وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ
(83)
{ وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل } في التوراة ، والميثاق العهد الشديد ، وهو على وجهين عهدُ خلقة وفطرة وعهد نبوة ورسالة ، ” وإذ ” : نصبٌ بإضمار فعلٍ خُوطِبَ به النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون للتأمل في أحوالهم وقطع الطمع بإيمان أخلافهم لأنّ قبائح أسلافهم مما تؤدي إلى عدم إيمانهم ، لأن الحيّةَ لا تلد إلا مثلها ، ومن هنا قيل إذا طاب أصل المرء طابت فروعه .
{ لا تعبدون إلا الله } أي أن لا تعبدوا فلما اسقط ” أن ” رفع تعبدون لزوال الناصب ، أو على أن يكون إخباراً فى معنى النهى كما تقول تذهب إلى فلان وتقول له كذا ” تريد به الأمر ” ، أي اذهب وابلغه من صريح الأمر والنهي لما فيه من إيهام أن المنهي حقه ان يسارع إلى الانتهاء عما نهي عنه فكأنه انتهى عنه فيخبر به الناهي أي لا توحّدوا إلا الله ولا تجعلوا الألوهيّة إلا لله ، وقيل انه جواب قسم دل عليه المعنى كأنه قيل وأحلفناهم وقلنا بالله لا تعبدون إلا الله .
{ وبالوالدين إحساناً } أي وتحسنون إحساناً على لفظ تعبدون لأنه إخبار أو وأحسنوا على معناه لأنه إنشاء ، أي بِرّاً كثيراً وعطفاً عليهما ، ونزولا عند أمرهما فيما لا يخالف أمر الله .
{ وذي القربى } أي وتحسنون إلى ذي القرابة أيضاً ، مصدرٌ كالحُسنى .
{ واليتامى } جمع يتيم وهو الصغير الذي مات أبوه قبل البلوغ ومن الحيوانات الصغيرُ الذي ماتت أمُّه ، والإحسان بهم بحسن التربية وحفظ حقوقهم عن الضياع .
{والمساكين} بحسن القول وإيصال الصدقة إليهم ، جمعُ مسكين، من السكون ، كأنّ الفقرَ أسكنه عن الحَراك ، أي الحركة ، وأثقله عن التقلب .
{ و } قلنا {قولوا للناس} قولاً حسناً ، سماه حسناً مبالغة لفرط حسنه ، أمر بالإحسان بالمال فى حقّ أقوام مخصوصين وهم الوالدان والأقرباء واليتامى والمساكين ، ولما كان المال لا يسع الكلّ أمر بمعاملة الناس كلّهم بالقول الجميل الذي لا يعجز عنه العاقل ، يعني وألينوا لهم القول بحسن المعاشرة وحسن الخُلُق وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، أي وقولوا للناس صدقاً وحقاً في شأن محمد عليه السلام فمن سألكم عنه فاصدقوه وبيّنوا صفتَه ولا تكتموا أمره .
{ وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } كما فرضنا عليهم في شريعتهم ذكرهما تنصيصاً مع دخولهما في العبادة المذكورة تعميماً وتخصيصاً تلخيصه أخذنا عهدكم يا بني إسرائيل بجميع المذكور فقبلتم وأقبلتم عليه .
{ ثم تولّيتم } على طريقة الالتفات أي أعرضتم عن المضي على مقتضى الميثاق ورفضتموه { إلاّ قليلاً منكم } وهم من الأسلاف من اليهود ومن أسلم كعبد الله بن سلام وأضرابه { وأنتم معرضون } جملة تذييلية أي وأنتم قوم عادتكم الإعراض عن الطاعة ومراعاة حقوق الميثاق وليس الواو للحال لاتحاد التولي والإعراض فالجملة اعتراض للتأكيد في التوبيخ وأصل الإعراض الذهاب عن المواجهة والإقبال إلى جانب العرض .
