وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(77)
قولُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وَللهِ تَعَالى خاصَّةً لا لأَحَدٍ غَيْرِهِ أَبَدًا ـ لا اسْتِقْلالًا وَلا اشْتِراكًا، "غَيْبُ السَماواتِ والأَرْضِ" أَيْ الأُمورُ الغائبةُ عَنْ عُلومِ المَخْلوقينَ. أَيْ: وَللهِ عِلْمُ مَا غَابَ مِنَ المَخْلُوقَاتِ، مِمَّا لاَ سَبِيلَ إِلَى إِدْرَاكِهِ حِسًّا، وَلاَ فَهْمِهِ عَقْلًا. وقالَ العلَّامَةُ الماوَرْدِيُّ، أَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَبيبٍ البَصْرِيُ البَغْدادِيُّ، الشَهيرُ بـ (الماوَرْدِيّ) (المتوفى: 450 هـ) في تَفْسيرِهِ المُسمَّى: (النُّكتُ والعُيونُ): (3/205): "غَيْبُ السَماواتِ والأَرْضِ" يَحْتَمِلُ خَمْسَةَ أَوْجُهٍ لكنّهُ عدَّ أربعةً فقالَ: أَحَدُها: وَللهِ عِلْمُ غَيْبِ السَّمَواتِ والأَرْضِ، لأَنَّهُ المُنْفَرِدُ بِهِ دُونَ خَلْقِهِ. الثاني: أَنَّ المُرادَ بالغَيْبِ إِيجادُ المَعْدوماتِ وإِعْدامُ المَوْجوداتِ. الثالثُ: يَعْنِي فِعْلَ مَا كانَ وَمَا يَكونُ، وأَمَّا الكائنُ في الحالِ فَمَعْلومٌ. الرَّابِعُ: أَنَّ غَيْبَ السَّماءِ الجَزَاءُ بالثَوابِ العِقابِ. وغَيْبَ الأَرْضِ القَضاءُ بالأَرْزاقِ والآجالِ. و "وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ البَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ" لأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: {كُنْ فَيَكونُ} وإِنَّمَا سَمَاهَا سَاعَةً لأَنَّها جِزْءٌ مِنْ يَوْمِ القِيامَةِ، وَأَجْزَاءُ اليَوْمِ سَاعَاتُهُ. وَذَكَرَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِل: أَنَّ غَيْبَ السَمَواتِ هُوَ قِيامُ الساعَةِ. قالَ مُقاتِل: وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ قِيَامِ الساعَةِ اسْتِهْزاءً بِهَا، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ أَبُو إِسْحَاقٍ الزجَّاجُ: مَعْنَاهُ: وَللهِ عِلْمُ غَيْبِ السَمَوَاتِ والأَرْضِ. مَعانِي القُرْآنِ وإِعْرابُهُ: (3/214). وهو إِبْطالٌ لِمَا تقدَّمَ مِنْ مَقَالَاتِ كُفْرِهِمْ حتَّى أَنَّهمْ أَقْسَمُوا بِاللهِ لَا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ، لِأَنَّهُمْ تَوَهَّمُوا أَنَّ إِفْنَاءَ هَذَا الْعَالَمِ الْعَظِيمِ وَإِحْيَاءَ الْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ أَمْرٌ مُسْتَحِيلٌ، فَبرهنَ اللهَ لهم أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى فِعْلِ كُلِّ مَا يُرِيدُ.
