وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(10)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} أَيْ: ويُنْذِرُ القرآنُ الكريمُ الكَافِرِينَ باللهِ تعالى الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِوَحْدَانِيَّتِهِ ـ تَعَالى، وَبِالبَعْثِ بعْدَ المَوْتِ لِلْحِسَابِ والجَزَاءِ العادِلِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَيُكَذِّبونَ بِرِسَالةِ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ. بِأَنَّهُ قدِ ادَّخَرَ لَهُمْ أَيضًا، عَذَابًا مُهينًا عَلَى مَا اقْتَرَفُوهُ. ويمكنُ أنْ يكونَ المَعْنَى: ويبشِّرُ المؤمنينَ بأنَّ خصومَهمُ المشركينَ لهم عذابٌ أليمٌ في الآخرةِ. قالَ الفَرَّاءُ في "مَعَانِي القُرْآنِ" لَهُ: (2/117): أُوقِعَتِ البِشارَةُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا} الآيةَ: 9، السابقة. وَعَلَى قَوْلِهِ: "وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ" الآية: 10. عَلَى أَنّْ يَكونَ المُؤْمِنُونَ بُشِّرُوا بِهِمَا جَمِيعًا؛ كَمَا تَقُولُ: بَشَّرْتُ عَبْدَ اللهِ أَنَّهُ سَيُعْطَى، وأَنَّ عَدُوَّهُ سَيُمْنَعُ. وذَلِكَ أَنَّ المُؤْمِنينَ كانُوا فِي أَذًى مِنَ المُشْرِكِينَ فَجَعَلَ اللهُ لَهُمُ البُشْرَى فِي الدُنْيا بِعِقابِ الكافِرينَ. واللهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
قولُهُ: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أَيْ: أَعْدَدْنَا وهيَّأْنا لهمْ عذابًا مُؤلِمًا أَشَدَّ الإيلامِ، فَـ "أَعْتَدْنَا": أَعْدَدْنا، قُلِبَتْ دَالُهُ الأُولَى تَاءً. وَهُوَ عَذَابُ جَهَنَّمَ، فَقَدْ هَيَّأْ اللهُ لَهُمْ بِمَا كَفَرُوا بِهِ، وأَنْكَرُوا وُجُودَهُ، عَذابًا مُؤْلِمًا في الآخِرَةِ، وَهُوَ أَبْلَغُ فِي الزَّجْرِ، لِأَنَّ إِتْيَانَ العَذَابِ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ المَرْءُ أَفْظَعُ وَأَفْجَعُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} الوَاوُ للعطْفِ، و "أَنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَوْكيدِ. و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُ "أَنَّ". و "لا" نافيَةٌ لا عمَلَ لها. و "يُؤْمِنُونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. وَ "بِالْآخِرَةِ" الباءُ: حرفُ جرِّ متعلِّقٌ بـ "يؤمنونَ"، و "الآخِرَةِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. وجُملةُ "لا يُؤْمِنُونَ" صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} أَعْتَدْنا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبحانَهُ، و "نا" التعظيمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. و "لَهُمْ" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَعْتَدْنا"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "عَذابًا" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "أَلِيمًا" صِفَةٌ لـ "عذابًا" منصوبةٌ مثلهُ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ"، والرابِطُ ضَمِيرُ "لَهُمْ". وجُمْلَةُ "أَنَّ" مِنِ اسمِها وخبرِها فِيها وَجْهَانِ، أَحَدُهُما: أَنْ يَكونَ عَطْفًا عَلَى "أَنَّ" الأُولَى، أَيْ: يُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ بِشَيْئَيْنِ: بِأَجْرٍ كَبيرٍ، وبِتَعْذِيبِ أَعْدائِهمْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُصيبُ عَدُوَّكَ يَسُرُّكَ. وَقَالَ الزَمَخْشَرِيُّ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ المُرَادُ: وَيُخْبِرُ بِأَنَّ الذينَ. قالَ الشَيْخُ أَبو حيَّانٍ الأندلُسيُّ في تفسيرِهِ (البَحْرُ المحيطُ): فَلا يَكونُ إِذْ ذَاكَ دَاخِلًا تَحْتَ البِشاَرَةِ. قالَ السَّمينُ الحَلَبيُّ في تفسيرِهِ (الدُرُّ المَصُونِ): قَوْلُ الزَمَخْشَرِيِّ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُما: أَنْ يَكونَ قَوْلُهُ: (ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ المُرادُ: وَيُخْبِرُ بِأَنَّ). أَنَّهُ مِنْ بابِ الحَذْفِ، أَيْ: حَذَفَ "ويُخْبِرُ" وَأَبْقَى مَعْمُولَهُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكونُ "أَنَّ الذين" غَيْرَ دَاخِلٍ فِي حَيِّزِ البِشَارَةِ بِلا شَكٍّ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ قَصْدَهُ: أَنَّهُ أُريدَ بِالبِشارَةِ مُجَرَّدُ الإِخْبارِ سَواءً كانَ بِخَيْرٍ أَمْ بِشَرٍّ، وَهَلْ هُوَ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، وحِينَئِذٍ يَكونُ جَمْعًا بَيْنَ الحَقيقَةِ والمَجَازِ، أَوْ اسْتِعْمَالًا للمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَفِي المَسْأَلَتَيْنِ خِلافٌ مَشْهورٌ، وَعَلَى هَذَا فَلا يَكونُ قَوْلُهُ: "وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ" غَيْرَ دَاخِلٍ في حَيِّزِ البِشَارَةِ، إِلَّا أَنَّ الظاهِرَ مِنْ حَالِ الزَمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لا يُجيزُ الجَمْعَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالمَجازِ، وَلَا اسْتِعْمَالَ المُشْتَركِ فِي مَعْنَيَيْهِ. الدُرُّ المَصُونُ: (7/320).