وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قالَ: مَعْنَى "وَمَنْ يَهْدِ اللهُ" مَنْ يُرِدِ اللهُ هُدَاهُ، "فَهُوَ الْمُهْتَدِ". فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ {وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى} مِنَ الْآيةِ: 94، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، جَمْعًا بَيْنَ الْمَانِعِ الظَّاهِرِ الْمُعْتَادِ مِنَ الْهُدَى، وَبَيْنَ الْمَانِعِ الْحَقِيقِيِّ، وَهُوَ حِرْمَانُ التَّوْفِيقِ مِنَ اللهِ تَعَالَى، فَمَنْ أَصَرَّ عَلَى الْكُفْرِ بعدَ رُؤْيتِهِ الدليلَ الواضحَ فَما ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُوَفِّقْهُ. وَأَسْبَابُ الْحِرْمَانِ غَضَبُ اللهِ تَعَالى عَلَى مَنْ لَا يَفتحُ عَقْلَهُ لِتَلَقِّي الْحَقِّ، بَلْ يَتَّخِذُ هَوَاهُ رَائِدًا لَهُ فِي مَوَاقِفِ الْجِدِّ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ مِنَ الآيةِ: 96، التي قبلَها: {قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ}، وذلكَ للارْتِقَاءِ فِي تَسْلِيَتِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَيْ: لَا يَحْزُنْكَ عَدَمُ اهْتِدَائِهِمْ، فَإِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجلَّ، لَمَّا أَخَذُوا بِالْعِنَادِ قَبْلَ التَّدَبُّرِ فِي حَقِيقَةِ الرِّسَالَةِ، حَرَمَهُمُ الِاهْتِدَاءَ بها.
وَالْمُرَادُ بِالْهُدَى الْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والتَّعْريفُ فِي "الْمُهْتَدِ" للْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ، فَالْمُعَرَّفُ فيهِ مُسَاوٍ لِلنَّكِرَةِ، وَكَأَنَّما قِيلَ: فَهُوَ مُهْتَدٍ. وَقدْ أَخْبَرَ اللهُ بِأَنَّهُ "مُهْتَدٍ" تَوْطِئَةً لذِكْرِ مُقَابِلِهِ، وَهُوَ "وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ"، كَمَا يُقَالُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا فُلَانٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ هذا التَّعْرِيفَ للْجِنْسِ فَيُفِيدُ قَصْرَ الْهِدَايَةِ عَلَى الَّذِي هَدَاهُ اللهُ قَصْرًا إِضَافِيًّا، أَيْ: دُونَ مَنْ تُرِيدُ أَنْتَ هُدَاهُ أَضَلَّهُ اللهُ. وَلَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى عَلَى الْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْكَمَالِ، لِأَنَّ الْهُدَى الْمُرَادَ هُنَا هُدًى وَاحِدٌ، وَهُوَ الْهُدَى إِلَى الْإِيمَانِ.