قولُه: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} ومِنْ ذَلِكَ "أَمْرُ السَّاعَةِ" وهو الوَقْتُ الذي تَقُومُ فِيهِ القِيامَةُ، وسُمِّيَتْ ساعَةً لأَنَّهَا تَفْجَأُ النَّاسَ فَيَمُوتُ الخَلْقُ كُلُّهُمْ في سَاعَةٍ، بِصَيْحَةٍ واحِدَةٍ. واللَّمْحُ: النَّظَرُ بِسُرْعَةٍ، تَقولُ: لَمَحَهُ بِبَصَرِهِ لَمْحًا وَلَمَحَانًا، وأَنْشَدَ الفَرَّاءُ عليْهِ البيتَ الآتي وهو مما لم يُعرفْ قائلُهُ:
لَمَحَانَ أَقْنَى فَوْقَ طَوْدٍ يَافِعٍ ................. بَعْضَ العُدَاةِ دُجُنَّةٌ وَظِلالُ
وَهُوَ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِعِلْمِ مَوْعِدِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَقِيَامِ القِيَامَةِ. وَحُدُوثِ السَّاعَةِ التِي يَقِفُ الخَلاَئِقُ فِيهَا بَيْنَ يَدَي اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لِلْحِسَابِ، كَرَجْعِ البَصَرِ، وَطَرْفَةِ العَيْنِ، فِي السُّرْعَةِ، كَلَمْحِ البَصَرِ ـ كَخَطْفَةِ البَصَرِ، أَوِ اخْتِلاَسِ النَّظَرِ. فَاللهُ تَعَالَى إِذَا أَرَادَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ، مَرَّةً وَاحِدَةً، وَلاَ يُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ، وقالَ في الآيَةِ: 50، مِنْ سُورَةِ: القَمَر: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبَصَرِ}. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ" هُوَ أَن يَقُولَ: (كُنْ)، أَوْ أَقرَبُ، فالسَّاعَةُ "كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ". وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ: "كَلَمْحِ الْبَصَرِ" يَقُولُ: كَلَمْحٍ بِبَصَرِ الْعَيْنِ مِنَ السُرْعَةِ، أَوْ "أَقْرَبُ" مِنْ ذَلِكَ، إِذا أَرَدْنَا.
قولُهُ: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أَيْ: أَوْ أَمْرٌ، فالضَّميرُ للأَمْرِ، والتقديرُ: أَوْ أَمْرُ السَّاعَةِ أَقْرَبُ مِنْ لَمْحِ البَصَرِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ" قَالَ: هُوَ أَقْرَبُ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ، أَوْ فَهُوَ هَكَذَا {مائَةَ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وَاللهُ أَعْلَمُ.
قولُه: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإِنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيءٍ، يُقَرِّرُ اللهُ العظيمُ لذاتِهِ العليَّةِ، أَنَّ لهُ القدرةُ المُطلقةُ على فِعْلِ كلِّ ما يُريدُ إيجادًا وإمدادًا وإعدامًا، قدرةً لا يُحيطُ بها شَيْءٌ، ولا يَرُدُّها شيءٌ، ولا يحدُّ منها شَيْءٌ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَللهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الوَاوُ: استئنافيَّةٌ، و للهِ: اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. ولفظُ الجلالَةِ "اللهِ" مجرورٌ بحرْفِ الجرِّ. و "غَيْبُ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وهو مُضافٌ، و "السَّمَاوَاتِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "وَالْأَرْضِ" حرفُ عَطْفٍ ومعطوفٌ على "السماواتِ" مجرورٌ مثلهُ. والجُمْلَةُ الاسميَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُه: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، و "مَا" نافِيَةٌ مُهْمَلَةٌ لانْتِقَاضِ نَفْيِها بِـ "إِلَّا". و "أَمْرُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، و "السَّاعَةِ" مَجْرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ (أَداة حَصْر)، و "كَلَمْحِ" الكافُ حرفُ جَرٍّ للتشبيهِ متعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ. و "لَمْحِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "الْبَصَرِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا، عَلَى كَوْنِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُه: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ بِمَعْنَى "بَلْ" الإِضْرابِيَّةِ، و "هُوَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "أَقربُ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. وَالجُمْلَةُ مَعْطْوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا على كونِها مُسْتأْنَفةً لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُه: {إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفعلِ لإفادةِ التوكيدِ. وَلفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدهُ. و "كُلِّ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "شَيْءٍ" مَجْرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "قَدِيرٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ بِهِ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.