وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
{ وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ } هم اليهود الذين كان لهم مجتمع في المدينة ، ومادام الحق سبحانه وتعالى قال : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } فمعنى هذا أن هناك منهم غير أميين ، وهؤلاء هم الذين سيأتي قول الله تعالى عنهم في الآية التالية : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ }
وجملة: {وَمِنْهُمْ أُمّيُّونَ} مستأنفة مسوقة لبيان قبائح جهلة اليهود إثرَ بيان شنائع الطوائف السالفة .
"منهم" خبرٌ مقدَّمٌ ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ . و "أمِّيُّون" مبتدأٌ مؤخر ، ويجوزُ أن يكونَ فاعلاً بالظرف قبلَه . و " أمِّيُّون " جمع أُمّيّ وهو مَنْ لا يكتب ولا يقرأ، واختُلف في نسبته فقيل: إلى الأُم وفيه معنيان أحدُهما: أنه بحال أمِّه التي وَلَدَتْه مِنْ عَدَمِ معرفةِ الكتابة وليس مثلَ أبيه ، لأن النساءَ ـ في العادة ـ ليس منْ شُغْلِهِنَّ الكتابةُ . والثاني : أنَّه بحاله التي وَلَدَتْهُ أمُّه عليها لم يتغيَّرْ عنها ولم يَنْتَقِلْ . وقيل : نُسِبَ إلى الأُمَّة وهي القامَةُ والخِلْقَةُ ، بمعنى أنه ليس له من الناسِ إلا ذلك .
وقيل : نسب إلى الأُمَّة على سَذاجَتِها قبل أن تَعْرِفَ الأشياء كقولهم : عامِّي أي : على عادة العامَّة .
وقرأ ابن أبي عبلة : " أُمِّيُون " بتخفيف الياء ، كأنه اسْتُثْقَلَ تواليَ تضعيفين .
{ لاَ يَعْلَمُونَ } جملةٌ فعلية في محلِّ رفعٍ صفةً لأمِّيُّونُ ، كأنه قيل: أُمِّيُّون غيرُ عالمين .
{إِلاَّ أَمَانِيَّ} هذا استثناءٌ منقطعُ ، لأن الأمانيَّ ليست من جنسِ الكتابِ ، ولا مندرجةٌ تحتَ مدلولِه ، وهذا هو المنقطعُ ، ولكنَّ شرطه أن يُتَوَهَّمَ دخولُه بوجهٍ ما كقولِه: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن }
النساء : 157 . وقولِ النابغة :
حَلَفْتُ يميناً غيرَ ذي مَثْنَوِيَّةٍ .......... ولا عِلْمَ إلا حُسْنُ ظنٍّ بصاحبِ
لأنَّه بِذِكْرِ العلم استُحْضِرَ الظنُّ ، ولهذا لا يَجُوز : صَهَلَت الخيلُ إلا حماراً .
والمنقطعَ على ضَرْبَيْن: ضربٍ يَصِحُّ تَوَجُّهُ العاملِ عليه نحو: جاء القومُ إلا حماراً . وضربٍ لا يتوجَّهُ نحو ما مَثَّل به النحويون : ما زاد إلا ما نَقَصَ ، وما نَفَعَ إلا ما ضَرَّ . فالأول فيه لغتان : لغةُ الحجازِ وجوبُ نصبهِ ولغةُ تميمٍ أنه كالمتصل ، فيجوزُ فيه بعد النفي وشِبْهِهِ النصبُ والإِتباعُ ، والآيةُ الكريمة من الضَرْب الأول ، فيَحْتملُ نصبُها وجهين ، أَحَدُهُما: على الاستثناء المنقطع ، والثاني: أنه بدلٌ من الكتاب، و" إلا" في المنقطع تُقَدَّر عند البصريين بـ "لكن" وعند الكوفيين بـ "بل" .
والأمانيُّ جمع أُمْنِيَّة بتشديد الياء فيهما، جمع أمنية وأصلها أمنونة، أفعولة وهو في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك تطلق على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ ، والمروى عن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهم أن الأماني هنا الأكاذيب .