{ وَإِذْ أَخَذْنَا } “إذ” معطوفٌ على الظروفِ التي قبله ، وقد تقدَّم ما فيه من كونِه متصرفاً أو لا . و”أَخَذْنا” في محلِّ خفضٍ ، أي : واذكر وقتَ أَخْذِنا ميثاقَهم أو نحو ذلك .
{لاَ تَعْبُدُونَ} قُرئ بالياءِ والتاء، وهو ظاهرٌ. فَمَنْ قَرَأَ بالغَيْبة فلأنَّ الأسماءَ الظاهرةَ حكمُها الغَيْبة ، ومَنْ قَرَأَ بالخطابِ فهو التفاتٌ ، وحكمتُه أنَّه أدعى لقبولِ المخاطبِ الأمرَ والنهيَ الوارِدَيْنِ عليه ، وقراءةَ الخطابِ على إضمارِ القَوْلِ ، والتقدير قُلْنا لهم : لا تَعْبُدون إلا الله ، وكونُه التفاتاً أَحْسَنُ ، وفي هذه الجملةِ المنفيَّةِ من الإِعرابِ ثمانيةُ أوجهٍ ، أَظْهَرُها : أنَّها مفسِّرةٌ لأخْذِ الميثاقِ ، وذلك أنه لمَّا ذَكَرَ تعالى أنه أَخَذَ ميثاقَ بني إسرائيل كانَ في ذلك إيهامٌ للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجملةِ مفسِّرةً له ، ولا محلَّ لها حينئذٍ من الإِعراب . الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من “بني إسرائيل” وفيها حينئذ وجهان ، أحدُهما : أنَّها حالٌ مقدَّرة بمعنى أَخَذْنا مِيثاقَهم مقدِّرين التوحيدَ أبداً ما عاشُوا . والثاني : أنها حالٌ مقارِنةٌ بمعنى : أَخَذْنا ميثاقَهم ملتزمين الإِقامةَ على التوحيد . الثالث : أن يكونَ جواباً لقسمٍ محذوفٍ دَلَّ عليه لفظُ الميثاق أي : استَحْلَفْناهم أو قلنا لهم : باللهِ لا تعبدون . الرابع : أن يكونَ على تقديرِ حَذْفِ حرفِ الجرّ ، وحَذْفِ أَنْ ، والتقديرُ : أَخَذْنَا ميثاقَهم على أَنْ لا تعبدوا أَو بأَنْ لا تَعْبدوا ، فَحُذِفَ حرفُ الجر لأنَّ حَذْفَه مطَّردٌ مع أَنَّ وأَنْ كما تقدَّم غيرَ مرة ، ثم حُذِفَتْ “أَنْ” الناصبةُ فارتفع الفعلُ بعدَها ونظيرُه قولُ طرفة :
أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى ..وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي وحَكَوا عن العرب: ” مُرْهُ يَحْفِرَها ” أي: بِأَنْ يَحْفِرَها، والتقديرُ: عن أَنْ أَحْضُرَ ، وبأَنْ يَحْفِرَها . وإذا حُذِفَتْ ” أَنْ ” فالصحيحُ جوازُ النصبِ والرفعِ ، ورُوي : “مُرْه يَحْفِرُها “، و”أَحْضُر الوغى” بالوجهين وأُيٍّدَ هذا الوجه ” الرابع ” بقراءةِ : “لاَ تَعْبُدوا” على النهي .
الخامس : أَنْ يكونَ في محلِّ نصبٍ بالقولِ المحذوفِ، وذلك القولُ حالٌ تقديره: قائلين لهم لا تعبدون إلا اللهَ ، ويكونُ خبراً في معنى النهي ويؤيِّده قراءةُ أُبَيّ المتقدمة ، وبهذا يَتَّضح عطفُ “وقولوا” عليه .
السادس: أَنَّ “أَنْ” الناصبة مضمرةٌ كما تقدَّم، ولكنها هي وما في حَيِّزها في محلِّ نصب على أنها بدلٌ من “ميثاق”، وهذا قريبٌ من القولِ الأول من حيثُ إنَّ هذه الجملة مفسِّرةٌ للميثاق .
