ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تَعَالى فِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ آياتٍ، الَّذِينَ آمَنُوا وَصَبَرُوا عَلَى الْأَذَى، فَعَذَرَ الَّذِينَ اتَّقَوْا عَذَابَ الْفِتْنَةِ، وقَالُوا كَلَامَ الْكُفْرِ بِأَفْوَاهِهِمْ دوَنَ قُلُوبِهُمْ، وَقُلُوبُهمْ مُطَمْئِنَّةٌ بِالْإِيمَانِ. فقد ذَكَرَ هنا فَرِيقًا آخَرَ فرُّوا بِدينِهم مِنَ الْفِتْنَةِ، لِئَلَّا يَتَوَهَّمُ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ بُعْدَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي تِلْكَ الشِدَّةِ يُوهِنُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ، مُومِئًا إِلَى حَظِّهِمْ مِنَ الْفَضْلِ بِقَوْلِهِ: "هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا"، فَسَمَّى عَمَلَهُمْ هَذَا هِجْرَةً. وسَمَّى مَا لَقَوْهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِتْنَةً. وَالْفِتْنَةُ: الْعَذَابُ وَالْأَذَى الشَّدِيدُ الْمُتَكَرِّرُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ لِمَنْ يَقَعُ بِهِ صَبْرًا وَلَا رَأْيًا، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَة الذاريات: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} الآية: 14، وَقَالَ من سُورَة البروج: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} الآية:10. وَالْآيَتَانِ هَاتَانِ مَكِّيَّتَانِ نَازِلَتَانِ قَبْلَ أَنْ شَرَعَ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى قِتَالِ الْكُفَّارِ لِنَصْرِ الدِّينِ. فَاسْتَوْفَى بِذَلِكَ ذِكْرَ كُلِّ فِرَقِ الْمُسْلِمِينَ.
وَ "ثُمَّ" هِيَ حَرْفُ عَطْفٍ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِهَا الْجُمَلَ، وَلِذَلِكَ فَأَنَّ مَضْمُون هَذِه الآيةِ الْمَعْطُوفَةِ جَاءَ أَعْظَمَ رُتْبَةً مِنَ تِلْكَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا، إِذْ لَا أَعْظَمَ مِنْ ـ رِضَى اللهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآيَةِ 15، مِنْ سُورَة آلِ عُمْرَان: {وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ}. وَالْمُرَادُ بِـ "الَّذِينَ هَاجَرُوا" هُمُ الْمُسْلِمُونَ الذينَ هَاجِرُوا إِلَى الْحَبَشَةِ، الَّذِينَ كانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَذِنَ لَهُمُ بِهذِهِ الْهِجْرَةِ لِلتَّخَلُّصِ مِنْ أَذَى مُشْرِكِي مَكَّةَ. فإِنَّ مَعْنَى الْهِجْرَة هُنَا لَا يَسْتَقِيمُ إِلَّا لِهَذِهِ الْهِجْرَةِ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ (أثيوبيا). فقَد جاءَ عَنِ مُحَمَّدِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَوْلُهُ: لَمَّا احْتَمَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَذَى الْكفَّارِ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، قَصَدَ بَعْضُهُمُ الْهِجْرَةَ فِرَارًا بِدِينِهمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، قَال: فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا يُصِيبُ أَصْحَابَهُ مِنَ الْبَلَاءِ، وَمَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْعَافِيَةِ بِمَكَانِهِ مِنَ اللهِ وَمِنْ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، قَالَ لَهُمْ: ((لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُظْلَمُ عِنْدَهُ أَحَدٌ، وَهِيَ أَرْضُ صِدْقٍ، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ)). نَقَلَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي السِّيرَةِ: (1/321). فَخَرَجَ عِنْدَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ مَخَافَةَ الْفِتْنَةِ وَفِرَارًا بِدِينِهِمُ. وأَخْرَجَ مُحَمَّدُ ابْنُ زَكَرِيَّا بْنُ حَيَوَيْهِ في كِتَابِهِ (مَنْ وَافَقَتْ كُنْيَتُهُ كُنْيَةَ زَوْجِهِ): (ص: 79) عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهَا، قَالَتْ: لَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْنَا مَكَّةُ، وَأُوذِيَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَوْا مَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الْأَذَى، وَالْفِتْنَةِ فِي دِينِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَنَعَةٍ مِنْ قَوْمِهِ وَعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، لَا يَصِلُ إِلَيْهِ شَيْءٌ يَكْرَهُهُ، مِمَّا يَصِلُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ خَرَجْتُمْ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَإِنَّ بِهَا مَلِكًا لَا يُنَالُ عِنْدَهُ أَحَدٌ بِظُلْمٍ، فَالْحَقُوا بِبِلَادِهِ، حَتَّى يَجْعَلَ اللهُ لَكُمْ فَرَجًا أَوْ مَخْرَجًا، مِمَّا أَنْتُمْ فِيهِ)). فَخَرَجْنَا إِلَيْهَا أَرْسَالًا، فَاجْتَمَعْنَا بِهَا، فَنَزَلْنَا فِي خَيْرِ دَارٍ وَأَمَنَة.
