مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ
( قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {مَا نُنَزِّلُ المَلائكةَ إِلاَّ بالحَقِّ} النُّزُولُ: التَّدَلِّي مِنْ عُلُوٍّ إِلَى سُفْلٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا انْتِقَالُ الْمَلَائِكَةِ ـ عليهِمُ السلامُ، مِنَ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ إِلَى الْأَرْضِ نُزُولًا مَخْصُوصًا لعذابِهمْ. وَهُوَ نُزُولُهُمْ لِتَنْفِيذِ أَمْرِ اللهِ بِعَذَابٍ لهم يُرْسِلُهُ عَلَى الْكَافِرِينَ، كَمَا أُنْزِلُوا إِلَى مَدَائِنِ لُوطٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. أيْ: إنَّه ـ سُبْحانَهُ، لا يُنَزِّلُ المَلائكةَ إلَّا عِنْدَمَا يُقَرِّرُ أَمْرًا لَهُ أَهَمِيَّتُهُ، وعِنْدَ انْقضاءِ الأَجَلِ. بالوَجْهِ والكيفيَّةِ التي اقْتَضَتْها حِكْمَتُهُ وجَرَتْ بها سُنَّتُهُ، كَأَنْ يُنْزِلَهم لإِهْلاكِ الظالِمينَ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، المعنى: ما نُنَزِّلُ المَلائكةَ إِلَّا بالعَذابِ. تنويرِ المِقْباس مِنْ تفسيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (ص: 276). وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالى في الآية: 8، مِنْ سُورةِ الأَنْعام: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}. وَقَدْ نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ حيثُ قَطَّعَتِ الملائكةُ رُؤُوس الْمُشْرِكِينَ. وقالَ أَبو إِسحاقَ الزَجَّاجُ في كتابِهِ: (معاني القرآنِ وإعْرابه): (3/173).أَيْ: إِنَّما تَنْزِلُ بِآجالٍ، أَوْ بِوَحْيٍ مِنَ اللهِ. فقدْ يكونُ نُزُولُهم لِتَبْليغِ وَحْيِ اللهِ تعالى إلى عِبادِهِ المُرْسَلينَ، أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَكالِيفِ التي يُريدُها ويُقدِّرها ـ جلَّ وعَلا، والتي ليسَ منها ما اقْتَرَحَهُ مُشركو قريشٍ عَلى سيِّدِنا رسولِ اللهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، بقولِهم في الآيةِ التي قبْلَها: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة}، ولذا اقتضتْ حكمتُه ورَحمتُه ـ سبحانَهُ وتعالى، عَدَمُ إِجابَةِ طلبِهم ومُقترحاتِهم.
قولُهُ: {وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} الْإِنْظَارُ: التَّأْخِيرُ وَالتَّأْجِيلُ، وإِذًا حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاء. وَقد تَوَسَّطَتْ هُنَا بَيْنَ جُزْأَيْ جَوَابِهَا مُراعاةً لِمُنَاسَبَةِ عَطْفِ جوابها على قَولِهِ: "مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ"، وَكَانَ شَأْنُ "إِذً" أَنْ تَكُونَ فِي صَدْرِ جَوَابِهَا. وَجُمْلَتُهَا هِيَ الْجَوَابُ الْمَقْصُود لقَولهم: {لَوْ مَا تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ} الآية: 7، السّابقة. وَجُمْلَة "مَا تنزل الْمَلَائِكَةَ" إِلَّا بِالْحَقِّ مُقَدَّمَةٌ مِنْ تَأْخِيرٍ لِأَنَّهَا تَعْلِيلٌ لِلْجَوَابِ، فَقُدِّمَ لِأَنَّهُ أَوْقَعُ فِي الرَّدِّ، وَلِأَنَّهُ أَسْعَدُ بِإِيجَازِ الْجَوَابِ. وهَذِهِ الجُملَةُ جَوابٌ لِجملةٍ شَرْطِيَّةٍ مَحْذوفةٍ، تُفْهَمُ مِنْ سِيَاقِ الكلامِ، والتَقْديرُ: وَلَوْ أَنْزَلَ ـ سُبحانَهُ، المَلائكةَ مَعَ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وبَقِيَ هؤلاءِ المُشْركونَ عَلى شِرْكِهم، لَعُجِّلَ عَليْهم بالعُقُوبَةِ المُدَمِّرَةِ، وما كانوا إذًا مُمْهَلينَ أَوْ مُؤَخَّرينَ، بَلْ لَأْخَذَهُمُ اللهُ بالعَذابِ بَغْتَةً وهم لا يَشْعُرونَ، فـ "مُنْظَرينَ" أَيْ: مُمْهَلينَ مُؤَخَّرينَ. وفيها بَيَانٌ لِمَا سَيَحِلُّ بالمُشركين فيما لو أَجابَهُمُ اللهُ تَعالى إلى مَا اقْتَرَحوه على رَسولِهِ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. فلَوْ أَنْزَلَ المَلائكةَ لأَهْلَكَ الكافِرينَ أَجمعينَ، ولمْ يُكونوا ممهلينَ مُؤَخِّرْينَ.