وقدْ حُذِفَتْ يَاءُ "الْمُهْتَدِ" فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ، ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ وَقَفُوا عَلَيْهَا بِدُونِ يَاءٍ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقِفُ عَلَى الِاسْمِ الْمَنْقُوصِ غَيْرِ الْمُنَوَّنِ بِحَذْفِ الْيَاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ غَيْرُ جَارِيَةٍ عَلَى الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهَا أُوثِرَتْ مِنْ جِهَةِ التَّخْفِيفِ لِثِقَلِ صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَعَ ثِقَلِ حَرْفِ الْعِلَّةِ فِي آخِرِ الْكَلِمَةِ. وَرُسِمَتْ بِدُونِ يَاءٍ لِأَنَّ شَأْنَ أَوَاخِرِ الْكَلِمِ أَنْ تُرْسَمَ بِمُرَاعَاةِ حَالِ الْوَقْفِ. وَأَمَّا فِي حَالِ النُّطْقِ فِي الْوَصْلِ فَقَرَأَهَا نَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ فِي الْوَصْلِ وَهُوَ الْوَجْهُ، وَلِذَلِكَ كَتَبُوا الْيَاءَ فِي مَصَاحِفِهِمْ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ وَجَعَلُوهَا أَدَقَّ مِنْ بَقِيَّةِ الْحُرُوفِ الْمَرْسُومَةِ فِي الْمُصْحَفِ تَفْرِقَةً بَيْنِهَا وَبَيْنَ مَا رَسَمَهُ الصَّحَابَةُ كُتَّابُ الْمُصْحَفِ. وَالْبَاقُونَ حَذَفُوا الْيَاءَ فِي النُّطْقِ فِي الْوَصْلِ إِجْرَاءً لِلْوَصْلِ مَجْرَى الْوَقْفِ. وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ نَادِرًا فِي غَيْرِ الشِّعْرِ إِلَّا أَنَّ الْفُصَحَاءَ يُجْرُونَ الْفَوَاصِلَ مَجْرَى الْقَوَافِي، وَاعْتَبَرُوا الْفَاصِلَةَ كُلَّ جُمْلَةٍ، ثمَّ بِهَا الْكَلَامُ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَمْثِيلُ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابَةِ الْفَاصِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الفجْرِ: {وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ} الْآية: 4، وَكقَوْلِهِ مِنْ سورةِ الْكَهْف: {قالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} الآيةَ: 64. وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ} الآيَةَ: 9.
وَقد حُمِلَ عَلَى لَفْظِ "مَنْ" فِي قولِهِ: "فهُوَ المُهْتَدِ" فَأُفْرِدَ، وَحُمِلَ عَلى مَعْنَى "مَنْ" الثانِيَةِ فِي قَوْلِهِ: "وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ". فَجُمِعَ. وَوَجْهُ المُنَاسَبَةِ فِي ذَلِكَ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ: أَنَّهُ لَمَّا كانَ الهَدْيُ شَيْئًا وَاحِدًا غَيْرَ مُتَشَعِّبِ السُّبُلِ، ناسَبَهُ التَوْحِيدُ فأَفْرَدَ، وَلَمَّا كانَ للضَّلالِ طُرُقٌ، نَحْوَ قولِهِ مِنْ سُورةِ الأنعام: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية: 153، نَاسَبَ الجَمُعُ الجَمْعَ، وَهَذَا الحَمْلُ الثاني مِمَّا حُمِلَ فِيهِ عَلَى المَعْنَى، وإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ ـ وَهُوَ قَلِيلٌ فِي القُرْآنِ، بِالنِسْبَةِ إِلَى غَيْرِهِ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تعالى مِنْ سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَمِنْهُمْ مَّنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} الآيَةَ: 42. وَ يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ المُحَسِّنَ لِهَذَا، كَوْنُهُ تَقَدَّمَهُ، حَمْلٌ عَلَى اللَّفْظِ، وَإِنْ كان في جُمْلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ جُمْلَتِهِ.
قولُهُ: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} قالَ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما، مَعْنَى "وَمَنْ يُضْلِلْ": وَمَنْ يَخْذُلُ. أَيْ: فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ ـ يا رَسولَ اللهِ، أَوْلِيَاءَ يَهْدُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، فالْخِطَابُ في الآيَةِ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِتَسْلِيَتِهِ ـ عَليْهِ صَلاةُ اللهِ وسَلامُهُ، عَلَى عَدَمِ اسْتِجَابَةِ قوْمِهِ لِدَعْوَتِهِ، وعدَمِ الإِيمانِ بِرِسالَتِهِ، فَقَدْ نَفَى وُجْودَ أَوْلِيَاءَ لِهَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ الذينَ كَذَّبُوهُ، وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَنَاصَبُوهُ العِدَاءَ، وَحَاوَلُوا مَنْعَ النَّاسِ مِنِ اتِّبَاعِهِ، فَنَفَى وُجُودَ الْأَوْلِيَاءِ، أَيْ الْأَنْصَارِ، لَهُمْ لِأَنَّهُ لَوْ كَانُوا مَوْجُودِينَ لَوَجَدَهُمْ هُوَ وَعَرَفَهُمْ. أَيْ: لَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَنْصَارًا يُخَلِّصُونَهُمْ مِنْ الْعَذَابِ، الذي هُوَ جَزَاءُ الضَّلَالِ وعاقبتُهُ ومآلُ صاحبِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَوْلِيَاءُ بِمَعْنَى مُتَوَلِّي شَأْنِهِمْ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ مَنْ يُصْلِحُ حَالَهُمْ فَيَنْقُلُهُمْ مِنَ الضَّلَالِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ: 257، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَة: {اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ}.