وَالهِجْرةُ فِي مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ الكريم اسْمٌ يَدُلُّ عَلَى مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ لِأَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الدِّينِ، كَمَا قالَ خليلُ اللهِ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: {إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي} الآية: 26، مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوتِ. وَقَالَ فِي الْأَنْصَارِ ـ رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهِم: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} الآية: 9، مِنْ سُورَةِ الحَشْرِ، يِعْني الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ فَارَقُوا مَكَّةَ.
قولُهُ: {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} الْمُجَاهَدَةُ: الْمُقَاوَمَةُ بِالْجُهْدِ، أَيِ الطَّاقَةِ. وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا دَفْعُ المُسْلِمينَ الْمُشْرِكِينَ، وصَدُّهُمْ عَنْ أَنْ يَرُدُّوهُمْ إِلَى الْكُفْرِ. وَمعنى الصَّبْرِ: الثَّبَاتُ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَكْرُوهِ وَالْمَشَاقِّ.
قولُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} أَكَّدَ الْخَبَرَ بِحَرْفِ التَوْكِيدِ (اللام المُزَحْلَقَة) وبالتوكيد اللَّفْظِيِّ "إِنَّ" لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ، وَالِاهْتِمَامُ يَدْفَعُ النَّقِيصَةَ عَنْهُمْ فِي الْفَضْلِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا وَرَدَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وصحيحِ مُسْلِمٍ وغيْرِهِما: عَنْ أَبِي مُوسَى ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِاليَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ، وَالآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ: بِضْعٌ، وَإِمَّا قَالَ: فِي ثَلاَثَةٍ وَخَمْسِينَ، أَوِ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي، فَرَكِبْنَا سَفِينَةً، فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالحَبَشَةِ، فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، فَأَقَمْنَا مَعَهُ حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ افْتَتَحَ خَيْبَرَ، وَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ لَنَا، يَعْنِي لِأَهْلِ السَّفِينَةِ: سَبَقْنَاكُمْ بِالهِجْرَةِ. وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، وَهِيَ مِمَّنْ قَدِمَ مَعَنَا، عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَةً، وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِيمَنْ هَاجَرَ، فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ، وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَتْ: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ، قَالَ عُمَرُ: الحَبَشِيَّةُ هَذِهِ، البَحْرِيَّةُ هَذِهِ؟ قَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ، قَالَ: سَبَقْنَاكُمْ بِالهِجْرَةِ، فَنَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْكُمْ، فَغَضِبَتْ وَقَالَتْ: كَلَّا وَاللهِ، كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ، وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ (أَوْ فِي أَرْضِ) البُعَدَاءِ البُغَضَاءِ بِالحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللهِ وَفِي رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَايْمُ اللهِ لاَ أَطْعَمُ طَعَامًا وَلاَ أَشْرَبُ شَرَابًا، حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنُخَافُ، وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَسْأَلُهُ، وَاللهِ لاَ أَكْذِبُ وَلاَ أَزِيغُ، وَلاَ أَزِيدُ عَلَيْهِ، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ عُمَرَ قَالَ: كَذَا وَكَذَا؟ قَالَ: ((فَمَا قُلْتِ لَهُ؟) قَالَتْ: قُلْتُ لَهُ: كَذَا وَكَذَا، قَالَ: ((لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، وَلَهُ وَلِأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ ـ أَهْلَ السَّفِينَةِ، هِجْرَتَانِ))، قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ يَأْتُونِي أَرْسَالًا، يَسْأَلُونِي عَنْ هَذَا الحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلاَ أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. صَحِيحُ البُخَاريِّ: (4/1546، رَقم: 3990)، والنَّصُّ لَهُ. وَصَحِيحُ مُسْلِم: (4/1946، رَقم: 2502) عَنْ أَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ " رَبَّكَ" اسْمُ "إِنَّ" بِطَرِيقِ الْإِضَافَةِ دُونَ العَلَمِيَّةِ، لِمَا يُومِئُ إِلَيْهِ إِضَافَةُ لَفْظِ "رَبَّ" إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ كَوْنِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ لِأَصْحَابِهِ كَانَتْ لِأَنَّهُمْ أُوذُوا لِأَجْلِ اللهِ وَلِأَجْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ إِسْنَادُ الْمَغْفِرَةِ إِلَى اللهِ تعالى بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ رَبَّ مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَاصِلًا بِأُسْلُوبٍ يَدُلُّ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ وَعَلَى الذَّاتِ الْمُحَمَّدِيَّةِ. وَهَذَا مِنْ أَدَقِّ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ الكريم فِي قَرْنِ اسْمِ النَّبِيِّ بِاسْمِ اللهِ تعالى بِمُنَاسَبَةِ هَذَا الْإِسْنَادِ بِخُصُوصِهِ. وَضَمِيرُ "مِنْ بَعْدِها" عَائِدٌ إِلَى الْهِجْرَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ هاجَرُوا، أَوْ إِلَى الْمَذْكُورَاتِ: مِنْ هِجْرَةٍ وَفِتْنَةٍ وَجِهَادٍ وَصَبْرٍ، أَوْ إِلَى الْفِتْنَةِ الْمَأْخُوذَةِ مَنْ فُتِنُوا. وَكُلِّ تِلْكَ الِاحْتِمَالَاتِ تُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ لَهُمْ جَزَاءٌ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَوْ كُلِّهَا.
وَفي أَسْبابِ نزولِ هذِهِ الآيةِ الكريمةِ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "ثمَّ إِنَّ رَبَّكَ للَّذين هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا"، قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَا يُقْبَلُ مِنْهُم إِسْلَامٌ حَتَّى يُهَاجِرُوا، كَتَبَ بِهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَخَرَجُوا فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْركُونَ، فَرَدُّوهُمْ. فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: {آلمَ. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} الآيَتَانِ: (1 و 2) مِنْ سُورَةِ العَنْكَبُوت. فَكَتب بِهَذَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ إِلَى أَهْل مَكَّةَ، فَلَمَّا جَاءَهُم ذَلِك تَبَايَعُوا عَلَى أَنْ يَخْرُجُوا فَإِنْ لَحِقَ بِهِمُ الْمُشْركُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَاتَلُوهُمْ حَتَّى يَنْجُوا، أَوْ يَلْحَقُوا بِاللهِ. فَخَرجُوا فأَدْرَكَهُمُ الْمُشْركُونَ فَقَاتَلُوهُمْ فَمِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَجَا. فَأنْزلَ اللهُ "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ للَّذينَ هَاجَرُوا". وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ قوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَدْ أَسْلمُوا، وَكَانُوا يَسْتَخْفُونَ بِالْإِسْلَامِ، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ "ثمَّ إِنَّ رَبَّكَ للَّذين هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا"، فَكَتَبُوا إِلَيْهِم بِذَلِكَ أَنِّ اللهَ قَدْ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا فَاخْرُجُوا، فَأَدْرَكَهُمُ الْمُشْرِكُونَ، فَقَاتَلُوهم حَتَّى نَجَا مَنْ نَجَا وَقُتِلَ مَنْ قُتِلَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي سُنَنِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ كَانَ يُفْتَنُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثمَّ إِنَّ رَبَّكَ للَّذين هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "ثمَّ إِنَّ رَبَّكَ للَّذين هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا"، قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَيَّاشِ بْنِ أَبي رَبيعَةَ أَحَدِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَكَانَ أَخَ أَبي جَهْلٍ لِأُمِّهِ، وَكَانَ يَضْرِبُهُ سَوْطًا ورَاحِلَتَهُ سَوْطًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ أَبي إِسْحَاقَ فِي قَوْلِهِ: "ثمَّ إِنَّ رَبَّكَ للَّذين هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا"، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَمَّار بْنِ يَاسِرٍ وَعَيَّاشِ بْنِ أَبي رَبيعَةَ والوَليدِ بْنِ أَبي رَبيعَةَ والوليدِ بْنِ الْوَلِيدِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُم.