السابعُ: أَنْ يكونَ منصوباً بقولٍ محذوفٍ، وذلك القولُ ليس حالاً بل مجرَّدُ إخبارٍ، والتقديرُ: وقُلْنا لهم ذلك، ويكونُ خبراً في معنى النهي. كما تقولُ : تذهَبُ إلى فلانٍ تقولُ له كذا ، تريدُ الأمر ، وهو أَبْلَغُ من صريحِ الأمر والنهي، لأنَّه كأنه سُورع إلى الامتثالِ والانتهاءِ فهو يُخْبِرُ عنه، وتَنْصُره قراءة أُبَي وعبد الله:”لا تعبدوا”ولا بدَّ من إرادة القول .
الثامن: أن يكونَ التقديرُ: أَنْ لا تعبدون ، وهي “أَنْ” المفسِّرة ، لأنَّ في قوله: {أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} إيهاماً كما تقدَّم ، وفيه معنى القول، ثم حُذِفَتْ “أَنْ” المفسِّرة .
وقوله : { إِلاَّ الله } استثناءٌ مفرغ ، لأنَّ ما قَبله مفتقرٌ إليه وقد تقدَّم تحقيقُه أولاً . وفيه التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة ، إذ لو جرى الكلامُ على نَسقَه لقيل : لا تَعْبدون إلا إيانا ، لقوله “أَخَذْنَا” .
وفي هذا الالتفاتِ من الدلالةِ على عِظَمِ هذا الاسم والتفرُّدِ به ما ليس في المُضْمر، وأيضاً الأسماءُ الواقعةُ ظاهرةٌ فناسَبَ أنْ يُجاوِرَ الظاهرُ الظاهرَ .
قوله : { وبالوالدين إِحْسَاناً } فيه خمسةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تتعلَّقَ الباء بـ “إحساناً” ، على أنَّه مصدرٌ واقعٌ موقعَ فعلِ الأمر ، والتقديرُ : وأَحْسِنوا بالوالدَيْنِ ، والباءُ ترادِفُ “إلى” في هذا المعنى، تقول: أَحْسَنْتُ به وإليه ، بمعنى أَنْ يكونَ على هذا الوجهِ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌُ ، أي : وأَحْسنوا بِرَّ الوالدَيْن بمعنى: أَحْسِنوا إليهما بِرَّهما .
والوالدان: الأبُ والأمُ ، يُقال لكلِّ واحدٍ منهما والد ، ولا يقال في الأم: والدة بالتاء ، وإنما قِيل فيها وفي الأب: والدان تغليباً للمذكَّر .
والإِحسانُ: الإِنعامُ على الغير ، وقيل: بل هو أَعَمُّ من الإِنعام ، وقيل هو النافِعُ لكل شيء .
قوله:{وَذِي القربى} وما بعدَه عطفٌ على المجرورِ بالباءِ ، وعلامةُ الجرِّ فيها الياءُ ؛ لأنَّها من الأسماءِ الستةِ تُرْفَعُ بالواو وتُنْصَبُ بالألف وتُجَرُّ بالياء بشروطٍ ذكرها النحويون ، وهل إعرابُها بالحروفِ أو بغيرها .