قولُهُ تَعَالى: {مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ} مَا: نافيَةٌ لا عملَ لها، و "نُنَزِّلُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ العَظَمَةِ المُسْتترُ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعودُ عَلى اللهِ تعالى، و " وفاعله ضمير يعود على الله تعالى، و "الملائكةَ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ. و "بِالْحَقِّ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "نُنَزِّلُ"؛ أيْ: حالةَ كونِنا مُلْتَبِسينَ بالحَقِّ، أَوْ بِصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحذوفٍ، والتقديرُ: إِلَّا تَنْزيلًا مُلْتَبِسًا بالحَقِّ، و "الحَقِّ" اسْمٌ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ.
قولُه: {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} الواو: للعطْفِ، و "ما" نافيةٌ معطوفةٌ على سابِقَتِها، و "كانوا" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ اسْمُ "كان"، والأَلِفُ الفارقةُ. و "إذًا" حَرْفُ جَوابٍ وجَزَاءٍ، لا عَمَلَ لَهَا، لِعَدَمِ دُخُولِها عَلى الفِعْلِ، لأنَّها جوابٌ لهم، وجزاءُ الشرطِ مقدرٌ، تقديرُه: ولو نَزَّلْنا الملائكةَ ما كانوا مُنْظرين وما تَأَخَّرَ عَذابُهم. و "مُنْظَرِينَ" خَبَرُ كانَ منصوبٌ بها وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "نُنَزِّلُ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قَرأَ العامَّةُ: {ما تَنَزَّلُ الملائكةُ} بِفَتْحِ التاءِ والنُونِ والزَايِ المُشَدَّدَةِ، والأَصْلُ: "تَتَنَزَّل" بِتَاءَيْنِ، فَحُذِفتْ إِحْداهُما. ورَفعِ "الملائكةُ" عَلَى الفاعِلِيَّةِ، وقَرَأَ الأخَوانِ (حَمْزَةُ والكِسائيُّ) وحَفْصٌ "نُنَزِّلُ المَلائكَةَ" بِضَمِّ النُّونِ الأولى وَفَتْحِ الثانِيَةِ وكَسْرِ الزَّايِ مُشَدَّدةً بالبِنَاءِ للفَاعِلِ المُعَظِّمِ نفسَهُ، وهوَ اللهُ تَعالى، وبنصْبِ "الملائكةَ" على المفْعوليَّةِ، ويُنَاسِبُ قولَهُ قَبْلَ ذَلِكَ في الآيةِ: 4، منْ هذه السورةِ: {وَمَا أَهْلَكْنَا}، وَيناسِبُ قَوْلَهُ بَعْدَ ذلك في الآيةِ التاسِعِةِ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} ومَا بَعْدَهُ مِنْ أَلْفَاظِ التَعْظيمِ. وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه: "ما نَزَلَ" مُخَفَّفًا مَبْنِيًّا للفَاعِلِ، و "الملائكةُ" مَرْفُوعَةً بالفاعِلِيَّةِ، وَهوَ كَقَوْلِهِ في سورةِ الشعراء: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} الآية: 193. وقرأَ أَبُو بَكْرٍ الأنباريُّ: "مَا نُنَزِّلُ" بِضَمِّ التاءِ وفتْحِ النُونِ والزَايِ مُشَدَّدَةً مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، و "الملائكةُ" مَرْفوعًا لِقِيامِهِ مَقامَ فاعِلِهِ، وهوَ مُوافِقٌ لِقَوْلِهِ في سورةِ الفرقانِ: {وَنُزِّلَ الملائكةَ تَنزِيلًا} الآية: 25، ولأَنَّهَا لا تُنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرٍ مِنَ اللهِ تعالى، فَغَيْرُها هوَ المُنَزِّلُ لَهَا وهوَ اللهُ ـ جَلَّ حلالُهَ.