وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} دَلِيلٌ آخَرُ يَسُوقُهُ اللهُ تعالى عَلَى بَدِيعِ صُنْعهِ مُذَكِّرًا بِنِعْمَةِ تَكْوِينِ هَذَيْنِ الْخَلْقَيْنِ الْعَظِيمَيْنِ. فإنَّهُ ـ سُبحانَهُ، لَمَّا ذَكَرَ الْقُرْآنَ الكريمَ في الآياتِ السَّابِقَةِ، وَأَنَّهُ يهْدِي إِلَى الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ نِعَمَهِ مَا لَا يَكْمُلُ الِانْتِفَاعُ إِلَّا بِهِ، وَمَا دَلَّ عَلَى تَوْحِيدِهِ ـ تَبَارَكتْ أَسماؤهُ، مِنْ عَجَائِبِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، ثُمَّ ذَكَرَ عَجَلَةَ الْإِنْسَانِ، وَانْتِقَالَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، ذَكَرَ هُنَا أَنَّ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ هوَ كَذَلِكَ فِي الِانْتِقَالِ مِنْ حالٍ إلى حالٍ، لَا يَثْبُتُ عَلَى حَالٍ أَبَدا، فَنُورٌ عَقِبَ ظُلْمَةٍ وظُلمةٌ عَقِبَ نورٍ، وازْدِيادُ نُورٍ ونُقْصَانٌ. فَذكَرَ اللَّيْلَ والنهارَ عَلَى أَنَّهُمَا آيَتَانِ عظيمتانِ خلقَهُما، وَهُمَا آيَتَانِ فِي نَفْسِهِمَا لِأَنَّهُمَا عَلَامَتَانِ لِلنَّظَرِ وَالْعِبْرَةِ، أَيْ عَلَامَتَانِ دَالَّتَانِ عَلَى أَنَّهُ ـ سُبْحانَهَ، هوَ الرَّبُّ الْمُسْتَحِقُّ أَنَّ يُعْبَدَ وَحْدَهُ، وَلَا يُشْرَكَ مَعَهُ غَيْرُهُ. وَقَدْ كَرَّرَ تَعَالَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ العَزيزِ، فقَال مِنْ سُورةِ البَقَرَة: وَقَوْلِهِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ} إِلَى قَوْلِهِ: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} الآية: 164، وَقَال تَعالى مِنْ سُورةِ آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} الآية: 190، وَقَال مِنْ سُورةِ الأنعام: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} الآية: 96، وَقَالَ مِنْ سُورةِ يونُس ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} الآية: 6، وَقَالَ مِنْ سورةَ الفُرْقان: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} الآية: 62، وَقالَ مِنْ سُورةِ الأحزاب: {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} الآية: 80، وَقالَ مِنْ سُورةِ يَس: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} الآية: 37، وَقالَ من سورةِ الزُمَرِ: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} الآية: 5، وَقالَ مِنْ سُورةِ فُصِّلَتْ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ} الآية: 37، وَقالَ مِنْ سُورةِ الشمس: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} الْآيَات: (1 ـ 4)، وَقالَ مِنْ سُورةِ الليلِ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} الْآيَتَان: (1 و 2)، وَقالَ مِنْ سُورةِ الضُحى: {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} الْآيَتان: (1 و 2)، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ وَاهٍ عَنِ ابْن عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ شَمْسَيْنِ مِنْ نُورِ عَرْشِهِ، فأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَدَعُهَا شَمْسًا، فَإِنَّهُ خَلَقَهَا مِثْلَ الدُّنْيَا، عَلَى قَدَرِهَا، مَا بَيْنَ مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبهَا، وَأَمَّا مَا كَانَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَطْمِسُها وَيَجْعَلُها قَمَرًا، فَإِنَّهُ خَلَقَهَا دُونَ الشَّمْسِ فِي الْعِظَمِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا يُرَى صِغَرُها لِشِدَّةِ ارْتِفَاعِ السَّمَاءِ وَبُعْدِهَا مِنَ الأَرْضِ، فَلَو تَرَكَ الشَّمْسَ كَمَا كَانَ خَلَقَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ، لَمْ يُعْرَفِ اللَّيْلُ مِنَ النَّهَارِ، وَلَا النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، وَلَمْ يَدْرِ الصَّائِمُ إِلَى مَتَى يَصُومُ، وَمَتَى يُفْطِرُ، وَلَمْ يَدْرِ الْمُسْلمُونَ مَتَى وَقْتُ حَجِّهم، وَكَيفَ عَدَدُ الْأَيَّامِ والشُهورِ وَالسِّنينَ والحِسَابَ، فَأَرْسَلَ جِبْرِيلَ فَأَمَرَّ جَنَاحَهُ عَنْ وَجْهِ الْقَمَرِ ـ وَهُوَ يَوْمئِذٍ شَمْسٌ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَطَمَسَ عَنْهُ الضَّوْءَ، وَبَقِي فِيهِ النُّورُ، فَذَلِك قَوْلُهُ: "وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ" الْآيَةَ.