وهي من الأسماء اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنًى إلى أسماءِ الأجناس ليُتَوَصَّل بذلك إلى وَصْف النكرة باسمِ الجنسِ ، نحو: مَرَرْتُ برجلٍ ذي مالٍ ، وإضافتُه إلى المضمرِ ممنوعةٌ إلا في ضرورةٍ أو نادرِ كلام كقوله :
صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ ……………. أبانَ ذوي أَرُومَتِها ذَوُوها
وعلى هذا قولُهم : اللهم صَلِّ على محمدٍ وذَويه ، وإضافتُه إلى العَلَمِ قليلةٌ جداً، وهي على ضَرْبين: واجبةٌ وذلك إذا اقْتَرَنا وَضْعاً نحو: ذي يزن وذي رَعين، وجائزةٌ وذلك إذا لم يقترنا وَضْعاً نحو: ذي قَطَري وذي عمرو ، أي : صاحبُ هذا الاسمِ ، وأقلُّ من ذلك إضافتُها إلى ضميرِ المخاطب كقوله :
وإنَّا لَنَرْجُو عاجلاً منكَ مثلَ ما ….. رَجَوْناه قِدْماً من ذَويك الأفاضلِ
وتَجيء”ذو”موصولةً بمعنى الذي وفروعِه، والمشهورُ حينئذٍ بناؤها وتذكيرها ، ولها أحكامٌ كثيرة مذكورةٌ في كتب النحو .
و” القُرْبى ” مضافٌ إليه وأَلِفُه للتأنيث وهو مصدرٌ كالرُّجْعى والعُقْبى ، ويُطْلق على قَرابة الصُّلب والرَّحِم ، قال طَرَفة :
وظُلْمُ ذوي القُرْبى أشدُّ مضاضةً …… على الحُرِّ مِنْ وَقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ
وقال أيضاً :
وَقرَّبْتُ بالقُرْبى وجَدِّك إنه …………….. متى يَكُ أَمْرٌ للنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ
والمادةُ تدل على الدُّنِّو ضد البُعْد .
قوله:{واليتامى} وزنُه فَعالى، وألفهُ للتأنيثِ وهو جَمْعِ يتيم كنديم ونَدامى ولا يَنْقاسُ هذا الجمعُ، واليُتْمُ: الانفراد، ومنه “اليَتيم” لانفرادِه عن أبويه أو أحدِهما، ودُرَّةٌ يتيمةٌ:إذا لم يكنْ لها نظيرٌ.وقيل:اليُتْم الإِبطاءُ ومنه صبيٌّ يتيم لأنه يُبْطِئُ عنه البِرُّ.وقيل: هو التغافل لأن الصبيَّ يُتَغافل عمَّا يُصْلِحُه . قال الأصمعي: “اليُتْمُ في الآدميين مِنْ قِبَل فَقْد الآباء وفي غيرهم من قِبَل فَقْد الأُمهات” . وقال الماوردي :”إن اليُتْمَ في الناس أيضاً من قِبَل فَقْد الأمَّهات” والأولُ هو المعروفُ عند أهلِ اللغةِ يقال: يَتُم يَيْتُم يُتْماً مثل: كرُم يكرُم وعَظُم يَعْظُم عُظْماً ، ويَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثلَ: سَمِعَ يَسْمَع سَمْعاً ، فهاتان لغتان مشهورتان حكاهما الفراء ، ويقال: أَيْتمه اللهُ إيتاماً أي فَعَل به ذلك . وعلامةُ الجرِّ في القربى واليتامى كسرةٌ مقدَّرة في الألفِ ، وإن كانَتْ للتأنيثِ ، لأنَّ ما لا ينصرفُ إذا أُضيف أو دَخَلَتْه أل انجرَّ بالكسرة ، وهل يُسَمَّى حينئذٍ منصرفاً أو مُنْجرَّا؟ ثلاثةُ أقوالُ يُفَصَّل في الثالث بين أن يكونَ أحدَ سببيه العلميةُ فيُسَمَّى منصرفاً نحو : ” يَعْمُرُكمْ ” أو لا فيُسَمَّى منجرَّا نحو : بالأحمر ، والقُرْبى واليتامى من هذا الأخير .
قوله: “والمساكين” جمعُ مِسْكين ، ويُسَمُّونه جَمْعاً لا نظيرَ له في الآحاد وجَمْعاً على صيغةِ منتهى الجموع ، وهو من العِلَل القائمةِ مَقامَ عِلَّتين ، وسيأتي تحقيقُه قريباً في هذه السورةِ .
وقد تقدَّم القولُ في اشتقاقِه عند ذِكْرِ المَسْكَنة واختُلِف فيه: هل هو بمعنى الفقيرِ أو أسوأُ حالاً منه كقوله : { مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } البلد : 16 ، أي لَصِق جِلْدُه بالتراب بخلافِ الفقير فإنَّ له شيئاً ما ، قال :
أمَّا الفقيرُ الذي كانَتْ حَلُوبَتُه ………. وَفْقَ العِيالِ فلم يُتْرَكْ له سَبَدُ
أو أكملُ حالاً لأنَّ اللهَ جَعَلَ لهم مِلْكاً ما ، قال: { أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} الكهف:79،خلافٌ مشهور بين العلماء من الفقهاءِ واللغويين .
قوله : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } هذه الجِِملةُ عَطْفٌ على قولِه {لاَ تَعْبُدُونَ} في المعنى ، كأنه قال: لا تَعْبدوا إلا الله وأَحْسِنوا بالوالدين وقُولوا، أو على “أَحْسِنوا” المقدَّر كما تقدَّم تقريرُه في قوله:{وبالوالدين إِحْسَاناً} ، وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقولٍ محذوف تقديرُه: وقلنا لهم قولوا . وقرئ : حَسَناً بفتحتين وحُسُناً بضمتين ، وحُسْنى من غير تنوين كحُبْلى ، وإحساناً من الرباعي .
فامَّا قراءة “حُسْناً” بالضم والإِسكان فيَحْتمل أوجهاً، أحدُها وهو الظاهرُ: أنه مصدرٌ وَقَع صفةً لمحذوفٍ تقديرُه: وقولوا للناسِ قَوْلاً حُسْناً أي:ذا حُسْن. الثاني: أن يكونَ وُصِفَ به مبالغةً كأنه جُعِلَ القولُ نفسُه حَسَناً . الثالث : أنه صفةٌ على وزن فُعْل وليس أصلُه المصدرَ ، بل هو كالحُلْو والمُرّ ، فيكون بمعنى “حَسَن” بفتحتين ، فيكونُ فيه لغتان: حُسْن وحَسَن كالبُخْل والبَخَل ، والحُزْن والحَزَن ، والعُرْب والعَرَب . الرابع: أنه منصوبٌ على المصدرِ من المعنى، فإنَّ المعنى:وَلْيَحْسُن قولُكم حُسْناً .
وأمَّا قراءةُ “حَسَناً” بفتحتين، وهي قراءةُ حمزة والكسائي ، فصفةٌ لمحذوف ، تقديرُه : قولاً حَسَناً كما تقدَّم في أحد أوجه ” حُسْناً ” .
وأمَّا ” حُسُناً ” بضمَّتين فضمةُ السينِ للإِتباعِ للحاءِ فهو بمعنى “حُسْناً ” بالسكون .
وأمَّا مَنْ قَرَأَ ” حُسْنى ” بغير تنوين ، فَحُسْنَى مصدرٌ كالبُشْرى والرُّجْعى .
وأمَّا مَنْ قرأ ” إحساناً ” فهو مصدرٌ وَقَع صفةً لمصدرٍ محذوف أي قولاً إحساناً ، وإحساناً مصدرٌ من أَحْسَن الذي همزتُه للصيرورةِ أي قولاً ذا حُسْنٍ ، كما تقولُ : أَعْشَبَتِ الأرضُ أي : صارت ذا عشبٍ .
{ وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } البقرة : 43 ، تقدَّم نظيره .
{ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } على طريقةِ الالتفات ، ويجوزُ أن يكونَ أرادَ بالالتفاتِ الخروجَ مِنْ خطابِ بني إسرائيل القدماءِ إلى خطابِ الحاضرين في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ويؤيِّده قولُه تعالى : {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْكُمْ } قيل: يعني بهم الذي أسْلموا في زمانِه عليه الصلاة والسلام كعبدِ الله بن سَلاَّم وأضرابه ، فيكونُ التفاتاً على القراءَتين . والمشهورُ نَصْبُ ” قليلاً ” على الاستثناء لأنه مِنْ موجب . ورُوِي عن أبي عمرو وغيره : ” إلا قليلٌ ” بالرفع . وفيه ستةُ أقوال ، أصحُّها: أنَّ رفعه على الصفة بتأويل ” إلا ” وما بعدها بمعنى غَيْر . وقد عَقَد سيبويه رحمه الله في ذلك باباً في كتابه فقال: { هذا بابٌ ما يكونُ فيه “إلاّ” وما بعدها وصفاً بمنزلة غير ومثل } ، وذكر من أمثلة هذا الباب : لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنا و{ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا } الأنبياء : 22، و :
………………… قليلٌ بها الأصواتُ إلا بُغامُها
وسَوَّى بين هذا وبينَ قراءةِ : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر } برفع “غير” ، وجَوَّز في نحو: ” ما قامَ القومُ إلا زيدٌ” بالرفع البدلَ والصفةَ ، وخَرَّج على ذلك قولَه :
وكلُّ أخٍ مُفارِقُه أَخوه ………………… لَعَمْرُ أبيكَ إلا الفَرْقَدانِ
كأنه قال : وكل أخٍ غيرُ الفرقدين مفارقُه أخوه ، كما قال الشماخ :
وكلُّ خليلٍ غيرُ هاضمِ نفسِه ……… لِوَصْلِ خليلٍ صارمٌ أو معارِزُ
وأنشدَ غيرُه أيضاً :
لدَمٍ ضائِعٍ تغيَّبَ عنه ………………… أَقْربوه إلا الصَّبا والجَنُوبُ
وقولَه :
وبالصَّريمةِ منهم منزلٌ خَلَقٌ ………….. عافٍ تَغَيَّر إلا النُّؤْيُ والوَتِدُ
والفرقُ بين الوصفِ بإلاَّ والوصفِ بغيرها أنَّ “إلا” تُوصف بها المعارفُ والنكراتُ والظاهرُ والمضمرُ ، وقال بعضُهم : لا توصَف بها إلا النكرةُ أو المعرَّفةُ بلام الجنس فإنه في قوة النكرة . وقال المبرِّد: شَرْطُه صلاحيةُ البَدَلِ في موضعه . الثاني : أنه عطفُ بيان . قال ابن عصفور : إنما يعني النحويون بالوصفِ بإلا عطفَ البيان ، وفيه نظرٌ . الثالث : أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوف كأنه قال : امتنع قليل . الرابع : أن يكونَ مبتدأ وخبرُه محذوفٌ أي : إلا قليلٌ منكم لم يَتَوَلُّوا ، كما قالوا : ما مررْتُ بأحدٍ إلا رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه . الخامس : أنه توكيدٌ للمضمرِ المرفوع ، ذكرَ هذه الثلاثة الأوجهَ أبو البقاء . قال : وسيبويه وأصحابُه يُسَمُّونه نعتاً ووَصْفاً ، يعني التوكيد . وفي هذه الأوجه التي ذَكَرها ما لا يَخْفى ولكنها قد قِيلت . السادس : أنه بدلٌ من الضميرِ في ” تَوَلَّيْتُم ” قال ابن عطية : وجاز ذلك مع أنَّ الكلامَ لم يتقدَّمْ فيه نفيٌ ، لأن ” تَوَلَّيْتم ” معناه النفيُ كأنه قال : لم تَفُوا بالميثاقِ إلا قليلٌ ، وهذا الذي ذكره مِنْ جوازِ البدل منعه النحويون ، لا يُجيزون : قام القَومُ إلا زيدٌ ، على البدل ، قالوا : لأنَّ البدل يَحُلُّ مَحَلَّ المبدَلِ منه فَيَؤُولُ إلى قولِك : قامَ إلا زيدٌ ، وهو ممتنعٌ ، وأمَّا قولُه: إنه في تأويل النفي فما مِنْ موجَبٍ إلا يمكن فيه ذلك ، ألا تَرى أنَّ قولَك : قام القومُ إلا زيدٌ ، في قوة ” لم يَجْلِسُوا إلا زيدٌ ” فكلُّ موجَبٍ إذا أخَذْتَ نَفْيَ نقيضِه أو ضدِّه كانَ كذلك ، ولم تعتبر العربُ في كلامِها ، وإنما أجاز النحويون ” قام القومُ إلا زيدٌ ” بالرفع على الصفة كما تقدَّم تقريرُه .
