فيضُ العليم ... سورة الرعد، الآية: 40
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أَصْلُ هذا التركيبِ: (إِنْ نُرِكَ) و "مَا" مَزيدَةٌ فيهِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَّرْطِ، ومِنْ ثُمَّ أُلْحِقَتْ نونُ التوكيدِ الثقيلةُ بالفعل "نُرِيَكَ". وفِي الْإِتْيَانِ بِكَلِمَةِ "بَعْضَ" إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، سَيَرَى بَعْضَ ما توَعَّدَ اللهُ بِهِ المُشْرِكينَ مِنْ عذابٍ. وَفِيهَ إِنْذَارٌ لَهُمْ بِأَنَّ الْوَعِيدَ نَازِلٌ بِهِمْ لا مَحالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ، وَأَنَّ هَذَا الدِّينَ سيَسْتَمِرُّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَعِيدُ الَّذِي أَمَرَ بِإِبْلَاغِهِ وَاقِعًا وَلَوْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، فَبِالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ شَرْعُهُ الَّذِي لِأَجْلِهِ جَاءَ ذَلِكَ الوَعِيدُ مُسْتَمِرًّا بَعْدَهُ، بِضَرُورَةَ أَنَّ الْوَسِيلَةَ لَا تَكُونُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِأَشَدَّ مِنَ الْمَقْصِدِ الْمَقْصُودَةِ لِأَجْلِهِ.
قولُهُ: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أَيْ: قَبْلَ أنْ يحلَّ بهم ذَلِكَ العَذابُ المَوْعودُ، فجَعَلَ التَّوَفِّيَ كِنَايَةً عَنْ عَدَمِ رُؤْيَةِ حُلُولِ الْوَعِيدِ الذي توعَّدَهمُ اللهُ بِهِ، بِقَرِينَةِ مُقَابَلَتِهِ بُقُولِهِ: "نُرِيَنَّكَ".
قولُهُ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} أَيْ: مَا عَلَيْكَ يا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إِلَّا أَنْ تُبَلِّغَ مَا أَنْزلناهُ عَلَيْكَ مِنْ قرآنٍ سَوَاءٌ أَرَأَيْتَ بعضًا مِنْ عَذَابِهِمْ الذي توعَّدْناهم بِهِ، أَمْ لَمْ تَرَهُ. وفِيهِ بَيانٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ ـ عليهِ الصَلاةُ والسَّلَامُ، لَيْسَ مَأْمُورًا أَنْ يَشْتَغِلَ بِذَلِكَ، وَلَا بِتَرَقُّبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ مُبَلِّغٌ عَنِ اللهِ تعالى لِعِبَادِهِ وحَسْبُ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا يُحَاسِبُ بِهِ عِبَادَهُ، سَوَاءٌ شَهِدَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَلِكَ أَمْ لَمْ يَشْهَدْهُ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} الواوُ: استئنافيَّةٌ. و "إنْ" حرفُ شَرْطٍ جازِمٍ أُدْغِمَ معَ "ما". و "مَا" زائدَةٌ لَتَأْكِيدِ مَعْنَى الشَرْطِ. وَ "نُرِيَنَّكَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مبنيٌّ على الفتحِ لدخولِ نونِ التوكيدِ الثقيلةِ عليهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إنْ" الشَرطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وفاعِلُهُ ضَميرٌ التعظيمِ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، ونونُ التوكيدِ الثقيلةُ للتوكيدِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ أَوَّل. و "بَعْضَ" مَفْعولٌ ثانٍ منصوبٌ لأنَّ فعلَ الإراءةِ يتعدى إلى مفعولينِ اثنينِ، وهو مُضافٌ، و "الَّذِي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "نَعِدُهُمْ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرُ التعظيمِ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعودُ عَلى اللهِ تعالى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النصْبِ على المفعوليَّةِ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذي"، وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ والتقديرُ: فَذَاكَ شافِيكَ يا رسولَ اللهَ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ، مِنْ أَعْدائكَ. وجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ. و "نَتَوَفَّيَنَّكَ" مِثْلُ "نُرِيَنَّكَ" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ فعلُ شرطٍ ثانٍ. وجَوابُ الشَّرْطِ مَحْذوفٌ أَيْضًا والتَقديرُ: فَلَا تَقْصيرَ مِنْكَ، ولا لَوْمَ عَلَيْكَ.
