كيفيةُ
قراءةِ القرآنِ الكريمِ:
لقد شرع الله - سبحانه وتعالى - لقراءة القرآن صفة معينة وكيفية
ثابتة، قد أمر بها نبيه عليه الصلاة والسلام فقال: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلاً}، أي اقرأه بتؤدة وطمأنينة وتدبر، وذلك برياضة اللسان والمداومة على
القراءة بترقيق المرقق وتفخيم المفخم وقَصْرِ المقصور ومدِّ الممدود وإظهار المظهر
وإدغام المدغم وإخفاء المخفي وغنِّ الحرف الذي فيه غنة وإخراج الحروف من مخارجها،
وعدم الخلط بينها، كل ذلك دون تكلُّف أو تمطيط.
ولقد أكد الله - عز وجل- الفعل وهو " رتِّل " بالمصدر وهو "ترتيلا"
تعظيمًا لشأنه واهتمامًا بأمره.
كما قال سبحانه: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى
النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} ، أي لتقرأه على الناس
بترَسُّلٍ وتمهُّل فإن ذلك أقرب إلى الفَهمِ وأسهل للحفظ، والواقع أن هذه الصفة لا
تتحقق إلا بالمحافظة على أحكام التجويد المستمدة من قراءة رسول الله - صلى الله
عليه وآله وسلم - والتي ثبتت عنه بالتواتر والأحاديث الصحيحة ، فلقد ثبت أن أنس بن
مالك -رضي الله عنه - سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فقال :
" كانت قراءته مدًّا، ثم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، يمدُّ ببسم الله ،
ويمدُّ بالرحمن ، ويمدُّ بالرحيم" 1.
وقد نقلت إلينا هذه الصفة بأعلى درجات الرواية وهي المشافهة حيث
يتلقى القارئ عن المقرئ ، والمقرئ قد تلقاه عن شيخه ، وشيخه عن شيخه وهكذا حتى
تنتهي السلسلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ومن المؤكد أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد علَّم أصحابه
القرآن الكريم كما تلقَّاه عن أمين الوحي جبريل - عليه السلام - ولقَّنهم إياه
بنفس الصفة وحثهم على تعلمها والقراءة بها ، فلقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه
وآله وسلم - سمع عبد الله بن مسعود يقرأ في صلاته فقال : " من سرَّه أن يقرأ
القرآن غضًّا كما أنزل فليقرأ على قراءة ابن أم عَبْدٍ " 2.
ولعل المقصد - والله أعلم - أن يقرأه على الصفة التي قرأ بها عبد
الله بن مسعود من حسن الصوت وجودة الترتيل ودقة الأداء .
ولقد خصَّ رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - نفرًا من الصحابة
أتقنوا القراءة حتى صاروا أعلامًا فيها منهم :
أُبَي بن كعب ، وعبد الله بن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وأبو موسى
الأشعري ، وعثمان بن عفان ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ،
وغيرهم .
فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يتعاهدهم بالاستماع لهم أحيانًا ،
وبإسماعهم القراءة أحيانا أخرى كما ثبت ذلك بالأحاديث الصحيحة .
فلقد ثبت عن أنس بن مالك - رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى
الله عليه وآله وسلم - لأبي بن كعب : " إن الله أمرني أن أقرأ عليك " قال
: آلله سَمَّاني لك ؟ قال: " الله سمَّاك لي " قال أنس : فجعل أُبي يبكي
"3.
كما ثبت عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال : قال لي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم :
" اقرأ علي القرآن " قلت : أأقرأ عليك وعليك أنزل ؟ قال : " إني
أحب أن أسمعه من غيري " فافتتحت سورة النساء فلما بلغت : {فَكَيْفَ إِذَا
جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا } 4
قال : "حسبُك " فالتفتُّ إليه فإذا عيناه تذرفان "5.
ويحتمل أن يكون الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - قد أحب أن يسمعه
من غيره ؛ ليكون عرض القرآن سنة يحتذى بها، كما يحتمل أن يكون لكي يتدبره ويتفهمه
وذلك لأن المستمع أقوى على التدبر ونفسه أخلى وأنشط من القارئ لاشتغاله بالقراءة
وأحكامها6 .
وقال صلى الله عليه وآله وسلم آمرًا الناس بتعلم قراءة القرآن وبتحري
الإتقان فيها ، بتلقيها عن المتقنين الماهرين : " خذوا القرآن من أربعة : من
عبد الله بن مسعود ، وسالم ، ومعاذ ، وأبي بن كعب "7 .
وكل هذا يدل على أن هناك صفة معينة، وكيفية ثابتة لقراءة القرآن لا
بد من تحقيقها، وهي الصفة المأخوذة عنه -صلى الله عليه وآله وسلم- وبها أنزل
القرآن، فمن خالفها أو أهملها فقد خالف السنة وقرأ القرآن بغير ما أنزل الله.
وصفة القراءة هذه هي التي اصطلحوا على تسميتها بعد ذلك بالتجويد .
ـــــــ
1 أخرجه البخاري، انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري "ج: 9، ص91،
كتاب فضائل القرآن.
2 رواه أحمد والبزار والطبراني، وفيه عاصم بن أبي النجود وهو على
ضعفه حسن الحديث، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح، ورجال الطبراني رجال الصحيح، انظر
مجمع الزوائد للهيثمي "ج: 9، ص287..
3 ـ رواه مسلم، في باب استحباب قراءة القرآن على أهل الفضل، "ج:
2، ص195".
4 ـ النساء: الآية: 41.
5 ـ أخرجه البخاري، في باب: من أحب أن يستمع القرآن من غيره، ح رقم 5049،
وله فيه ألفاظٌ أخرى، كما رواه مسلم في باب : فضل استماع القرآن وطلب القراءة من
حافظه للاستماع، "ج: 2، ص195".
6 ـ انظر فتح الباري "ج: 9، ص94".
7 ـ أخرجه البخاري في باب: القرَّاء من أصحاب النبي -صلى الله عليه
وآله وسلم- ح رقم 4999، "ج: 9، ص46".