قولُهُ: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} آيةُ اللَّيْلِ: القَمَرُ، ومَعْنَى مَحْوِهِ طَمْسُهُ وذَهابُ نُورِهِ، وَلَكِنَّهُ أَصْبَحَ يَكْتَسِبُ النُورَ مِنَ الشَّمْسِ بِانْعِكَاسِ إِشْعاعاتِها عَلَى سَطْحِ كُرَتِهِ. وَمَعْنَى كَوْنِ آيَةِ النَّهَارِ مُبْصِرَةً: جَعْلُ ضَوْءِ الشَّمْسِ سَبَبَ إِبْصَارِ النَّاسِ الْأَشْيَاءَ، فَـ "مُبْصِرَةً" اسْمُ فَاعِلِ "أَبْصَرَ" الْمُتَعَدِّي، أَيْ جَعَلَ غَيْرَهُ بَاصِرًا. وَهَذَا هو أَدَقُّ مَعْنًى وَأَعْمَقُ فِي إِعْجَازِ الْقُرْآنِ بَلَاغَةً وَعِلْمًا، فَإِنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ مِنْ عِلْمِ الْهَيْئَةِ، ولِأَجْلِهَا أُعِيدَ لَفْظُ "آيَةَ".
وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَقد أُطْلِقَ عَلَى ذَهابِ النُّورِ انْعِدَامِهِ، لِأَنَّ النُّورَ يُظْهِرُ الْأَشْيَاءَ، أَمَّا الظُّلْمَةُ فإنَّهُ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْأَشْيَاءُ، لذلكَ فَقد شَبَّهَ اخْتِفَاءَ الْأَشْيَاءِ بِالْمَحْوِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي مُقَابِلِهِ: "وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً"، أَيْ جَعَلْنَا الظُّلْمَةَ آيَةً، وَجَعَلْنَا سَبَبَ الْإِبْصَارِ آيَةً. وَقد أَطْلَقَ وَصْفَ "مُبْصِرَةً" عَلَى النَّهَارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ إِسْنَادًا لِلسَّبَبِ. يَعْنِي أَنَّهُ جَعَلَ اللَّيْلَ مُظْلِمًا مُنَاسِبًا لِلْهُدُوءِ وَالرَّاحَةِ، وَالنَّهَارَ مُضِيئًا مُنَاسِبًا لِلْحَرَكَةِ والعَمَلِ وَالِاشْتِغَالِ بِأَسْبابِ الْعَيشِ فِي الدُّنْيَا، فَيَسْعَوْنَ فِي سبيلِ مَعَاشِهِمْ فِي النَّهَارِ، وَفي اللَّيْلِ يَسْتَرِيحُونَ مِنْ تَعَبِ عَمَلِ النَّهارِ، وَلَوْ كَانَ الزَّمَنُ لَيْلًا كُلُّهُ لَصَعُبَ عَلَى النَّاسِ الْعَمَلُ فِي مَعَاشِهِمْ، وَلَوْ كَانَ نَهَارًا كُلُّهُ، لَأَنْهَكَهُمُ التَّعَبُ والنَّصَبُ وأَهْلَكَهُمْ اسْتِمرارُ الْعَمَلِ، ودوامُ التَّعَبِ. فَإِنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ كَمَا أَنَّهُما آيَتَانِ مِنْ آيَاتِهِ ـ جَلَّ جلَالُهُ العظيمُ، فَإِنَّهُمَا أَيْضًا نِعْمَتَانِ مَنْ نِعَمِهِ العُظْمَى. وَقد أَوْضَحَ ـ تَعَالى، هَذَا الْمَعْنَى الْمُشَارَ إِلَيْهِ هُنَا وبَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كتابِهِ العزيزِ، كَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ القَصَصِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الآيات: (71 ـ 73).
