وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} هَذِهِ الْآيَةُ الكريمةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قولِهِ مِنَ الآية: 112، السابقةِ: {وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا قَرْيَةً}. فقد عَادَ الْخِطَابُ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِقَرِينَةِ: "لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ". وَفِيهِ تَحْذِيرِ للْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا بَقِيَتْ فِي نُفُوسِ بَعْضِهِمْ كَرَاهِيَةُ أَكْلِ مَا كَانُوا مِنْ قبلُ يَتَعَفَّفُونَ عَنْ أَكْلِهِ فقد كَانُوا قَرِيبِي عَهْدٍ بِالجَاهِلِيَّةِ. وفيهِ أَيْضًا نَهْيٌ عَنْ جَعْلِ الْحَلَالِ حَرَامًا وَالْحَرَامِ حَلَالًا، إلَّا فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، لِأَنَّ الإِمْسَاكَ عَنْ أَكْلِ شَيْءٍ لِكَرَاهِيَةٍ أَوْ عَيْفٍ نَفْسٍ هُوَ عَمَلٌ قَاصِرٌ عَلَى ذَاتِهِ.
و "تَصِفُ" مَعْنَاهُ تَذْكُرُ وَصْفًا وَحَالًا، أَيْ لَا تَقُولُوا ذَلِكَ وَصْفًا كَذِبًا لِأَنَّهُ تَقَوُّلٌ لَمْ يَقُلْهُ اللهُ تعالى صاحِبُ الحقِّ في التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمُ، بما أَنُّ الخالِقُ الرازقُ المالكُ العَليمُ الحَكيمُ الَّذِي لَهُ حَقُّ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ، لَمْ يُنَبِّئْهُمْ بِمَا قَالُوا، وَلَا قامَ لَهُمْ دَلِيلٌ عَلى ذَلِكَ.
قوْلُهُ: {هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} أَيْ: تحليلُهمْ بعضَ الطَعَامِ وتحريمُهُم بعضًا آخَرَ وذلك بغيرِ دَليلٍ وَلا بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تَعَالى كَتَحْريمِهم البَحِيرَة والسَّائِبَة والحَام، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْن أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حرَامٌ" قَالَ: هِيَ الْبحيرَةُ والسائِبَةُ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: يَعْنِي قولَهُمْ: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا} الآيةَ: 139، مِنْ سُورَةِ الأنعام. تَفْسيرُ الإمامِ الخازِنِ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (3/140).
وفي الآيةِ نَهْيٌّ عنِ التسرُّعِ في الفتْوى وإِصْدار الأَحْكامِ دونَ دليلٍ شرعيٍّ وهو مَا يَخْشَاهُ المُتَّقونَ، ويَفِرُّ مِنْهُ المُؤْمِنُونَ. فقَد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبْي نَضْرَةَ العَبْدِيِّ وهو المُنْذِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ قُطَعَة ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَرَأَتُ هَذِهِ الْآيَةَ فِي سُورَة النَّحْل: "وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حرَامٌ" إِلَى آخر الْآيَةِ، فَلم أَزَلْ أَخَافُ الْفُتْيا إِلَى يَوْمِي هَذَا.
و "لِتَفْتَرُوا" هُنَا عِلَّةٌ لِـ "تَقُولُوا" مِنَ الجُمْلَةِ التي قبلَها، بِاعْتِبَارِ كَوْنِ الِافْتِرَاءِ حَاصِلًا، لَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مَقْصُودًا لِلْقَائِلِينَ، فَهِيَ لَامُ الْعَاقِبَةِ وَلَيْسَتْ لَامَ الْعِلَّةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ قَرِيبًا أَنَّ الْمَقْصِدَ مِنْهَا تَنْزِيلُ الْحَاصِلِ الْمُحَقَّقِ حُصُولُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ مَنْزِلَةَ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْفِعْلِ. وَالمُفْتَرُونَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ حَرَّمُوا أَشْيَاءَ وحلَّلوا أُخرى بِحَسَبِ مَصَالِحِهِمْ وأَهْوائهم ورَغَبَاتِهم. وقدْ نهى اللهُ تعالى عنْ ذلكَ وتوعَّدَ عليْهِ فاعِلَهُ بالعذابِ الأَليمِ، لأنَّهُ يَتَصَدَّى لِمَا لَيْسَ لَهُ بِحَقٍّ، مُعْتَدِيًا عَلَى حَقٍّ مِنْ حُقوقِ اللهِ ـ تَبَاركتْ أَسْماؤُه. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: عَسَى رَجُلٌ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللهَ أَمَرَ بِكَذَا، وَنَهَى عَنْ كَذَا، فَيَقُولُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَهُ: كَذَبْتَ. وَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ حَرَّمَ كَذَا، وَأَحَلَّ كَذَا، فَيَقُولُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ: كَذَبْتَ.
قولُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} وَعِيدٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ، للمفترينَ عَلَيْهِ ـ تعالى، الذينَ يحرمونَ ويُحَلِّلونَ مِنْ عندِ أنفسِهم، ويَنْسبونَهُ إِليْهِ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ، كَذِبًا وافتراءً، بعدم الفلاحِ والفوزِ والنجاحِ في الدنيا ولا في الأخرى.
قولُهُ تَعَالَى: {وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ} الوَاوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "لَا" ناهيةٌ جازمةٌ. و "تَقُولُوا" فعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بـ "لا" الناهيةِ الجازمةٍ. وعَلامَةُ جَزْمِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لِمَا" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ بِمَعْنَى "فِي"، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقُولُوا"، و "ما" حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ، أوْ اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِاللامِ. و "تَصِفُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "أَلْسِنَتُكُمُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ مُضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسمِ المَوْصُولِ "ما" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: لِمَا تَصِفُهُ وتَذْكُرُهُ أَلْسِنَتُكُمْ. و "الْكَذِبَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ لِـ "تَقُولُوا" لأَنَّهُ بِمَعْنَى تَذْكُرُوا. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا مُطْلِقًا نَائِبًا عَنِ المَصْدَرِ، أَيْ: لا تَقولوا القَوْلَ الكَذِبَ. كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا بِهِ لِلْقَوْلِ. وإِذا أَعْرَبْنا "مَا" مَصْدَرِيَّةً كانَ المَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "مَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ" في مَحَلِّ جَرٍّ باللَّامِ مُتَعَلِّقٍ بِـ "تَقُولُوا"، وَ "اللامُ" للتَعْلِيلِ.
قوْلُهُ: {هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ} هَذَا: الهاءُ: حَرْفٌ للتَنْبِيهِ، و "ذا" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "حَلَالٌ" خَبَرُ المُبتَدَأِ مرفوعٌ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على البَدَلِ مِنَ "الْكَذِبَ". و "هَذَا حَرَامٌ" هَذِهِ الجُمْلَةُ مِثْلُ سابقَتِها، معطوفةٌ عَلَيْها.
قوْلُهُ: {لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} لِتَفْتَرُوا: اللامُ: لامُ العاقبةِ للتعليلِ. قوله: «لِتَفْتَرُوا» في اللامِ ثلاثةُ أوجه، أحدها: قال الواحدي: «إنه بدلٌ مِنْ {لِمَا تَصِفُ} لأنَّ وصفَهم الكذبَ هو افتراءٌ على الله» . قال الشيخ: «فهو على تقدير جَعْلِ» ما «مصدريةً، أمَّا إذا كانت بمعنى الذي فاللامُ فيها ليست للتعليل فَيُبْدل منها ما يُفْهِمُ التعليلَ، وإنما اللامُ في» لِما «متعلقةٌ ب» لا تقولوا «على حَدِّ تَعَلُّقِها في قولك: لا تقولوا لِما أَحَلَّ اللهُ: هذا الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (7/ 300)
حرامٌ، أي: لا تُسَمُّوا الحَلالَ حراماً وكما تقول: لا تقلْ لزيدٍ عمراً، أي: لا تُطْلِقْ عليه هذا الاسمَ» . قلت: وهذا وإن كان ظاهراً، إلاَّ أنه لا يمنع من إرادةِ التعليل، وإنْ كانت بمعنى الذي.
الثاني: أنها للصيرورة إذ لم يَفْعلوه لذلك الغرضِ.
الثالث: أنها للتعليلِ الصريحِ، ولا يَبْعُدُ أن يَصْدُرَ مثلُ ذلك.
و "تَفْتَرُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ العَاقِبَةِ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، ووَاوُ الجَمَاعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ فارقةٌ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ " تَفْتَرُوا" ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "الْكَذِبَ" مَفْعُولٌ بِـ "تفتروا" مَنْصوبٌ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ باللامِ، والتَقْديرُ: لافْتِرائِكُمُ الكَذِبَ عَلَى اللهِ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقُولُوا".
قولُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ النَّصْبِ، اسمُ "إنَّ". و "يَفْتَرُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ. و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يفترون"، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "الْكَذِبَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "لَا" نافيةٌ. و "يُفْلِحُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، وعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعةِ ضَميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ، فاعِلُهُ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ". وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسْوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا، فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {الكَذِبَ} بِفَتْحِ الكافِ وَكَسْرِ الذَّالِ وَنَصْبِ الباءِ. وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، أَظْهَرُها: أَنَّهُ نَصْبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ وناصِبُهُ "تَصِفُ" و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، فَيَكونُ مَعْمُولُ القَوْلِ هوَ الجُمْلَةَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى: "هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ" وَ "لِمَا تَصِفُ" عِلَّةٌ للنَّهْيِ عَنْ القَوْلِ ذَلْكَ، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا: هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرامٌ لأَجْلِ وَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الكَذِبَ، وَهو مَا نَحَا إِلَيهَ الزَّجَّاجُ والكِسَائِيُّ، والمَعْنَى: لا تُحَلِّلوا، ولا تُحَرِّمُوا لأَجْلِ قَوْلٍ تَنْطِقُ بِهِ ألْسِنَتُكُمْ بِغَيْرِ حُجَّةٍ.