و”منكم” صفةٌ لـ “قليلاً”فهي في محلِّ نصبٍ أو رفعٍ على حَسَب القراءتين. والظاهرُ أن القليلَ مرادٌ بهم الأشخاصُ لوَصْفِه بقوله”منكم”. وقال ابن عطية : ويُحتمل أَنْ تكونَ القلةُ في الإِيمان ، أي : لم يَبْقَ حينَ عَصَوا وكَفَر آخرُهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا إيمانٌ قليلٌ إذ لا ينفعهم ، والأولُ أقوى ، انتهى . وهذا قولٌ بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ .
{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} جملةٌ من مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل “تَوَلَّيْتُم”. وفيها قولان ، أحدُهما: أنَّها حالٌ مؤكِّدةٌ لأنَّ التولِّيَ والإِعراضَ مترادفان.وقيل: مبيِّنةٌ، فإن التولِّيَ بالبدنِ والإِعراضَ بالقلبِ قاله أبو البقاء: وقال بعدَه: وقيل: تَوَلَّيْتم يعني آباءهم ، وأنتم مُعْرِضُون يعني أنفسَهم كما قال:{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ}الأعراف: 141 أي: آباءَهم، انتهى . وهذا يُؤَدِّي إلى أنّ جُمْلَةَ قوله:{وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} لا تكون حالاً ، لأنَّ فاعلَ التولِّي في الحقيقة ليس هو صاحبَ الحال والله أعلم .
وكذلك تكون مبيِّنةً إذا اختَلَفَ متعلَّقُ التولِّي والإِعراضِ كما قال بعضُهم : ثم تَوَلَّيْتم عن أَخْذِ ميثاقكم وأنتم مُعْرِضون عن هذا النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وقيل : التولِّي والإِعراضُ مأخوذان من سلوك الطريق ، وذلك أنه إذا سَلَكَ طريقاً ورجَع عَوْدَه على بَدْئِه سُمِّي ذلك تولِّياً ، وإنْ سَلَكَ في عُرْضِ الطريقِ سُمِّي إعراضاً وجاءَتِ الحالُ جملةً اسميةً مصدَّرةً بـ “أنتم” لأنه آكد . وجيء بخبرِ المبتدأ اسماً لأنه أدلُّ على الثبوتِ فكأنه قيل:وأنتم عادَتُكم التولِّي عن الحقِّ والإِعراضُ عنه.
في الآية عدة أشياء منها العبادة فمن شرط العبودية تفرد العبد لعبادة المعبود وتجرده عن كل مقصود فمن لاحظ خلقاً أو استحلى ثناءً أو استجلب بطاعته إلى نفسه حظاً من حظوظ الدنيا والآخرة أو داخله بوجه من الوجوه مزج أو شوب فهو ساقط عن مرتبة الإخلاص برؤية نفسه .
ومنها الإحسان إلى الوالدين وقد عظم الله حق الوالدين حيث قرن حقه بحقهما في آيات من القرآن لأن النشأة الأولى من عند الله والنشأة الثانية وهى التربية من جهة الوالدين ويقال ثلاث آيات أنزلت مقرونة بثلاث آيات ولا تقبل إحداها بغير قرينتها إحداها قوله تعالى: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول}والثانية{أن اشكر لي ولوالديك} والثالثة {أقيموا الصلوة وآتوا الزكوة} والإحسان إلى الوالدين معاشرتهما بالمعروف والتواضع لهما والامتثال إلى أمرهما وصلة أهل ودّهما والدعاء لهما بالمغفرة بعد مماتهما .