وَجَمْعُ الْأَوْلِيَاءِ بِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ، أَيْ لَنْ تَجِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَلِيًّا وَلَا لِجَمَاعَتِهِ وَلِيًّا، وهذا كَمَا تَقولُ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ. ومعنى: "مِنْ دُونِهِ" أَيْ: غَيْرِهِ.
قوْلُهُ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} الْحَشْرُ: هوَ جَمْعُ النَّاسِ مِنْ مَوَاضِعَ مُتَفَرِّقَةٍ إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ يومَ القيامةِ. وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ يَسْتَدْعِي مَشْيَهُمْ عُدِّيَ الْحَشْرُ بِحَرْفِ "عَلَى" لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى (يَمْشُونَ). وَقَدْ فَهِمَ النَّاسُ في عهدِ الرَّسولِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلمَ، ذَلِكَ مِنَ الْآيَةِ، فَسَأَلوا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألوه: كَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟. فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ التَّشْوِيهِ وَالتَّعْذِيبِ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَرَقُّ تَحَمُّلًا لِصَلَابَةِ الْأَرْضِ مِنَ الرِّجْلِ. فقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمَعْرِفَةِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، كَيفَ يُحْشَرُ النَّاس عَلَى وُجُوهِهِمْ، قَالَ: الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَرجُلهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قولَهُ تَعَالى في الآيَةِ: 34، مِنْ سورةِ الْفرْقَان: {الَّذينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِم}. فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَكَيْفَ يَمْشُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ؟ قَالَ: ((أَرَأَيْتَ الَّذِي أَمْشَاهُم عَلَى أَقْدَامِهِمْ؟ أَلَيْسَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ)). وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْبَعْثِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلى ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ مُشَاةٌ، وصِنْفٌ رُكْبَانٌ، وصِنْفٌ عَلَى وُجُوهِهِمْ)). قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَكَيفَ يَمْشُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ؟. قَالَ: ((إِنَّ الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادرٌ أَنْ يُمْشِيهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَمَا إِنَّهُم يَتَّقُونَ بِوُجُوهِهِمْ كُلَّ حَدْبٍ وَشَوْكٍ)).
وَأَخْرَجَ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي الْبَعْثِ، عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الآيَةَ: "وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا" فَقَالَ: حَدَّثَنِي الصَّادِقُ المَصْدُوقُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ النَّاسَ يُحْشَرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَفْوَاجٍ: فَوْجٌ طَاعِمِينَ كَاسِينَ رَاكِبِينَ، وَفَوْجٌ يَمْشُونَ وَيَسْعَوْنَ، وَفَوْجٌ تَسْحَبُهُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى وُجُوهِهِمِ)).
وَأَخْرَجَ الأَئمَّةُ: ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَأَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ حَيْدَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّكُمْ تُحْشَرُونَ رِجَالًا، ورُكْبَانًا، وَتُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِكُمْ هَهُنَا))، وَنَحَى بِيَدِهِ نَحْوَ الشَّامِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "عُمْيًا" قَالَ: لَا يرَوْنَ شَيْئًا يَسُرَّهُمْ، و "بُكْمًا" قَالَ: لَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ، و "صُمًّا" قَالَ: لَا يَسْمَعُونَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ.