فَقَوْلُهُ: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، أَيْ فِي اللَّيْلِ، وَقَوْلُهُ: {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}، أَيْ فِي النَّهَارِ، وَكذلك قَوْلُهُ منْ سورةِ النَّبَأ: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} الْآيَات: (9 ـ 11)، وَقَوْلُهُ مِنْ سورةِ الفُرقانِ: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} الآية: 47، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الرومِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ} الْآيَةَ: 23، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ الأَنْعَامِ: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} الآية: 60، إِلَى غَيْرِها مِنَ الْآيَاتِ.
وَلِلْعُلَمَاءِ فِي تَّفْسِيرِ قَوْلُهُ ـ جَلَّ وَعَزَّ: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً" وَجْهَانِ:
أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَالتَّقْدِيرُ: وَجَعَلْنَا نَيِّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، أَيِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ. وَعَلَيهِ، فَإِنَّ آيَةَ اللَّيْلِ هِيَ الْقَمَرُ، وَآيَةُ النَّهَارِ هِيَ الشَّمْسُ، وَالْمَحْوُ: الطَّمْسُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ: فَمَحْوُ آيَةِ اللَّيْلِ قِيلَ مَعْنَاهُ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَهوَ قَولُ أَمِيرِ المُؤْمِنينَ عَلِيٍّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ"، أَيْ لَمْ نَجْعَلْ فِي الْقَمَرِ شُعَاعًا كَشُعَاعِ الشَّمْسِ تُرَى بِهِ الْأَشْيَاءُ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، وعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَنَقْصُّ نُورِ الْقَمَرِ عَنْ نُورِ الشَّمْسِ هُوَ مَعْنَى الطَّمْسِ. وَهُوَ الأَظْهَرُ لِمُقَابَلَتِهِ تَعَالَى لَهُ بِقَوْلِهِ: "وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً"، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ مَعْنَى مَحْوِ آيَةِ اللَّيْلِ: هُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ، وَرُوِيَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعينَ، وَبِهِ قَالَ بَعْضُ أَجِلَّاءِ أَهْلِ الْعِلْمِ، ولَيْسَ بِظَاهِرٍ. وَعَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ فَمعنى قَوْلِهِ: "وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ"، أَيِ: وجعلْنا الشَّمْسَ مُبْصِرَةً، أَيْ: ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: أَبْصَرَ النَّهَارَ: إِذَا أَضَاءَ وَصَارَ بِحَالَةٍ يُبْصَرُ بِهَا، وَقْدْ نَقَلَهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنْهُ ـ رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِمٌ، وَلَيْلُهُ قَائِمٌ. وَمِنْهُ قَوْلُ جريرٍ:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلَانَ فِي السُّرَى ......... وَنِمْتِ وَمَا لَيْلُ الْمُحِبِّ بِنَائِمِ
وَهَذا الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ مِنَ التَّفْسِيرِ هوَ عَلَى حَذْفُ مُضَافٍ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِنْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ، قَالَ ابنُ مالكٍ فِي أَلْفِيَّتِهِ:
وَمَا يَلِي الْمُضَافَ يَأْتِي خَلَفا ............. عَنْهُ فِي الْإِعْرَابِ إِذَا مَا حُذِفَا
وَالْقَرِينَةُ فِي الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الدَّالَّةُ عَلَى الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ قَوْلُهُ: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً"، فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْآيَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَهُمَا لَا هُمَا أَنْفَسَهُمَا، وَحَذْفُ الْمُضَافِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ، مِنْ ذلكَ قَوْلُهُ تَعَالى مِنْ سُورةِ النِساء: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية: 23، أَيْ نِكَاحُ أُمَّهَاتِكم، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ النِّسَاءِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} الآية: 3، أَيْ حُرِّمَ عليكمْ أَكْلُ المَيْتَةِ، وقولُهُ مِنْ سُورةِ يوسُف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} الآية: 82، أيْ واسْأَلْ أهلَ القريَةِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِتَقْدِيرِ الْمُضَافِ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَالْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِكَوْنِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ آيَتَيْنِ تَقَدَّمَتْ مُوَضَّحَةً فِي سُورَةِ النَّحْلِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ التَّفْسِيرِ: أَنَّ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ لَيْسَ فِيهَا مُضَافٌ مَحْذُوفٌ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَتَيْنِ نَفْسُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لَا الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَإِضَافَةُ الْآيَةِ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنْ إِضَافَةِ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ، تَنْزِيلًا لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ مَنْزِلَةَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَعْنَى، وَإِضَافَةُ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ اللَّفْظِ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ البَقَرةِ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} الْآيَةَ: 185، وَرَمَضَانُ هُوَ نَفْسُ الشَّهْرِ بِعَيْنِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ، وَقَوْلُهُ منْ سُورةِ يوسُف: {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ} الْآيَةَ: 109، وَالدَّارُ هِيَ الْآخِرَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ} بِالتَّعْرِيفِ، الآية: 32، مِنْ سُورَةِ الأَنْعامِ، وَالْآخِرَةُ نَعْتٌ لِلدَّارِ، وَقَوْلُهُ مِنْ سُورةِ (ق): {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} الآية: 16، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقَوْلُهُ مِنْ سورةِ فَاطِر: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} الْآيَةَ: 43، وَالْمَكْرُ هُوَ السَّيْءُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعدَ ذلكَ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} الآية: 43، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
كَبِكْرِ الْمُقَانَاةِ الْبَيَاضِ بِصُفْرَةٍ .......... غَذَّاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرُ الْمُحَلَّلِ
لِأَنَّ الْمُقَانَاةَ هِيَ الْبِكْرُ بِعَيْنِهَا، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
وَمِشَكٍّ سَابِغَةٍ هَتَكْتُ فُرُوجَهَا ........ بِالسَّيْفِ عَنْ حَامِي الْحَقِيقَةِ مُعْلِمِ
لِأَنَّ مُرَادَهُ بِالْمِشَكِّ: السَّابِغَةُ بِعَيْنِهَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: هَتَكْتُ فُرُوجَهَا، لِأَنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى السَّابِغَةِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمِشَكِّ. والَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ إِضَافَةَ الشَّيْءِ إِلَى نَفْسِهِ مَعَ اخْتِلَافِ لَفْظِ الْمُضَافِ وَالْمُضَافِ إِلَيْهِ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، لِأَنَّ تَغَايُرَ اللَّفْظَيْنِ رُبَّمَا نُزِّلَ مَنْزِلَةَ التَّغَايُرِ الْمَعْنَوِيِّ لِكَثْرَةِ الْإِضَافَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي بَعْضِ مَوَاضِعِهِ فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
وَلَا يُضَافُ اسْمٌ لِمَا بِهِ اتَّحَدَ ................ مَعْنًى وَأَوَّلْ مُوَهَّمًا إِذَا وَرَدَ
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ التَّأْوِيلِ الْمَذْكُورِ قَوْلُهُ:
وَإِنْ يَكُونَا مُفْرَدَيْنِ فَأَضِفْ ................. حَتْمًا وَإِلَّا أَتْبَعَ الَّذِي رَدَفَ
لِأَنَّ إِيجَابَ إِضَافَةِ الْعَلَمِ إِلَى اللَّقَبِ مَعَ اتِّحَادِهِمَا فِي الْمَعْنَى إِنْ كَانَا مُفْرَدَيْنِ الْمُسْتَلْزِمُ لِلتَّأْوِيلِ، وَمَنْعُ الْإِتْبَاعِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلِ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَسَالِيبِهَا لَوَجَبَ تَقْدِيمُ مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ عَلَى الْمُحْتَاجِ إِلَى تَأْوِيلٍ كَمَا تَرَى. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ التَّفْسِيرِ فَالْمَعْنَى: فَمَحَوْنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ اللَّيْلُ، وَجَعَلَنَا الْآيَةَ الَّتِي هِيَ النَّهَارُ مُبْصِرَةً، أَيْ: جَعَلْنَا اللَّيْلَ مَمْحُوَّ الضَّوْءِ مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا تُسْتَبَانُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا، أَيْ تُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ: أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلامٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ السَوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ فَقَالَ: كَانَا شَمْسَيْنِ. فَقَالَ: قَالَ اللهُ: "وَجَعَلنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلَ" فالسَوادُ الَّذِي رَأَيْتَ مِنَ المَحْوِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِي فِي (الْمَصَاحِف) عَنْ أَميرِ المؤمنينَ عَلَيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وأرضاهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ" قَالَ: هُوَ السَوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ سَوَاءً فَمَحَا اللهُ آيَةَ اللَّيْلِ فَجَعَلَهَا مُظْلِمَةً، وَتَرَكَ آيَةَ النَّهَارِ كَمَا هِيَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ" قَالَ: هُوَ السَّوَادُ بِاللَّيْلِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَعَلنَا اللَّيْل وَالنَّهَار آيَتَيْنِ" قَالَ: كَانَ الْقَمَرُ يُضِيءُ كَمَا تُضِيءُ الشَّمْسُ، وَالْقَمَرُ آيَةُ اللَّيْلِ، وَالشَّمْسُ آيَةُ النَّهَارِ. و "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ" قَالَ: السَوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، وَابْن الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَتَبَ هِرَقْلُ إِلَى مُعَاوِيَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَسْأَلُهُ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَيُّ مَكَانٍ إِذا صَلَّيْتَ فِيهِ ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَمْ تُصَلِّ إِلَى قِبْلَةٍ؟. وَأَيُّ مَكَانٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ مَرَّةً لَمْ تَطْلعْ فِيهِ قَبْلُ، وَلَا بَعْدُ، وَعَنِ السَوَادِ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. فَسَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: أَمَّا الْمَكَانُ الأَوَّلُ: فَهُوَ ظَهْرُ الْكَعْبَةِ. وَأَمَّا الثَّانِي: فالبَحْرُ حِينَ فَرَقَهُ اللهُ تعالى لِمُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا السَوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ: فَهُوَ المَحْوُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: خَلَقَ اللهُ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعينَ جُزْءًا، أَوْ نُورَ الْقَمَرِ سَبْعينَ جُزْءًا فَمَحَا مِنْ نُورِ الْقَمَرِ تِسْعَةً وَسِتِّينَ جُزْءًا فَجَعَلَهُ مَعَ نُورِ الشَّمْسِ فَالشَّمْسُ عَلَى مِئَةٍ وَتِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا، وَالْقَمَرُ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: كَانَتْ شَمْسٌ بِاللَّيْلِ، وشَمْسٌ بِالنَّهَارِ، فَمَحَا اللهُ شَمْسَ اللَّيْلِ، فَهُوَ المَحْوُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ" قَالَ: انْظُرْ إِلَى الْهلَالِ لَيْلَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، أَوْ أَرْبَعَ عَشرَةَ، فَإنَّكَ تَرَى فِيهِ كَهَيئَةِ الرَّجُلِ آخِذًا بِرَأْسِ رَجُلٍ.
هذا وَقَدْ اكْتَشَفَ عُلَماءُ الفَلَكِ بَعْدَ صُعُودِ الإِنْسَانِ إِلَى القَمَرِ وسَيْرِهِ على سَطحِهِ، وبالصُّوَرِ التي التِقطِها مباشرةً أَوْ تلكَ التي التَقَطَها بوساطةِ الأَقْمَارِ الصِنَاعِيَةِ أَنْ كَوْكَبَ القَمَرِ كَانَ فِي القَديمِ كَوْكَبًا مُشْتَعِلًا لَكِنَّهُ انْطَفَأَ وَذَهَبَ ضَوْؤُهُ. فكيونُ العِلْمُ قد فسَّرَ بِذَلِكَ قَوْلَهُ ـ تَعَالىَ: "وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً". إذًا فقد أَشارتِ هذهِ الآيَةُ القُرْآنِيَةُ الكَريمَةُ إلى حَقِيقَةٍ عِلْمِيَّة، وَهِيَ أَنَّ القَمَرَ كانَ فِي القَديمِ كَوْكَبًا مُشْتَعِلًا منيرًا، ثُمَّ أَخْمَدَ اللهُ تَعَالَى نارَهُ وأَطْفَأَ نُورَهُ، ودَلَالَةُ القُرْآنِ عَلَى هَذَا وَاضِحَةٌ لا لبسَ فيها ولا رَيْبَ، كَمَا فسَّرها سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبَّاسٍ وغيرُ مِنْ المُفسِّرينَ ـ رَضي اللهُ تعالى عنهم، وقدْ تقدَّمت أقوالُهُم. فقد كانَ القَمَرُ مُضيئًا كَالشَّمْسِ، فَهُوَ آيَةُ اللَّيْلِ التي مَحاها اللهُ، وما يَظْهَرُ فيهِ مِنَ السَّوَادِ إِنْ هو إلَّا أَثَرُ ذَلِكَ المَحْوِ.
