أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
قوْلُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} الرُّؤْيةُ هُنَا قلبيَّةٌ اعتقاديةٌ، فإنَّ المُشْرِكِينَ الذينَ كانُوا يَسْتَبْعِدونَ البعثَ مِنْ جديدٍ للحياةِ الثانيةِ، كانوا مؤمنينَ بِأَنَّ اللهَ تَعَالى هوَ خالقُ الكونِ وما فيهِ، ومنْ ذلكَ البشِرُ فهم جُزْءٌ مِنْ هذِه المَخْلوقاتِ، فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ ذلكَ لهم، وكَيْفَ يصحُّ مثلُ هَذَا الاعْتِقادُ؟ أَنْ يُقِرُّوا لَهُ تَعَالَى بِخَلْقِ الكُلِّ وَإخْرَاجِهِ مِنَ العَدَمِ، وَيُنْكِرُونَ إِعَادَتَهُ للبَعْضِ؟ فإِنَّهُ أَمْرٌ يدخُلُ في حَيِّزِ الجَوازِ، وقد أَخْبَرَ الصَّادِقُ الذي قامَتْ دَلَائِلُ مُعْجِزَاتِهِ بِوُقوعِ ذَلِكَ الجَائِزِ.
قولُهُ: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ} يُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ الُمرادُ بِالأَجَلِ هُنَا: يومَ القِيامَةِ، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونَ المُرادُ بِهِ المَوْتَ، وَعليْهِ فـ "الأَجَلُ" بِحَسَبِ هَذَا التَأْويلِ هو اسْمُ جِنْسٍ، لأَنَّهُ وُضِعَ مَوْضِعِ الآجالِ، بِقَصْدِ بَيَانِ قُدْرَةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وتَمَلُّكِهُ ـ تَعَالَى، لِما خَلَقَ، وهَيْمَنَتِهِ عَلى مَخلوقاتِهِ، وتَقريرُ هَذِهِ الحَقِيقَةِ يُقَوِّي جَوَازَ بَعثْهِ لَهُمْ مِنْ بعدِ أَنْ يُمِيتَهُم، وذلكَ في أَيِّ وقتٍ يَشَاءُ ـ سُبحانَهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ القويُّ العزيزُ.
قولُهُ: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} وبالرَّغمِ مِنْ كلِّ هذِهِ الحججِ الدامغةِ، والبَرَاهِينِ الواضِحَةِ فقَدْ أَصَرَّ الظَّالِمُونَ عَلَى جُنُوحِهِمْ إِلى الباطِلِ، وعدَمِ قَبُولِهِمْ الحقيقةِ، وأَكَّدوا كُفرَهم، برسالةِ النبيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والكِتَابِ الكريمِ الذيِ نَزَلَ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّ العالمينَ، وأَبوا إِلَّا أَنْ يكذِبوا مَسْأَلَةَ البَعْثِ للحسابِ والثوابِ والعقابِ، لأنَّ في ذلكَ تقييدٌ لحرَّيَّتِهم في الاسْتِرْسالِ مَعَ أَهْوائِهِمْ وَشَهَواتِهِم.
قوْلُهُ تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا} الهَمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ التَقْريريِّ، دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ، وَالواوُ: للعَطْفِ عَلى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتقديرُ: أَلَمْ يَتَفَكَّرُوا، وَلَمْ يَرَوْا، وَالجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ هي جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، وفي الحالينِ لَيْسَ لها مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ. وَ "لَمْ" حرفٌ للجَزْمِ والقَلْبِ والنَّفْيِ، و "يَرَوْا" فِعْلٌ ماضٍ مجذومٌ بها، وعلامةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلٍّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ، والأَلِفُ هيَ للتَّفريقِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، فَهي إِذًا مِثْلُها ليسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ} أَنَّ: حرْفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، ولفظُ الجَلالَةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ صِفَةً لاسْمِ الجَلالَةِ. و "خَلَقَ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلى الاسْمِ المَوْصُولِ. و "السَّماواتِ" مَنْصوبٌ على المَفْعُوليَّةِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرَةُ نِيابةً عَنِ الفَتْحَةِ لأنَّهُ جمعُ المُؤنَّسِ السَّالِمُ. و "الْأَرْضَ" مَنصوبٌ عَطْفًا عَلَى "السَّمَاوَاتِ"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "قادِرٌ" خَبَرُ "أَنَّ" مرفوعٌ بِهَا، والجُمْلَةُ الإسميَّةُ مِنْ "أَنَّ" وما بعدَها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولِ "رَأَى".
قولُهُ: {عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَادِرٌ". و "أَنْ" حرْفٌ مَصْدَريٌّ، و "يَخْلُقَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِها، وفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "مِثْلَهُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، وَجُمْلَةُ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ مَعَ صِلَتِهَا فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "عَلى" والتَقْديرُ: عَلَى خَلْقِهِ مِثْلَهُمْ.
قولُهُ: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "جَعَلَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبنيٌّ على الفَتْحِ الظاهِرِ، وَفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى. و "لَهُمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ المَفْعُولِ الثاني المُقدَّرِ لِـ "جَعَلَ"، وَالهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِل بِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ لتذْكيرِ الجمْعِ. و "أَجَلًا" منصوبٌ على كونِهِ المَفْعُولَ الأَوَّلَ لِـ "جَعَلَ". و "لا" نَافِيَةٌ للجنسِ تعملُ عَمَلَ "إنَّ". وَ "رَيْبَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِهِ اسْمًا لـ "لا" النافيةِ. و "فِيهِ" في: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرِ "لا". وَجُمْلَةُ "لَا رَيْبَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ صِفَةً لِـ "أَجَلًا"، أَيْ: أَجَلًا غَيْرَ مُرْتابٍ فِيهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ، وجُمْلَةُ "جَعَلَ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "أَوَلَمْ يَرَوْا" لِأَنَّهُ فِي تَقْديرِ: قَدْ رَأَوْا، وَالمَعْنَى: قَدْ عَلِمُوا بِالدَّلائِلِ العَقْلِيَّةِ، أَنَّ مَنْ قَدِرَ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، هُوَ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ أَمْثَالِهِمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا مُحَقَّقًا لا رَيْبَ فِيهِ.
قولُهُ: {فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا} الفَاءُ: للعَطْفِ، و "أَبَى" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخِرِهِ لتعذُّرِ ظهورِهِ على الألِفِ. و "الظَّالِمُونَ" فَاعِلُه مرفوعٌ بِهِ، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "جَعَلَ". و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ لِأَنَّ الفعلَ "أَبَى" مُتَأَوَّلٌ بِالنَّفْيِ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمْ يَرْضَوْا. و "كُفُورًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصُوبٌ.