.
الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ} بَيَانٌ لِحَالِ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللهُ وهو أنَّ قلوبَهم مطمئنَّةٌ بذكرِ اللهِ تعالى وتلاوةِ كتابِهِ الكريمِ، لأَنَّهم آمنوا باللهِ تعالى وصدَّقوا رسالةَ رسولِهِ وما أنزلهُ الله عليه ـ صلّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، مَعَ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ مِثَالَ الَّذِينَ ضَلُّوا هُوَ عَدَمُ اطْمِئْنَانِ قُلُوبِهِمْ لِذِكْرِ اللهِ وَقُرْآنِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ} منَ الآيةِ السابقةِ يَتَضَمَّنُ أَنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا الْقُرْآنَ آيَةً مِنَ اللهِ.
قولُهُ: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِذكرِ اللهِ خَشْيَتُهُ وَمُرَاقَبَتُهُ بِالْوُقُوفِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ الكريمُ والذكرُ الحكيمُ، لقولِهِ تعالى في سُورَة الزخرف: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} الآية: 44، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لقَوْلِهِمْ في الآيةِ: 27، السابقةِ: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}. وعَلى هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآية: 22، منْ سُورَةِ الزُّمَرِ {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ}، أَيْ لِلَّذِينَ كَانَ قَدْ زَادَهُمْ قَسْوَةَ قُلُوبٍ، وَقَوْلُهُ فِي آخِرِهَا: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ} الآية: 23، سُورَة الزمر.
والِاطْمِئْنَانُ: السُّكُونُ، وَقد اسْتُعِيرَ هُنَا لِلْيَقِينِ وَعَدَمِ الشَّكِّ، لِأَنَّ الشَّكَّ يُسْتَعَارُ لَهُ الِاضْطِرَابُ. رَوَىَ البَغَويُّ في تفسيرِهِ عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّهُ قالَ: هَذَا فِي الْحَلِفِ، يَقُولُ: إِذَا حَلَفَ الْمُسْلِمُ بِاللهِ عَلَى شَيْءٍ تَسْكُنُ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِ، فَإِنْ قِيلَ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى في الآية: 2، من سورة الأنفال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، فَكَيْفَ تَكُونُ الطُّمَأْنِينَةُ وَالْوَجَلُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؟. قِيلَ: الْوَجَلُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعِيدِ وَالْعِقَابِ، وَالطُّمَأْنِينَةُ عِنْدَ ذِكْرِ الْوَعْدِ وَالثَّوَابِ، فَالْقُلُوبُ تَوْجَلُ إِذَا ذَكَرَتْ عَدْلَ اللهِ وَشِدَّةَ حِسَابِهِ، وَتَطْمَئِنُّ إِذَا ذَكَرْتْ فَضْلَ اللهِ وكَرَمَهُ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهم بِذِكْرِ اللهِ" قَالَ: هَشَّتْ إِلَيْهِ واسْتَأْنَسَتْ بِهِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "الَّذين آمنُوا وتطمئن قُلُوبهم بِذكر الله" يَقُولُ: إِذا حَلَفَ لَهُم بِاللهِ صَدَّقُوا: "أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب" قَالَ: تَسْكُنُ الْقُلُوبُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَلا بِذكر الله تطمئِن الْقُلُوب" قَالَ: مُحَمَّد ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ.
وَأخرجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنٍهُ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأَصْحَابِهِ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" ((هَلْ تَدْرُونَ مَا مَعْنَى ذَلِكَ؟)) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((مَنْ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ أَحَبَّ أَصْحَابِي)).
وَأَخرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَميرِ المؤمنينَ عَليٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" قَالَ: ((ذَاكَ مَنْ أَحَبَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَأَحَبَّ أَهْلَ بَيْتِي صَادِقًا غيرَ كَاذِبٍ، وَأَحَبَّ الْمُؤمنِينَ شَاهدًا وغائبًا، أَلَا بِذِكْرِ اللهِ يَتَحابُّونَ)).
قولُهُ تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ} الَّذِينَ: بَدَلٌ مِنَ الاسْمِ الموْصولِ "مَنْ" في قَوْلِهِ من الآيةِ التي قبلَها: {مَنْ أَنَابَ} بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ، أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ مِنْهُ. و "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلٌ بهِ، والألفُ للتفريق. والجملةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذين" فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَتَطْمَئِنُّ" الواوُ: و "وَتَطْمَئِنُّ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ. و "قُلُوبُهُمْ" فاعِلٌ مَرْفُوعٌ مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ، والجملةُ معطوفةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ "آمَنُوا" على كونِها صلةَ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "بِذِكْرِ" جارٌّ متعلق بـ "تَطْمَئِنُّ"، واسْمٌ مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ وهوَ مُضافٌ، ولَفْظُ الجَلالةِ "اللهِ" اسمٌ مَجْرورٌ بالإضافةِ إليْهِ.
قولُهُ: {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} أَلَا: حرفُ تَنْبِيهٍ. و "بِذِكْرِ" جارٌّ مُتَعَلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، ومَجْرورٌ بِهِ. ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "تَطْمَئِنُّ" تقدَّمَ إعرابُهُ، و "الْقُلُوبُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ.