أداؤها بحدودها وفروضها ، وأما قوله: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله} يعني جلّ ثناؤه مهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم ، فتقدموه قبل وفاتكم ذخراً لأنفسكم في معادكم ، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة ، فيجازيكم به . و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله . و" تجدوه " أي: تجدوا ثوابه . وإنما أمرهم جلّ ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم ، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود ، وركون من كان ركن منهم إليهم ، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "راعنا" إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيراً للنفوس والأبدان من أدناس الآثام ، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله . وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعداً ووعيداً ، وأمراً وزجراً . وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ، ليجِدّوا في طاعته ، وليحذروا معصيته ، وأما قوله: "بصير" فإنه " مُبصِرٌ" صُرِّفَ إلى "بصير"، كما صُرِّفَ "مبدع" إلى"بديع" ، و"مؤلم" إلى"أليم".
قوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} البقرة: 106 فيجوز في "ما" أن تكونَ مفعولاً بها وأن تكونَ واقعةً موقعَ المصدرِ ، ويجوز في "مِنْ خيرٍ" الأربعةُ الأوجهِ التي في "من آية" . من كونِه مفعولاً به أو حالاً أو تمييزاً أو متعلقاً بمحذوفٍ. و"مِنْ" للتبعيض، وقد تقدَّم تحقيقُها. و"لأنفسِكم" متعلِّق بتقدِّموا، أي:لحياةِ أنفسِكم، فَحُذِفَ، و"تَجِدُوه" جوابُ الشرطِ ، وهي المتعدِّيةُ لواحدٍ لأنها بمعنى الإِصابةِ ، ومصدرُها الوِجْدانُ بكسرِ الواو كما تقدَّم ، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ أي: تَجدوا ثوابَه ، وقد جَعَلَ الزمخشري الهاءَ عائدةً على "ما" وهو يريد ذلك ، لأنَّ الخيرَ المتقدِّم سببٌ مُنْقَضٍ لا يوجد ، إنما يوجد ثوابُه . قوله: "عند الله" يجوزُ فيه وجهان . أحدُهما: أنه متعلقٌ بـ "تجدوه". والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ أي: تَجِدُوا ثوابَه مُدَّخَراً مُعَدَّاً عند الله ، والظرفيةُ هنا مجازٌ نحو: "لك عندَ فلانٍ يدُ" .