قولُهُ: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} فقد جعلَ اللهُ لنا النهارَ مُبْصِرًا لننهضَ فيهِ وننشَطَ في السَّعْيِ عَنْ مصالِحِنا وأَرْزاقِنا التي خلقها اللهُ لَنَا على سَطْحِ هذهِ الكُرةِ، ويسَّر لنا أَسْبَابَ ذَلِكَ تفضُّلًا مِنْهُ علينا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً" قَالَ: ظُلْمَةُ اللَّيْلِ وَسُدُفِ النَّهَارِ: "لَتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ" قَالَ: جَعَلَ لَكُمْ {سَبْحًا طَويلًا} الآيَة: 7، مِنْ سُورةِ المزمَّلِ. والسَبْحُ: هو التَقَلُّبُ والحركةُ والتَصَرُّفُ فِي الأعمالِ والمَهامِّ والاشْتِغَالُ بالكسْبِ وتحصيلِ الرزْقِ، والسَّبحُ في الأَصْلِ: الحَرَكَةُ السَّريعَةُ لقَطْعِ المَسَافَاتِ فِي المَاءِ، واسْتُعِيرَ هُنَا لاشْتِغالِ الإنْسَانِ بِشَوَاغِلِهِ وَسَعْيِهِ لِتَحْقِيقِ مَصَالِحِهِ. عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ للعَبْدِ فِي تَحْصِيلِ رِزْقِهِ أَيُّ تَأْثيرٍ سِوى السَّعْيِ والطَلَبِ، وَإِنَّما الإعْطَاءُ إِلَى اللهِ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، بمحضِ التَفَضُّلِ والتَكَّرُّمِ، وبِحُكْمِ الرُّبُوبِيَّةِ لا بِطَريقِ الوُجوبِ عَلَيْهِ تَعَالَى، وفي هذا المَعْنَى قُلْتُ:
يا مَنْ تودَّدَ بالنُعْمَى ولا سَبَبٌ ............ إلَّا افتقاري إِلَى نَعْمائِهِ سَبَبِي
ومَعْنَى تَأْثيرِ الطَّلَبِ عَلَى نَحْوِ تَأْثِيرِ الأَسْبَابِ العَادِيَّةِ فَإِنَّهُ مَنْ جُمْلَتِهَا، وَفِي الخَبَرِ: (يَطْلُبُكَ رِزْقُكَ كَمَا يَطْلُبُكَ أَجَلُكَ).
قولُهُ: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} يَذْكُرُ لَنَا مَوْلانَا العَظِيمُ حِكْمَةً أُخْرَى مِنْ وجودِ هاتينِ الْآيَتَيْنِ. وَهِيَ حِسَابُ السِّنِينَ وعدُّها، وَهِيَ فِي آيَةِ اللَّيْلِ أَظْهَرُ مِنْهَا في آيَةِ النَّهارِ، فالْبَشَرُ إنَّما يَضْبطُونَ الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ بِاللَّيَالِي، أَيْ بحِسَابِ ظُهُورِ الْقَمَرِ واختِفائهِ ومَطَالِعِهِ وَمَنَازِلِهِ. وَلَوْ كانَ القَمَرُ مُسْتَمِرًّا فِي الإِضاءَةِ الذَاتِيَّةِ لَمَا أَمْكَنَ للإنْسانِ حِسَابُ الشهورِ والسِّنينَ. وذَلِكَ بسَببِ الالْتِبَاسِ بَيْنَ ضَوْءِ الشَّمْسِ وضَوْئِهِ، والسَنَةُ إِمَّا أَنْ تَكونَ شَمْسِيَّةً أَوْ قَمَرِيَّةً. وَالْحِسَابُ يَشْمَلُ حِسَابَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْفُصُولِ، فَعَطْفُهُ عَلَى عَدَدَ السِّنِينَ مِنْ بابِ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لِلتَّعْمِيمِ، بَعْدَ ذِكْرِ الْخَاصِّ اهْتِمَامًا بِهِ. فِبِاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَعْلَمُونَ عَدَدَ الْأَيَّامِ وَالشُّهُورِ وَالْأَعْوَامِ، وَيَعْرِفُونَ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِيُصَلُّوا فِيهِ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ، وَيَعْرِفُونَ شَهْرَ الصَّوْمِ، وَأَشْهُرَ الْحَجِّ، وَيَعْلَمُونَ مُضِيَّ أَشْهُرِ الْعِدَّةِ لِمَنْ تَعْتَدُّ بِالْأَشْهُرِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ البقرةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} الآيةَ: 234، وَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ الطلاقِ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} الآية: 4، وَكذلك يَعْرِفُونَ مُضِيِّ الْآجَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلدُّيُونِ وَالْإِجَارَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. كما بَيَّنَ ـ جَلَّ وَعَلَا، هَذِهِ الْحِكْمَةَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كتابِهِ الكريمِ وقرآنِهِ العظيمِ، فقَالَ مِنْ سُورةِ البقرة: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} الآية: 189، وقالَ مِنْ سورةِ يونُس: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} الآية: 5. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ آيَاتِ الذِكْرِ الحَكِيمِ.
قولُهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} نَظِيرُهُ قولُهُ تَعَالى مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} الآيةَ: 89. والتَفْصِيلُ: التَوْضِيحُ والبَيَانُ، وهو مِنَ الفَصْلِ بِمَعْنَى القَطْعِ، والمُرَدُ بِهِ الإبَانَةُ التَامَّةُ، وِجِيءَ بِالمَصْدَرِ للتَأْكِيدِ. فالمَعْنَى بَيَّنَّا كُلَّ شَيْءٍ. وجِيءَ بِالمَصْدَرِ "تفصيلًا" للتَأْكِيدِ. فالمَعْنَى بَيَّنَّا كُلَّ شَيْءٍ فِي القَرْآنِ الكَريمِ بَيَانًا بَلِيغًا لا لَبْسَ مَعَهُ ولا غُمُضَ فيِهِ، فَظَهَرَ كَوْنُهُ هَادِيًا للَّتي هِيَ أَقْوَمُ ظُهُورًا بَيِّنًا. وأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْله: "فَصَّلْنَاهُ" يَقُولُ: بَيَّنَاهُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} الواوُ: للاسْتِئْنَافِ، وَ "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهَ ـ سُبحانَهُ، وَ "نَا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ رَفْعِ فَاعِلِهِ، و "اللَّيْلَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. و "النَّهَارَ" معطوفٌ على "اللَّيْلَ" منصوبٌ مِثْلُهُ. و "آيَتَيْنِ" مفعُلُهُ الثاني منصوبٌ وعلامةُ نَصِبِهِ الياءُ لأنَّهُ مثنَّى، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ المَفْعُولَ الأَوَّلَ، وَ "اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ" ظَرْفَانِ فِي مَوْضِعِ الثاني قُدِّمَا عَلَى الأَوَّلِ، والتَقْديرُ: وَجَعَلْنا آيَتَيْنِ فِي اللَّيْلِ وَالنَهَارِ، والمُرَادُ بالآيَتَيْنِ: إِمَّا الشَمْسُ وَالقَمَرُ ـ كما تقدَّمَ في التفسيرِ، وَإِمَّا تَكْويرُ أَحَدِهِما عَلَى الآخَرِ. ثُمَّ فِيهِ احْتِمَالانِ، أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ: إمَّا مِنَ الأَوَّلِ، أَيْ: نَيَّرَيِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُمَا القَمَرُ والشَّمْسُ، وَإِمَّا مِنَ الثَانِي، أَيْ: ذَوِي آيَتَيْنِ. وَالثاني: أَنَّهُ لَا حَذْفَ، وأَنَّهُمَا عَلامَتَانِ فِي نَفْسَيْهِمَا، لَهُمَا دَلَالَةٌ عَلى شَيْءٍ آخَرَ. قالَ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ: (فَلِذَلِكَ أَضَافَ فِي مَوْضَعٍ، وَوَصَفَ فِي آخَرَ). يَعْني أَنَّهُ أَضَافَ الآيَةَ إِلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: "آيَةَ اللَّيلِ"، وَوصَفَهُما فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّهُمَا اثْنَانِ لِقَوْلِهِ: "وَجَعَلْنا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ". وهَذَا كُلُّه إِذا اعْتَبَرْنا الجَعْلَ تَصْيِيرًا مُتَعَدِّيًا لاثْنَيْنِ، فَإِنْ جَعَلْناهُ بِمَعْنَى "خَلَقْنا" كانَ "آيَتَيْنِ" حالًا، وَتَكونُ حَالًا مُقَدَّرَةً. واسْتَشْكَلَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ "جَعَلَ" بِمَعْنَى صَيَّرَ، قالَ: (لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِيْ أَنْ يَكُونَ اللَّيْلُ والنَّهارُ مَوْجُودَيْنِ عَلَى حَالَةٍ، ثُمَّ انْتَقَلَ عَنْهَا إِلَى أُخْرَىَ). والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جُمْلةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} الفاءُ: تَفْسِيرِيَّةٌ، لأَنَّ المَحْوَ المَذْكُورَ، ومَا عُطِفَ عَلَيْهِ لَيْسَا مِمَّا يَحْصُلُ عَقِبَ جَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ آيَتَيْنِ، بَلْ هُمَا مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ الجَعْلِ، ومُتَمِّماتِهِ. وَ "مَحَوْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مثلُ "جعَلْنا". وَ "آيَةَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، مُضافٌ. و "اللَّيْلِ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. والجُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَة "جَعَلْنَا". على كوْنِها جُمْلةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الوَاوُ: للعطْفِ، و "جَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ" كَقوْلِهِ: "مَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ". تقدَّمَ إِعْرابُهُ. و "مُبْصِرَةً" مَفْعُولٌ ثانٍ لِـ "جَعَلَ" والإِسْنَادُ مَجَازِيٌّ، لأَنَّ الإِبْصَارَ فِيها لأَهْلِها، وهو كَقَوْلِهِ بعدَ ذلكَ في الآيَةِ: 59، مِنْ هذهِ السورةِ المباركةِ: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً}، لَمَّا كانَتْ سَبَبًا للإِبْصَارِ. وَقِيلَ: "مُبْصِرةً": مُضِيئَةً، وَقِيلَ: هِيَ مِنْ بابِ "اَفْعَل"، وَالمُرادُ بِهِ غَيْرُ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ الفعلُ، فهوَ كَقَوْلِهِمْ: (أَضْعَفَ الرجلُ)، إِذَا ضَعُفَتْ مَاشِيَتُهُ، وَ (أَجْبَنَ) إِذَا كانَ أَهْلُهُ جُبَنَاءَ، فَالمَعْنَى المُرادُ في هذهِ الآيةِ الكريمةِ: أَنَّ أَهْلَها بُصَراءُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى سابِقتها جُمْلَةِ "مَحَوْنَا"، عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} لِتَبْتَغُوا: اللامُ هيَ لامُ "كَيْ" حَرْفُ جَرٍّ لِلْتَعْلِيلِ، و "تَبْتَغُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بـ "أَنَّ" مُضْمَرةٍ بعدَ لامِ "كَيْ"، وعلامةُ نَصْبِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فِاعِلُهُ، والأَلِفُ للتفريقِ. و "فَضْلًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "مِنْ حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "فَضْلًا"، و "رَبِّكُمْ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "اللامِ"، والجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلْنَا"؛ والتَقْديرُ: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لابْتِغَائكمْ فَضَلًا مِنْ رَبِّكُمْ.
قولُهُ: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} الواوُ: للعطفِ، و "لِتَعْلَمُوا" مثلُ "لِتَبْتَغُوا" معطوفٌ عليْهْ. وَ "عَدَدَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ مُضافٌ. و "السِّنِينَ" مَجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وعَلَامَةُ جَرِّهِ الياءُ فَهُوَ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ السَّالِمِ، والنُّونُ عِوَضٌ مِنَ التَنْوينِ في الاسْمِ المُفردِ. و "الْحِسابَ" مَعْطُوفٌ عَلَى "عَدَدَ" مَنْصوبٌ مِثْلُهُ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنَّ" المُضْمَرَةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِاللامِ، والجَارُّ مُتَعَلِّقٌ بِكِلا الفِعْلَيْنِ، أَعْنِي "محونا" وَ "جَعَلْنَا"؛ والتَقْديرُ: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِمَعْرِفَتِكُمْ عَدَدَ السِّنينَ والحِسَابَ.
قولُهُ: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} الواوُ للاسْتِئْنافِ، وَ "كُلَّ" مَنْصوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ وُجُوبًا، يُفَسِّرُهُ المَذْكُورُ بَعْدَهُ، والتَقْديرُ: وَبَيَّنا كُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ، وهو مُضافٌ، و "شيْءٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. و "فَصَّلْنَاهُ" فَصَّلْنا: مِثْلُ "جَعَلْنَا" والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصِبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و "تَفْصِيلًا" مَنْصُوبٌ عَلَى المَصْدَرِيَّةِ، وَالجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِه جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفةٌ، أَوْ مُفَسِّرَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قرأَ الجُمْهُورُ: {مُبْصِرةً} بضَمِّ الميمِ وكسْرِ الصادِ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ، وَقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، "مَبْصَرَةً" بِفَتْحِهِما، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مُقَامَ الاسْمِ، وَكَثُرَ هَذَا فِي صِفَاتِ الأَمْكِنَةِ نَحْوَ: "مَذْأَبَة".
قرَأَ العامَّةُ: {في عُنُقِهِ}، بضَمِّ النونِ، وَقُرِئَ "في عُنْقِهَ" بسُكونِها وَهُوَ تَخْفِيفٌ شائعٌ في أمثالِها.