قولُهُ تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ للتَرْتِيبِ الذِكْرِيِّ، وبِمَعْنَى وَاوِ الاسْتِئْنَافِ. و "إِنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيد. و "رَبَّكَ" اسْمُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ مُضافٌ، وَكافُ الخِطابِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وخَبَرُ "إِنَّ" هَذِهِ "لَغَفُورٌ"، وَ "إِنَّ" الثانِيَةُ واسْمُهَا تَأْكِيدٌ للأُولى واسْمِهَا، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ إِنَّ رَبَّكَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وحِينَئِذٍ يَجُوزُ في "للذينَ" وَجْهَانِ: إِمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالخَبَرَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَنَازُعِ، أَوْ بِمَحْذوفٍ عَلى سَبيلِ البَيَانِ كَأَنَّهُ قِيلَ: الغُفْرانُ والرَّحْمَةُ للذين هاجَرُوا. وإمَّا أَنَّ الخَبَرَ هُوَ نَفْسُ الجَارِّ بَعْدَهَا كَمَا تَقولُ: إِنَّ زَيْدًا لَكَ، أَيْ: هُوَ لَكَ لا عَلَيْكَ بِمَعْنَى هوَ ناصِرُهُمْ لا خَاذِلُهم، كَمَا يَكونُ المَلِكُ للرَّجُلِ لا عَلَيْهِ، فَيَكونُ مَحْمِيًّا بِهِ مَنْفُوْعًا مِنْهُ. ويَجوزُ أَنَّ خَبَرَها مُسْتَغْنَى عَنْهُ بِخَبَرِ "إِنَّ" الثانِيَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَحْذوفٌ لَفْظًا لِدَلالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَهُو مَعْنَى قَوْلِ أَبي البَقاءِ العُكْبَريِّ إذْ يقولُ: وَقِيلَ لا خَبَرَ لِـ "إِنَّ" الأُولى فِي اللَّفْظِ؛ لأَنَّ خَبَرَ الثانِيَةِ أَغْنَى عَنْهُ. وَ "لِلَّذِينَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إِنَّ" الآتي فِي آخِرِ الآيَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "لَغَفُورٌ"، مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ لِلِاهْتِمَامِ، و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "هَاجَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٍّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتفريق، والجملةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "هَاجَرُوا" و "بَعْدِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ. و "فُتِنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ نائبُ فاعلٍ، والأَلِفُ فاقةٌ. والجُمْلَةُ صِلَةُ "مَا" المَوْصولَةِ، وهي مَعَ صِلَتِهَا في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِإضافَةِ الظَرْفِ إِلَيْهِ، والتقديرُ: مِنْ بَعْدِ فِتْنَتِهم.
قولُهُ: {ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا} ثُمَّ: حرفُ عطْفٍ للترتيبِ الرُتَبي. و "جَاهَدُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ للتَفْريقِ، والجُملةٌ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "هَاجَرُوا" على كونِها صِلَةَ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ. و "وَصَبَرُوا" الواوُ للعَطْفِ، وجملةُ "صَبَرُوا" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "جَاهَدُوا" ولهذِهِ ما لتلكَ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} إِنَّ رَبَّكَ: مِثْلُ "إِنَّ رَبَّكَ" الأولى، وَقد أُعِيدَتْ ثَانِيةً لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ اسْمِ "إِنَّ" وَخَبَرِهَا الْمُقْتَرِنِ بِلَامِ الِابْتِدَاءِ مَعَ إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرِ "إِنَّ" الثانِيَةِ، و "بَعْدِها" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَجُمْلَةُ "إنَّ" الثانِيَةِ هَذِهِ مُؤَكِّدَةٌ لِجُمْلَةِ "إِنَّ" الأُولَى. و "لَغَفُورٌ" اللامُ: هي المُزحلقةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِداءٍ). و "غَفورٌ" خَبَرٌ أَوَّلُ لِـ "إِنَّ" الأُولَى. و "رَحِيمٌ" خَبَرٌ ثَانٍ لَهَا، أَوْ صِفَةٌ لِـ "غَفُورٌ"، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" الأُولَى مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} منَ الآيةِ: 108 السابقةِ عَلَى كَوْنها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قَرَأَ الجمهورُ: {فُتِنُوا} مَبْنِيًّا للمَجهولِ. والضَمِيرُ فِي "بَعْدِها" للمَصَادِرِ المَفْهُومَةِ مِنَ الأَفْعالِ المُتَقَدِّمَةِ، أَيْ: مِنْ بَعْدِ الفِتْنَةِ والهِجْرَةِ والجَهادِ والصَبْرِ. وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عائدٌ عَلى الفِتْنَةِ أَوِ الفَعْلَةِ أَوِ الهِجْرَةِ أَوِ التَوْبَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "فَتَنُوا" بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالتَّاءِ، عَلَى الْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، وَهِيَ لُغَةٌ فِي افْتَتَنَ، بِمَعْنَى وَقَعَ فِي الْفِتْنَة. أَيْ: فَتَنُوا أَنْفُسَهم، فإنْ عادَ الضَميرُ عَلَى المُؤمِنينَ فالمَعْنَى: فَتَنُوا أَنْفُسَهَمْ بِمَا أَعْطَوُا المُشْرِكِينَ مِنَ القَوْلِ ظاهِرًا، أَوْ أَنَّهمْ لَمَّا صَبَرُوا عَلى عَذابِ المُشْرِكِينَ فَكأَنَّهم فَتَنُوا أَنْفُسَهم، وَإِنْ عادَ عَلَى المُشْرِكِينَ فَهُوَ وَاضِحٌ، أَيْ: فَتَنُوا المُؤْمِنينَ.