وقرأ أبو جعفر بتخفيفها ، حَذَفَ إحدى الياءَين ، تخفيفاً ، وهذا كما يُقال في جمعِ مفتاح : مفاتح ومفاتيح ، والحَذْفُ في المعتلِّ أكثرُ ، قال النابغة :
وهل يُرْجِعُ التسليمَ أو يَكْشِفُ العمى .. ثلاثُ الأَثافي والرسومُ البلاقِعُ
وكلُّ ما جاء واحدُه مشدَّداً من هذا النوع فلك في الجمعِ الوجهان ،
ووزن أُمْنِيَّة : أُفْعُولة من منَّى يُمَنِّي إذا تلا وقرأ ، قال الشاعر :
تَمَنَّى كتابَ اللهِ آخرَ ليلِهِ .............. تَمَنِّىِ داودَ الزبورَ على رِسْلِ
وقال كعب بن مالِك :
تَمَنَّى كتابَ اللهِ أوَّلَ لَيلهِ .................. وآخِرَه لاقى حِمامَ المقادِرِ
وقال تعالى:"إلا إذا تَمَنَّى ألقى الشيطانُ في أُمْنِيَّتِهِ"، أيَ: قَرَأَ وتَلا، فالأصلُ على هذا : أُمْنُوية ، فاعتلَّت اعتلالَ ميِّت وسيِّد . وقيل : الأمنيَّةُ الكذبُ والاختلاقُ . وقيل ما يتمنَّاه الإِنسان ويَشْتهيه . وقيل : ما يُقَدِّرُه وَيَحْزِرُه مِنْ مَنَّى إذا كَذَبَ أو تمنَّى أو قدَّر ، كقول الشاعر:
لا تأْمَنَنَّ وأنْ أمْسَيْت في حَرَمٍ ......... حتى تُلاقِي ما يَمْني لكَ الماني
أي : يقدِّر لك المقدِّرُ .
والمَنْيُ القَدْرُ ، ومنه " المَنا " الذي يُوزَنُ به ، ومنه: المَنِيَّة وهو الأجَل المقدَّرُ للحيوان ، والتمنِّي: تقديرُ شيءٍ في النفسِ وتصويرُه فيها، وذلك قد يكونُ عن ظَنٍّ وتخمين ، وقد يكونُ بناءً على رَوِيَّةٍ وأصلٍ ، لكنْ لمَّا كان أكثرُه عن تَخْمينٍ كان الكذبُ أَمْلَكَ له ، فأكثرُ التمنِّي تصوُّرُ ما لا حقيقةَ له ، والأُمْنِيَةُ : الصورةُ الحاصلةُ في النفسِ مِنْ تمنِّي الشيءِ ، ولمَّا كان الكذبُ تَصَوُّرَ ما لا حقيقة له وإيرادَه باللفظِ صار التَمنِّي كالمبدأ للكذبِ فعُبِّر به عنه ، ومنه قولُ سيدنا عثمان رضي اللهُ عنه : " ما تَغَنَّيْتُ ولا تَمَنَّيْتُ منذ أَسلمْتُ " . وقيل الاشتقاقُ من مَنَّى إذا قدَّر ، أن المتمنِّي يُقَدِّر في نفسِه ويَحْزِرُ ما يتمنَّاه ، وكذلك المختلقُ، والقارئُ يقدِّر أنَّ كلمةَ كذا بعد كذا فجَعَلَ بين هذه المعاني قَدْراً
مشتركاً وهو واضحٌ .
{وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} " إنْ " نافيةٌ بمعنى ما ، وإذا كانت نافيةً فالمشهورُ أنها لا تعملُ عملَ " ما " الحجازيةِ ، وأجاز بعضُهم ذلك ونَسَبه لسيبويهِ وأَنْشدوا :
إنْ هُوَ مستولياً على أَحَدٍ .................... إلاَّ على أَضْعَفِ المجانين
فـ "هو" اسمُها و" مستولياً " خبرُها ، فقولُه " هم " في محلِّ رفعٍ بالابتداء ، لا اسم " إنْ " لأنها لم تَعْمَل على المشهور و" إلاَّ " للاستثناء المفرغ و" يَظُنُّونَ " في محلِّ الرفع خبراً لقولِه " هم " وحَذَفَ مفعوليَ الظنِّ للعلمِ بهما ، أو اقتصاراً ، وهي مسألةُ خلافِ .