وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ
(72)
{ فادارأتم فِيهَا } : فعلٌ وفاعلٌ ، والفاءُ للسببية ، لأنَّ التدارُؤَ كان مُسَبَّباً عن القتلِ ، ونسبَ القتلَ إلى الجميعِ وإنْ لم يَصْدُرْ إلاَّ من واحدٍ أو اثنين كما قيل ، لأنه وُجِدَ فيهم ، وهو مجازٌ شائعٌ . وأصل ادَّارأتم : تَدارَأْتُم تفاعَلْتم من الدَّرْءِ وهو الدفعُ ، فاجتمعَتِ التاءُ مع الدال وهي مقارِبتُها فأريدَ الإِدغامُ فَقُلبت التاءُ دالاً وسُكِّنتْ لأجلِ الإِدغامِ ، ولا يمكنُ الابتداءُ بساكنٍ فاجتُلِبَتْ همزةُ الوصلِ ليُبتدأ بها فبقي ادَّارأتم ، والأصل : " ادْدَارَأْتم " فأدغم ، وهذا مطردٌ في كلِّ فعل على تَفَاعَل أو تفعَّل فاؤُه دالٌ نحو : " تَدَايَنَ وادَّايَنَ ، وتَدَيَّن وادَّيَّن ، أو ظاء أو طاء أو ضاد أو صادٌ نحو : تَطَاير واطَّاير ، وتَطّيَّر واطَّيَّر ، وتَظَاهَرَ واظَّاهر، وتَطَهَّر واطَّهَّر ، والمصدرُ على التفاعُلِ أو التفعُّل نحو: تدارؤ وتطهُّر نظراً إلى الأصلِ ، وهذا أصل نافعٌ في جميعِ الأبوابِ
فليُتأمَّلْ .
{والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} " الله " رفعٌ بالابتداء و"مُخْرجٌ"
خبرُه ، وما موصولةٌ منصوبةٌ المحلِّ باسمِ الفاعلِ ، فإنْ قيل: اسمُ الفاعلِ
لا يَعْمَل بمعنى الماضي إلا مُحَلَّى بالألف واللام .
فالجواب أنَّ هذه حكايةُ حالٍ ماضيةٍ ، واسمُ الفاعل فيها غير ماضٍ ، وهذا كقوله تعالى : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ } الكهف : 18، والكسائي يُعْمِلُه مطلقاً ويستدلُّ بهذا ونحوهِ .
و{ما} يجوز أَنْ تكونَ موصولةً اسميةً ، فلا بد من عائدٍ ، تقديره: مُخْرِجُ الذي كنتم تكتمونَه ، ويجوز أن تكونَ مصدريةً ، والمصدرُ واقعٌ موقعَ المفعول به أي مُخْرِجٌ مكتومَكم ، وهذه الجملةُ لا محلَّ لها من الإِعرابِ لأنها معترضةٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه ، وهما : "فادَّارَأْتم" "فقلنا اضرِبوه" والضميرُ في "اضربوه" يعودُ على النفس لتأويلِها بمعنى الشخص والإِنسان ، أو على القتيلِ المدلولِ عليه بقوله: " والله مُخْرِجٌ ما كنتم تكتمون " . والجملةُ من " اضربوه " محلِّ نصبٍ بالقولِ .
قصة القتيل هي أن رجلاً ثرياً من بني إسرائيل لم يكن له ولد يرثه وكان له أقارب كلٌ منهم يريد أن يستأثر بأموال هذا الرجل ، فتآمر على هذا الرجل عدد من أقاربه منهم ابن أخيه ، فقتله ليرثه ويستولي على أمواله ، وليبعد التهمة عن نفسه حمل الجثة وألقاها على باب قرية مجاورة ، وفي الصباح قام أهل القرية فوجدوا الجثّة أمام قريتهم ووجدوه غريباً عن القرية فسألوا حتى وصلوا إلى ابن أخيه فأعلموه ، فتجمّع أهل القتيل واتهموهم بقتله ، وكان أشدهم تحمّساً في الاتهام القاتل ابن أخيه .
وحاول كلٌّ من أهلِ القريتين أنْ يَدفعَ الجريمةَ عن نفسه ، ولم
يكن هناك دليل دامغٌ فاستحال توجيه اتهام لشخص معين .
وكان التشريع آنذاك ينصُّ على أنّه إذا وجد قتيل بالقرب من قرية ولم يُعرف قاتله فإن قرية القتيل وأهله يأخذون خمسين رجلاً من أعيان القرية التي وجدت بجوارها الجثة ، فيحلفون بأنهم ما قتلوه ، ولا علموا قاتله ، وإذا كان أعيانُ القرية أقلَّ من خمسين رجلاً تكررت الأيْمان حتى تصير خمسين يميناً ، عندها يتحمل بيتُ المال دِيَةَ القتيل ، ولكنّ اللهَ كان يريد شيئا آخر .
واحتدم الخلاف بين بني إسرائيل وكادت تحدث فتنة كبيرة ، فقرروا اللجوء إلى موسى عليه السلام ليطلب من الله تبارك وتعالى أن يكشف لهم لغز هذه الجريمة ويدلهم على القاتل .
وجاء الأمر من الله سبحانه وتعالى أن اذبحوا البقرة ولو ذبحوا أيّةَ بقرة لانتهت المشكلة ، ولكنهم ظلوا يقولون ما لونها وما شكلها حتى وصلوا إلى البقرة التي كان قد استودعها الرجل الصالح عند الله حتى يكبرَ ابنُه فاشتروها بضعف ثمنها وذبحوها ، فأمرهم الله أن يضربوه ببعضها فردّ الله إليه الحياة حتى نطق باسم فاتله ثمّ عاد ميتاً .