وفي قوله{وبالوالدين إحساناً} إشارة إلى أن أعز الخلق على الولد والداه لأجل أنهما سببا وجوده في الظاهر ولكن ينبغي أن يحسن إليهما بعد خروجه من عهدة عبودية ربه إذ هو موجد وجوده ووجود والديه في الحقيقة ولا يختار على أداء عبوديته إحسان والديه فكيف الالتفات لغيرهما؟ .
وفى الحديث: “ما قعد يتيم مع قوم على قصعتهم فلا يقرب قصعتهم الشيطان” وفى الحديث أيضاً: “من ضمّ يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله عزّ وجلّ غفرت له ذنوبه البتة إلاّ أن يعمل عملاً لا يُغفر ومن أذهب الله كريمتيْه فصبر واحتسب غفرت له ذنوبه” قالوا وما كريمتاه قال:عيناه . ومن كان له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات فانفق عليهن وأحسن إليهنّ حتى يكبرن أو يمتن غُفرت له ذنوبه البتة إلا أن يعمل عملاً لا يُغفر . فناداه رجل من الأعراب ممن هاجر فقال يا رسول الله أو اثنتان فقال صلى الله عليه وسلم أو اثنتان .
وقال صلى الله عليه وسلم:”كافل اليتيم أنا وهو كهاتين في الجنّة” وأشار بالسبابة والوسطى والسبابة من الأصابع هي التي تلي الإبهام وكانت في الجاهلية تُدعى بالسبابة لأنهم كانوا يسبّون بها فلما جاء الله بالإسلام كرهوا هذا الاسم فسمّوها بالمشيرة لأنهم كانوا يشيرون بها إلى الله بالتوحيد والمشيرة من أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت أطول من الوسطى ثم الوسطى أقصر منها ثم البنصر أقصر من الوسطى فقوله عليه الصلاة والسلام: “أنا وهو كهاتين في الجنة” وقوله في الحديث الآخر: ” أحشر أنا وأبو بكر وعمر يوم القيامة هكذا ” وأشار بأصابعه الثلاث فإنما أراد ذِكرَ المنازل والإشراف على الخلق فقال نحشر هكذا ونحن مشرفون ، وكذلك كافل اليتيم يكون له منزلة رفيعة فمن لم يعرف شأن أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمل تأويل الحديث على الانضمام واقترابِ بعضِهم من بعض ، وهذا معنى بعيد لأن منازل الرسل والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين مراتب متباينة ومنازل مختلفة .
ومنها البرّ إلى المساكين وهم الذين أسكنتهم الحاجةُ وذلّلتهم وهذا يتضمن الحضَّ على الصدقة والمواساة وتفقُّد أحوال المساكين والضعفاء وفى الحديث: ” الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله ” وكان طاووس يرى السعيَ على الأخوات أفضل من الجهاد فى سبيل الله .
ومنها القول الحسن ولما خرج الطالب من عهدة حقِّ العبودية وعمّت رحمته وشفقته الوالدين وغيرهما لزم له أن يقول للناس حسناً يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويدعوهم بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الله ويهديهم إلى طريق الحقّ ويُخالقُهم بحُسنِ الخُلُق وأن يكون قولُه ليّناً ووجهُهُ منبسطاً طَلْقاً مع البَرِّ والفاجر من غير مداهنة ومن غير أن يرضى مذهبه لأن الله تعالى قال لموسى وهارون عليهما السلام {فقولا له قولاً ليّناً} فليس بأفضل من موسى وهارون والفاجر ليس بأخسّ من فرعون وقد أمرهما الله باللّين معه فدخل فى هذه الآية اليهود والنصارى فكيف بالحَنيفيِّ .