وَهَذَا جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ لِجُرْمِهم، بِتَرْويجِ الضَّلَالَةَ فِي صُورَةِ الْحَقِّ، وَوَسَمُوا الْحَقَّ بِسِمَاتِ الضَّلَالِ، فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ أَنْ حُوِّلَتْ وُجُوهُهُمْ إلى أَعْضَاءَ للمَشْيِ عِوَضًا عَنِ الْأَرْجُلِ. ثُمَّ كَانُوا عُمْيًا وَبُكْمًا جَزَاءً لهمْ على أَقْوَالِهِمُ الْبَاطِلَةِ حولَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وَالْقُرْآنِ الكريمِ، كما عوقبوا بالصَمَمِ أَيضًا لامْتِنَاعِهِمْ مِنْ سَمَاعِ الْحَقِّ، قَالَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ} الآيةَ: 5، مِنْ سُورَةِ فُصِّلَتْ. وَقَالَ عَنْهُمْ في سُورةِ طهَ: {قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} الآيتانِ: (125 و 126)، وَقَالَ في الآيةِ: 72، مِنْ هذِهِ السُّورةِ الكريمةِ: {وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وأَضَلُّ سَبيلًا}. أَيْ مَنْ كَانَ أَعْمَى عَنِ الْحَقِّ فَسَوْفَ يكونُ فِي الْمَحْشَرِ مَحْرُومًا مِنْ مُتْعَةِ النَّظَرِ. ذَكَرَ الْمَقْصُودَ مِنْ نَفْيِ الْوَلِيَّ أَوَ المِئَالَ لَهُ بِذِكْرِ صُورَةِ عِقَابِهِمْ بِقَوْلِهِ: "وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ" الْآيَةَ.
قَوْلُهُ: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} وَالْمَأْوَى: هُوَ مَحَلُّ الْأَوْيِ، أَيِ: النُّزُولِ بِالْمَأْوَى. أَيِ الْمَنْزِلِ وَالْمَقَرِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ" يَعْنِي أَنَّهُمْ وَقُودُهَا. وَخَبَتِ النَّارُ خُبُوًا وَخَبْوًا. نَقَصَ لَهِيبُهَا. خَبَتِ النَّارُ تَخْبُو: إِذَا سَكَنَ لَهَبُها، فإِذا ضَعُفَ جَمْرُها قِيلَ: خَمَدَتْ، فإِذا طُفِئَتْ بالجُمْلَةِ قِيلَ: هَمَدَتْ. قالَ عَدِيُّ بْنُ زَيْدٍ مِنَ البَحرِ الخَفِيفِ:
وَسْطُهُ كاليَراعِ أَوْ سُرُجِ المِجْــ ............... ــدَلِ حِيْنًا يَخْبُو وحِينًا ينيرُ
وقالَ عُمَرُ بْنُ أَبي رَبيعَةَ مِنْ بَحْرِ الهَزَجِ:
لِمَنْ نارٌ قُبَيْلَ الصُّبْــــ .......................... ـــحِ عِنْدَ البَيتِ مَا تَخْبُو
إِذا ما أُخْمِدَتْ أُلْقِي ............................ عَلَيْها المَنْدَلُ الرَّطْبُ
فَالْخَبْوُ وَازْدِيَادُ الِاشْتِعَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ لَا فِي أَصْلِ نَارِ جَهَنَّمَ. وَلِهَذِهِ النُّكْتَةِ سُلِّطَ الفِعْلُ "زِدْنا" عَلَى ضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ "هُمْ" لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ كَانَ فِيهِمْ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: كُلَّمَا خَبَتْ النارُ فِيهِمْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا، وَلم يَقُلْ: زِدْنَاهَا سَعِيرًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْن أبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "كُلَّمَا خَبَتْ" قَالَ: سَكَنَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَبي صَالِحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كُلَّمَا خَبَتْ" قَالَ: مَعْنَاهُ: كُلَّمَا حَمِيَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا". قَالَ: كُلَّمَا طُفِئَتْ أُسْعِرَتْ وَأُوقِدَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ: (الأَضْدَادُ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا". قَالَ: كُلَّمَا أَحْرَقَتْهُمْ، سُعِرَ بِهِمْ حَطَبًا، فَإِذا أَحْرَقَتْهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَيْءٌ صَارَتْ حَمْرَاءَ تَتَوَهَّجُ. فَذَلِكَ خبْؤُهَا، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقًا جَدِيدًا عَاوَدَتْهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا". يَقُولُ: كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهمْ بُدِّلُوا جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقَا الْعَذَابَ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: "كُلَّمَا خَبَتْ" قَالَ: الخبْءُ الَّذِي يُطْفَأُ مَرَّةً وَيُشْعَلُ أُخْرَى. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟. قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ وَهُوَ يَقُولُ:
وتَخْبُو النَّارُ عَنْ أَدْنَى أَذَاهُمْ ................ وَأُضْرِمُهَا إِذَا ابْتَرَدُوا سَعِيرًا
وَالسَّعِيرُ: هُوَ لَهَبُ النَّارِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ سَعَرِ النَّارَ: إِذَا هُيِّجَ وَقُودَهَا. وَقَدْ أَتَى الْوَصْفُ فِيهِ عَلَى التَّذْكِيرِ، وذَلِكَ تَبَعًا لِتَذْكِيرِ اللَّهَبِ. وَالْمَعْنَى: زِدْنَاهُمْ لَهَبًا فِيهَا.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا" إِشْكَالٌ، لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ لَا تَخْبُو. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى في الآيةَ: 86، مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَة: {فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ}. وجاءَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّ الْكَفَرَةَ وَقُودٌ لِلنَّارِ، قَالَ ـ تَعَالَى جَدُّهُ، في الْآيةَ: 24، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ}، فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمُ النَّارُ، زَالَ اللَّهَبُ الَّذِي كَانَ مُتَصَاعِدًا مِنْ أَجْسَامِهِمْ، فَلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُعَادَوْا كَمَا كَانُوا، فَيَعُودَ الِالْتِهَابُ لَهُمْ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ جَارٍ عَلَى طَرِيق التَهَكُّمِ وَالْإِطْمَاعِ الْمُسْفِرِ عَنْ خَيْبَةٍ، لِأَنَّهُ جَعَلَ ازْدِيَادَ السَّعِيرِ مُقْتَرِنًا بِكُلِّ زَمَانٍ مِنْ أَزْمِنَةِ الْخَبْوِ، وهوَ مَا تُفِيدُهُ كَلِمَةُ: "كُلَّمَا" الَّتِي هِيَ بِمَعْنَى: كُلَّ زَمَانٍ. وَهَذَا فِي ظَاهِرِهِ إِطْمَاعٌ بِحُصُولِ خَبْوٍ، لِوُرُودِ اللَفْظِ فِي الظَّاهِرِ، وَلكِنَّهُ يَؤُولُ إِلَى يَأْسٍ مِنْهُ، إِذْ يَدُلُّ عَلَى دَوَامِ سَعِيرِهَا فِي كُلِّ الْأَزْمَانِ، لِاقْتِرَانِ ازْدِيَادِ سَعِيرِهَا بِكُلِّ أَزْمَانِ خَبْوِهَا. فَإِنَّ هَذَا الْكَلَامَ هو مِنْ قَبِيلِ التَّمْلِيحِ، كما في قَوْلِهِ تَعَالَى منْ سورةِ الأَعْرَافِ: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ} الْآية: 40، وَكَقَوْلِ إِيَاسٍ الْقَاضِي لِلْخَصْمِ الَّذِي سَأَلَهُ: عَلَى مَنْ قَضَيْتَ؟ فَقَالَ: عَلَى ابْنِ أُخْتِ خَالِكَ.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَا تَغْبِطَنَّ فَاجِرًا بِنِعْمَةٍ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائهِ طَالِبًا حَثِيثًا))، وَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: "مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)).