الثاني: أَنَّ نَصْبَهُ بالقَوْلِ، وَقولُهُ: "هذا حَلاَلٌ" بَدَلٌ مِنَ "الكَذِبَ" لأَنَّهُ عَيْنُهُ، أَوْ يَكونُ مَفْعولًا بِمُضْمَرٍ، أَيْ: فَيَقولوا: هَذَا حَلالٌ، وَهَذَا حَرامٌ، وَ "لِمَا تَصِفُ" عِلَّةٌ أَيْضًا، والتقديرُ: وَلَا تَقُولوا الكَذِبَ لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكمْ. وجَوَازُ أَنْ تَكونَ المَسْأَلَةُ مِنَ التَنَازُعِ عَلَى هَذَا الوَجْهِ، وَذَلِكَ: أَنَّ القَوْلَ يَطْلُبُ "الكَذِبَ" وَيَطْلُبُهُ "تَصِفُ" أيضًا، أَيْ: وَلا تَقُولْوا الكَذِبَ لِمَا تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكمْ. أَمرٌ فِيهِ نَظَرٌ.
الثالثُ: قالَ الحُوفِيُّ وأَبو البَقاءِ العُكْبَريٌّ أَنَّ نَصْبَهُ عَلى البَدَلِ مِنَ العائدِ المَحْذوفِ عَلَى "ما" إِذا قُلْنَا: إِنَّها بِمَعْنَى "الذي"؛ والتقديرُ: لِمَا تَصِفُهُ.
الرابع: وذَكَرَ العُكبُريُّ أَيضًا أَنَّهُ مَنْصوبٌ على الاختِصاصِ بِإِضْمَارِ "أَعْنِي"، وَليْسَ المَعْنَى عَلَيْهِ، وَلا حاجَةَ إَلَيْهِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ، وابْنُ يَعْمُرَ وطَلْحَةُ: "الكَذِبِ" بالخَفْضِ وفيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُما: أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ المَوْصُولِ، أَيْ: وَلَا تَقُولُوا لِوَصْفِ أَلْسِنَتِكُمُ الكَذِبِ، أَوْ للَّذي تَصِفُهُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبِ، جَعَلَهُ نَفْسَ الكَذِبِ لأَنَّهُ هوَ. وذَكَرَ الزَمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكونَ نَعْتًا لـ "ما" المَصْدَريَّةِ. وَرَدَّ الشيْخُ أبو حيَّان هذا القولَ: بِأَنَّ النُّحاةَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ المَصْدَرَ المُنْسَبِكَ مِنْ "أنْ" والفِعْلِ لا يُنْعَتُ، فَلَا يُقالُ (يُعْجِبُنِي أَنْ تَخْرُجَ السَريعُ) ولا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وبَيْنَ باقي الحُروفِ المَصْدَرِيَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ وَمُعاذُ بْنُ جَبَلٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهما "الكُذُبُ" بِضَمِّ الكافِ والذَّالِ، ورَفْعِ البَاءِ على أنّهُ صِفَةٌ لِلأَلْسِنَةِ، كَ "صَبُورٍ" و "صُبُرٍ"، أَوْ جَمْعَ كاذِبٍ ك "شارِفٍ" و "شُرُف"، أَوْ جَمْعَ "كِذَابٍ" نَحْوَ: "كِتاب" و "كُتُب".
وقرَأَ مَسْلَمَةُ بْنُ مُحارِبٍ فِيما نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ كَذلِكَ، إِلَّا أَنَّهُ نَصَبَ الباءَ، وَفيهِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ تَكونَ مَنْصوبةً عَلَى الشَتْمِ، يَعْني وَهِيَ في الأَصْلِ نَعْتٌ للأَلْسِنَةِ، كَمَا في القراءَةِ التي قَبْلَ هذِهِ. الثاني: أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى: (الكَلِمَ الكَواذِبَ)، يَعْنَي أَنَّهَا مَفْعُولٌ بِهَا، والعامل فيها: إمَّا "تَصِفُ"، وإِمَّا القولُ عَلى مَا مَرَّ، أَيْ: لا تَقولوا الكَلِمَ الكواذِبَ، أَوْ لِمَا تَصِفُ ألسنتُكم الكلمَ الكواذِبَ. الثالثُ: أَنْ يَكونَ جَمْعَ الكِذابِ مِنْ قولِكَ "كَذِبَ كِذَابًا" يَعْني فَيَكونُ مَنْصُوبًا عَلَى المَصْدَرِ؛ لأَنَّهُ مِنْ مَعْنَى وَصْفِ الأَلْسِنَةِ فَيَكونُ نَحْوَ: "كُتُبٍ" فِي جَمْعِ كِتابٍ، وَقَرَأَ الكسائيُّ: "وَلاَ كِذَابًا" بالتَخِفيفِ هنا وفي سورةِ النَبَأِ.