فيض العليم .... سورة يوسف، الآية: 64
قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(64)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} اسْتِفْهامٌ إِنْكارِيٌّ فيه معنى النفيِ، أَيْ أَوَ أَأْتَمِنُكُم عَلَيْه كَمَا ائتمَنْتُكُمْ على أخيهِ يوسُفَ من قبلُ؟ فقد أَعْطَيْتُموني العهودَ والمَواثيقَ أَيْضًا بالمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ ولكنَّكم ذَهَبْتُمْ بِهِ وَضَيَّعْتُموهُ، ولذلك لَنْ أَثِقَ بِكُمْ ثانيةً، ولَنْ أُكَرِّرَ نَفْسَ الخَطَأَ بلْ سَأَعْتَمِدُ عَلى ربِّي في حفظِهِ، فهو وحده القادرُ على ذلك وهو محلُّ ثقتي وعليه وحدَه توكلي واعتمادي.
قولُهُ: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} فلنْ أَثِقَ بوعدِكم ولن أتَّكلَ على حفظكم، بل أُفوِّضُ أمري إلى اللهِ وعليه أَتوكِلُ في حفظِهِ، وفي جوابهِ هذا إشارةٌ إلى أنَّهُ وافَقَ على أنْ يُرْسِلَ بِنْيامِينَ مَعَهمْ، ولذلك لم يناقشوه في الأمرِ ولم يردوا على اتهاماته التي وجهها لهم، ولِمَوافَقَتِهِ هذه أسبابٌ منها: أَنَّهُ لم يُشَاهِدْ أَنَّهُم كانوا يَحسُدونَ بِنْيَامِينَ وَيحْقِدونَ عليهِ كمَا كَانَوا يحسدونَ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ويحقدونَ عليه وذلك لأَنَّهُمْ كَبِرُوا وَمَالُوا إِلَى الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، ثمَّ إِنَّ ضَرُورَةَ الْقَحْطِ أَحْوَجَتْهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَعَلَّهُ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ وَضَمِنَ له حِفْظَهُ وَإِيصَالَهُ إِلَيْهِ.
قولُهُ تعَالى: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ} قَالَ: فعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى يَعْقوبَ ـ عليه السلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. و "هَلْ" هنا للاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ. و "آمَنُكُمْ" آمنُ: فعلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ منَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعله ضَمِيرٌ مستَتِرٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أنا" يعودُ عَلَى يَعْقوبَ ـ عليهِ السلامُ. وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّر. و "عَلَيْهِ" على: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِ "آمَنُ" والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرف الجرِّ، وهذه الجملةُ الفِعليَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قالَ".
قولُهُ: {إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ} إلّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ. و "كَمَا" الكافُ: حَرْفُ جَرٍّ وتَشْبيهٍ. و ما: مَصْدَرِيَّةٌ. و "أَمِنْتُكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهُ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو تاءُ الفاعلِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والميمُ علامةُ جمع المذكَّرِ. و عَلَى" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِهِ، و "أَخِيهِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ من الأسماءِ الخمسَةِ، وهو مضافٌ والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلَّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِهِ أَيْضًا، و "قبلُ" اسْمٌ مَبْنِيُّ عَلَى الضَّمِّ في مَحَلِّ الجَرِّ لأَنَّهُ مقطوعٌ عنِ الإضافةِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ صِلَةُ "ما" المَصْدَرِيَّةِ، و "ما" مَعَ صِلَتِها: في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالكافِ تَقَدٍيرُهُ: كأَمْنٍيَ إِيَّاكم عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، والجارُّ والمَجْرورُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ محذوفٍ تَقديرُهُ: هَلْ آمَنُكمِ عَلَيْهِ إِلَّا أَمْنًا كائنًا كَأَمْنِي إِيَّاكم عَلَى أَخيهِ مِنْ قَبْلُ.
قولُهُ: {فَاللهُ خَيْرٌ حَافِظًا} الفاءُ: عاطفةٌ لِقَوْلٍ مَحْذوفِ عَلَى فِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقديرُهُ: فَتَوَكَّلَ يَعْقوبُ عَلَى اللهِ، ودَفَعَهُ إِلَيهِمْ، فَقَالَ "الله خير حافظًا"، و "اللهُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، و "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ. و "حَافِظًا" حالٌ مِنَ الضَّميرِ المُسْتَكِنِّ في "خَيْرٌ"، أَوْ تَمْييزٌ مَنْصوبٌ باسْمْ التَفْضِيلِ، "خيرٌ" والجُمْلةُ الإسميَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لذلِكَ القولِ المَحْذوفِ الذي سَبَقَ تقديرُهُ.
قولُهُ: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} الوَاوُ: حرفُ عطفٍ، و "هُوَ" ضميرُ فَصلٍ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، و "أَرْحَمُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، وهو مضافٌ، و "الرَّاحِمِينَ"، مضافٌ إليهِ مجرورٌ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا على جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "فَاللهُ خَيْرٌ" عَلَى كَوْنِها مَقولًا لِذَلِكَ القَوْلِ المَحْذُوفِ.
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ "حافِظاً" بِالْأَلِفِ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالتَّفْسِيرِ عَلَى تَقْدِيرِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ حَافِظًا كَقَوْلِهِمْ: هُوَ خَيْرُهُمْ رَجُلًا ولله دَرُّهُ فَارِسًا، وَقِيلَ: عَلَى الْحَالِ، وَقرأَ الْبَاقُونَ: حِفْظًا بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى الْمَصْدَرِ يَعْنِي خَيْرُكُمْ حِفْظًا يَعْنِي حِفْظُ الله لِبِنْيَامِينَ خَيْرٌ مِنْ حِفْظِكُمْ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ فالله خَيْرُ حَافِظٍ، وَقَرَأَ أَبُو هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ الله عَنْهُ، خَيْرُ الْحَافِظِينَ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.