وَأَخْرَجَ أَيضًا الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الدُّنْيَا خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، مَنِ اكْتَسَبَ فِيهَا مَالًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وأَنْفَقَهُ فِي غَيْرِ حِلِّهِ، أَحَلَّهُ دَارَ الهَوَانِ، ورُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِي مَالِ اللهِ وَرَسُولِهِ لَهُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْن أبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "كُلَّمَا خَبَتْ" قَالَ: سَكَنَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا". قَالَ: كُلَّمَا طُفِئَتْ أُسْعِرَتْ وَأُوقِدَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الأَنْبَارِيِّ فِي كِتَابِ: (الأَضْدَادُ) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا". قَالَ: كُلَّمَا أَحْرَقَتْهُمْ، سُعِرَ بِهِمْ حَطَبًا، فَإِذا أَحْرَقَتْهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ شَيْءٌ صَارَتْ حَمْرَاءَ تَتَوَهَّجُ. فَذَلِكَ خبْؤُهَا، فَإِذَا بُدِّلُوا خَلْقًا جَدِيدًا عَاوَدَتْهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "كُلَّمَا خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيرًا". يَقُولُ: كُلَّمَا احْتَرَقَتْ جُلُودُهمْ بُدِّلُوا جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقَا الْعَذَابَ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: "كُلَّمَا خَبَتْ" قَالَ: الخبْءُ الَّذِي يُطْفَأُ مَرَّةً وَيُشْعَلُ أُخْرَى. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟. قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ الشَّاعِرَ وَهُوَ يَقُولُ:
وتَخْبُو النَّارُ عَنْ أَدْنَى أَذَاهُمْ ................ وَأُضْرِمُهَا إِذَا ابْتَرَدُوا سَعِيرًا
قوْلُهُ تَعَالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، وَ "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالابْتِداءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا مَعًا، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، عَلَى كَوْنِهِ مَفْعُولًا مُقَدَّمًا لِـ "يَهْدِ". وَ "يَهْدِ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ (الياءِ) مِنْ آخِرِهِ. وَلَفْظُ الجَلالةِ "اللهُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "فَهُوَ" الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ وُجُوبًا لِكَوْنِ الجَوَابِ جُمْلَةً اسْمِيَّةً. وَ "هُوَ" ضَمِيرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ. وَ "الْمُهْتَدِ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وَعَلَامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى الياءِ المَحْذوفَةِ اتِّبَاعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ العُثْمانِيِّ، لأَنَّهُ اسْمٌ مَنْقُوصٌ، وَالجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ، بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ كَلامِ اللهِ تَعَالَى، ويَكونُ فِي الكَلامِ الْتِفَاتٌ؛ إِذْ فِيهِ خُروجٌ مِنْ غَيْبَةٍ إِلَى تَكَلُّمٍ بِقَوْلِهِ "وَنَحْشُرُهم"، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ هَذِهِ الجُمْلَةُ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ المَقُولِ، فَيَكونُ مَحَلُّها النَّصْبَ بالقَوْلِ.
قولُهُ: {وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جازمٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، والخَبَرُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، كَمَا مَرَّ آنِفًا. و "يُضْلِلْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مَجْزومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "فَلَنْ" الفَاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ وُجُوبًا كَوْنَهُ مَقْرُونًا بِـ "لَنْ"، و "لنْ" حَرْفٌ ناصِبٌ. و "تَجِدَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "لَنْ" وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجُوبًا تَقْديرُهُ (أَنْتَ) يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَوْلِياءَ"، ورَاعَى فَي الضَميرِ مَعْنَى "مَنْ" وفِي قولِهِ: "فَهُوَ" لَفْظَهَا. و "أَوْلِياءَ" مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "تَجِدَ" مَنْصُوبٌ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "أَوْلِياءَ" و "دُونِهِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِليْهِ، والجُمْلةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا، وجُملةُ "مِنْ" الشَرْطِيَّةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "مَنْ" الأُولَى عَلَى كَوْنِهَا مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} الواوُ: للعطْفِ، وَ "نَحْشُرُهُمْ" فِعْلُ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تَعالَى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ لتذكيرِ الجمعِ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "يَوْمَ" مَنْصُوبٌ عَلى الظَرْفِيَةِ المَكانيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَحْشُرُ"، وَهُوَ مُضَافٌ، وَ "الْقِيامَةِ" مَجْرُورٌ بالإِضَافَةِ إِليْهِ. وَ "عَلى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنَ "الهَاءِ" فِي "نَحْشُرُهُمْ"، أَيْ: كائِنِينَ وَمَسْحُوبِينَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالحَشْرِ. وُ "وُجُوهِهِمْ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا" هيَ مَنْصُوباتٌ أَيضًا عَلَى الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ المفعولِ بِهِ في قولِهِ تَعَالى: "نَحْشُرُهُمْ". وَيجوزُ أَنْ تَكونَ حَالًا مِنَ الضَمِيرِ المَرْفوعِ فِي الجَارِّ لِوُقُوعِهِ حَالًا، وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ حَالًا مِنَ الضَمِيرِ المَجْرُورِ فِي "وجوهِهم". وَقِيلَ: هِيَ بَدَلٌ مِنَ الحالِ الأُولَى، أَيْ بَدَلٌ مِنَ الحَالِ المُقَدَّرَةِ التي تَعَلَّقَ بِهَا حَرْفُ الجَرِّ "عَلَى" وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لأَنَّهُا لَيْسَتْ بَدَلَ كُلٌّ مِنْ كُلٍّ، ولا بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَلا بَدَلَ اشْتِمَالٍ.
قولُهُ: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} مَأْواهُمْ: مرفوعٌ بالابْتِداءِ، وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِهِا على الأَلِفِ، وهو مضافٌ والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "جَهَنَّمُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ: إِمَّا مِنَ الضَّمِيرِ المَنْصُوبِ، أَوِ المَجْرُورِ. و "كُلَّما" اسْمُ شَرْطٍ غَيْرُ جَازِمٍ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَرْفِيَّةِ الزَّمَانِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِالجَوَابِ الآتِي. و "خَبَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ لتأنيثِ الفاعِلِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعُودُ عَلَى "جَهَنَّمُ"، والجُمْلَةُ فِعْلُ شَرْطٍ لِـ "كُلَّمَا"، و "زِدْناهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعْظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، و "نَا" التَعْظيمِ ضَميرُ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ لتذْكيرِ الجمعِ. وَ "سَعِيرًا" مفعولٌ بِهِ ثانٍ، مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ جَوَابُ "كُلَّما" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ "كُلَّما" مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. ويَجُوزُ فِيهَا أَنْ تكونَ حالًا مِنْ "جَهَنَّمَ"، والعامِلُ فِيهَا مَعْنَى المَأْوَى.
قرَأَ الجُمْهورُ: {المُهتدِ} بحذِفِ الياءِ، وَقَرَأَ نَافعٌ وأَبُو عَمْرِو بْنُ العلاءِ بإثباتِها وَصْلًا، وحَذْفِها وَقْفًا، وكَذَلِكَ فِي التي تَحْتَ هَذِهِ السُّورَةِ.
قرَأَ العامَّةُ: {كلَّما خَبَتْ زِدْناهم} بإِظهارِ التاءِ قَبْلَ الزايِ، وَأَدْغَمها في الزَّايِ أَبُو عَمْرٍو، وَوَرْشٌ وَالأَخَوانِ: حَمْزَةُ والكِسائيُّ.