فيضُ العليم ... سورة الرعد، الآية: 34
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ (34)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ ووَعِيدٌ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، للكَفَرَةِ الْمُشْرِكِينَ المُعانِدينَ مِنْ قُرَيْشٍ الصَّادِّينَ عَنْ سبيلِ اللهِ الذينَ هَزِئوا مِنْ رَسُولِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكَذَّبوهُ وحارَبُوهُ وأَتْباعَهُ، بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الحياةِ الدنيا بِيَدِ المُؤمِنينَ، وذَلِكَ بالقَتْلِ، والأَسْرِ، والهَزيمَةِ، وسَبْيِ نِسائِهمْ، واغْتِنامِ أَمْوالِهم، وَلَعْنِهم، وَذَمِّهم، وَإِهَانَتِهم، وَقد يَدْخُلُ في ذَلِكَ الْمَصَائِبُ وَالْأَمْرَاضُ التي تَحُلُّ بِهِمْ مِنَ اللهِ، فَتُنَغِّصُ عَلَيهم عَيْشَهمْ. وقِيلَ لا يَدْخُلُ.
قولُهُ: { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} أَمَّا عَذَابُ الآخرةِ فهو أَشَدُّ إِيلامًا وأَقْسَى بِمَا لا يُقاسُ ولا يَعْرِفُ شِدَّتَهُ ومَداهُ إِلَّا اللهُ ـ سُبْحانَهُ، لِأَنَّهُ أَزْيَدُ قُوَّةً وَشِدَّةً، وَأَكَثْرُ تَنَوُّعًا، وَلَا يُخالِطُهُ شَيْءٌ مِنْ مُوجِبَاتِ الرَّاحَةِ، وَهو دَائمٌ لا انْقِطَاعَ لَهُ. فقد جَمَعَ اللهُ لَهُمْ بَيْنَ عَذَابِ الدُّنْيَا، وَبَيْنَ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي هُوَ أَشَقُّ وأَطولُ، وهوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِلْمُتَلَاعِنِينَ: ((إِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ)). رَوَاهُ مُسْلِمُ في صَحيحِهِ: (4/206(3739) مِنْ حَديثِ عبدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما. وهذا جزءٌ منْ حديث طويلٍ أَخْرَجَهُ أيضًا الأئمَّةُ: أحمدُ في مُسْنَدِهِ: (2/12(4603). و "الدارِمِي": (2231). والتِّرْمِذِيّ: (1202 و 3178). والنَّسَائي: (6/175). وَهُوَ كَمَا قَالَ ـ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا لَهُ انْقِضَاءٌ، وَذَاكَ دَائِمٌ أَبَدًا فِي نَارٍ هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ سَبْعُونَ ضِعْفًا، وَوِثَاقٌ لَا يُتَصَوَّرُ كَثَافَتُهُ وَشِدَّتُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في سورةِ الفجرِ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} الآيتانِ: (25) و (26) وَقَالَ في سورةُ الْفُرْقَانِ: {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا * إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا * قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}، الآياتِ: (11 حتّى 15).
قولُهُ: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ} وإِنَّ أَحَدًا لَا يَقِيهِمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللهِ، إذْ قدْ يكونُ لَهُمْ هُنَا مَنْ يَسْتَنْصِرونَهُ ويعتمدونَ عليهِ، مُتَوَّهِّمينَ قُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، أَمَّا في الآخرةِ، فليسَ لهم منْ يتوهَّمونَ نُصْرتَهُ، ولا مَنْ يقيهم شيئًا مِنْ عذابِ اللهِ ـ تعالى، أو يدفعُ عنهم ولا مَنْ يُخَفِّفُ عَنْهم. وَالْوَاقِي: هو الْحَائِلُ دُونَ الضُّرِّ. وَالْوِقَايَةُ مِنَ اللهِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ مِنْ عَذَابِهِ ـ سُبْحانَهُ، بِقَرِينَةِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ.
قولُهُ تعالى: {لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} لَهُمْ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. و "عَذَابٌ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فِي" جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "عَذابٍ"، و "الْحَيَاةِ" مجرورٌ بحرفٍ الجَرِّ. و "الدُنْيا" صِفَةٌ لِـ "الْحَيَاةِ" مجرورةٌ مثلها، وعلامةُ جرِّها كسرةٌ مقدَّرةٌ على آخرها لتعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ.
قولُهُ: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ} الواو: للعَطْفِ. واللَّامُ: حَرْفُ ابْتِداءِ للتَوْكِيدِ، و "عَذَابُ" مُرفوعٌ بالابْتِداءِ، مضافٌ، و "الْآخِرَةِ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "أَشَقُّ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَها.
قولُهُ: {وَمَا لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ وَاقٍ} الواوُ: للعَطْفِ. و "ما" نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. و "لَهُمْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذَكَّرِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَاقٍ"، ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" اسمٌ مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ زائدٍ. و "وَاقٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ وعَلامَةُ الجَرِّ الكَسْرَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى آخِرِهِ لأَنَّهُ اسْمٌ مَنْقوصٌ، وحُذِفَتِ الياءُ لِمُنَاسَبَةِ التَنْوينِ. وهو مرفوعٌ محلًّا على أنَّهُ مبتَدأٌ مُؤَخَّرٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى الجُمْلةِ التي قَبْلَها.