قولُهُ: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ} الفاءُ: تَعْلِيلِيَّةٌ للجَوابِ المَحْذوفِ. و "إِنَّمَا" كافَّةٌ ومكفوفةٌ (أَداةُ حَصْرٍ). و "عَلَيْكَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الْبَلَاغُ" مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ مَرفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
وَتَأْكِيدُ الشَّرْطِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ وَمَا الْمَزِيدَةِ بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ مُرَادٌ مِنْهُ تَأْكِيدُ الرَّبْطِ بَيْنَ هَذَا الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ وَهُوَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ. عَلَى أَنَّ نُونَ التَّوْكِيدِ لَا يَقْتَرِنُ بِهَا فِعْلُ الشَّرْطِ إِلَّا إِذَا زِيدَتْ مَا بَعْدَ إِنْ الشَّرْطِيَّةِ فَتَكُونُ إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ مُقْتَضِيَةً لِاجْتِلَابِ مُؤَكِّدَيْنِ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا لِغَرَضِ تَأْكِيدٍ قَوِيٍّ.
قولُهُ: {وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} الواوُ: للعطْفِ، و "علينا" مثلُ "عليك"، و "الحسابُ" مرفوعٌ بالابتِداءِ مُخَّرٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "عَلَيْكَ الْبَلَاغُ" على كونِها مُستأنَفةٌ لتعْليلِ ما قبلَها لا َمَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وقالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّان: الَّذِي تَقَدَّمَ شَرْطَانِ، لِأَنَّ الْمَعْطُوفَ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ. فَأَمَّا كَوْنُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، لِأَنَّهُ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ، إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ مَا نَعِدُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ. وَأَمَّا كَوْنُهُ جَوَابًا لِلشَّرْطِ الثَّانِي هُوَ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَكَذَلِكَ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: إِنَّ مَا نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ، وَلَا يَتَرَتَّبُ وُجُوبُ التَّبْلِيغِ عَلَيْهِ عَلَى وَفَاتِهِ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ يَنْقَطِعُ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ وَهُوَ: أَنْ يَتَقَدَّرَ لِكُلِّ شَرْطٍ مِنْهُمَا مَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً مُتَرَتِّبًا عَلَيْهِ. وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ ـ وَاللهِ أَعْلَمُ، وَإِنَّ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ فَذَلِكَ شَافِيكَ مِنْ أَعْدَائِكَ، وَدَلِيلٌ عَلَى صِدْقِكَ، إِذَا أَخْبَرْتَ بِمَا يَحُلُّ بِهِمْ. وَلَمْ يُعَيِّنْ زَمَانَ حُلُولِهِ بِهِمْ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ ذَلِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَقَعَ بِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِكَ، "أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ" أَيْ: أَوْ أَنْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قَبْلَ حُلُولِهِ بِهِمْ، فَلَا لَوْمَ عَلَيْكَ وَلَا عَتْبَ، إِذْ قَدْ حَلَّ بِهِمْ بَعْضُ مَا وَعَدَ اللهُ بِهِ عَلَى لِسَانِكَ مِنْ عَذَابِهِمْ، فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ لَا حُلُولُ الْعَذَابِ بِهِمْ. إذْ ذَاكَ رَاجَعٌ إِلَيَّ، وَعَلَيْنَا جَزَاؤُهُمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ، وَكَفْرِهِمْ بِمَا جِئْتَ بِهِ. البَحْرِ المُحِيطِ في التَفْسيرِ: (6/399).