فيضُ العليم .... سورة البقرة الآية: 284
للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
قولُه ـ تعالى شأْنُهُ: {للهِ مَا فِي السماواتِ وَمَا فِي الأرضِ} يُخْبِرُ ربُّنا ـ سبحانَهُ وتعالى، أَنَّ لَهُ مُلْكُ السَمَواتِ والأَرْضِ وما فِيهِنَّ وما بَيْنَهُنَّ، مِنَ الأُمورِ الداخلةِ في حقيقتِهِما والخارِجَةِ عَنْهما كيفَ كانتْ أَي: كلُّها مُلكٌ لَهُ ـ سبحانَهُ وتعالى، ومُختصَّةٌ بِه، وَأَنَّهُ المُطَّلِعُ عَلى ما فِيهِنَّ، لا تَخْفى عَليهِ الظَواهِرُ ولا السَّرائرُ والضَمائرُ، وإنْ دَقَّتْ وخَفِيَتْ، فَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ مَنْ شاءَ مِنْ مَملوكاتِهِ بما شاءَ مِن تَكليفاتِهِ، وليس لأَحَدٍ أَنْ يَقولَ المالُ مالي أَتَصرَّفُ بِه كيفَ شئْتُ. وهذه الآيةُ تَعْلِيلٌ وَاسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ قولِهِ: {وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} مِنَ الآيَةِ التي قبلَها، فإنَّ منْ خلَق شيئًا وأوجدَهُ مِنْ العَدَمِ وملكَهُ وهَيْمَنَ عليه لا بدَّ أنَّهُ عليمٌ بحركاتِهِ وسكَناتِهِ ودقائقِ أَمرِهِ. وَمَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ هُنَا: أَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ اللهَ رَبُّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَخَالِقُ الْخَلْقِ، فَإِذَا كَانَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ للهِ، مَخْلُوقتانِ لَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ لِأَنَّهُ مُكَوِّنُ ضَمَائِرِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، وَعُمُومُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ تَمَامِ مَعْنَى الْخَالِقِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَكَانَ الْعَبْدُ فِي حَالَةِ اخْتِفَاءِ حَالِهِ عَنْ عِلْمِ اللهِ مُسْتَقِلًّا عَنْ خَالِقِهِ. وَمَالِكِيَّةُ اللهِ تَعَالَى أَتَمُّ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ للهِ تَعَالَى، فَهِيَ الصِّفَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ وُجوبُ الْوُجُودِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَقَوْلُهُ: للهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ". وتَقديمُ الجارِّ والمَجرورِ "للهِ" هُنَا عَلى الفاعِلِ للاعتِناءِ بِهِ.
قولُهُ: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهْ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللهُ} إِبْدَاءُ مَا فِي النَّفْسِ: إِظْهَارُهُ، وَهُوَ إِعْلَانُهُ بِالْقَوْلِ، فِيمَا سَبِيلُهُ الْقَوْلُ، وَبِالْعَمَلِ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَإِخْفَاؤُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَعَطْفُ "أَوْ تُخْفُوهُ" لِلتَّرَقِّي فِي الْحِسَابِ عَلَيْهِ، فَقَدْ جَاءَ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ فِي عَطْفِ الْأَقْوَى عَلَى الْأَضْعَفِ، وَفِي الْغَرَضِ الْمَسُوقِ لَهُ الْكَلَامُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ. وَمَا فِي النَّفْيِ يَعُمُّ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
وقد اخْتَلَفَ العلماءُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ" عَلَى أَقْوَالٍ خَمْسَةٍ: أَوَّلُها: ما قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَالسيِّدةُ عَائِشَةُ أُمُّ المُؤمنين ـ رضي اللهُ عنها وعَنْهم أَجمعينِ، مِنْ أنَّ الآيَةَ مَنْسوخَةٌ وَأَنَّهُ بَقِيَ هَذَا التَّكْلِيفُ حَوْلًا حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ الْفَرَجَ بِقَوْلِهِ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها} وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، وَعَطَاءٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ـ رضي اللهُ عنهم، وَغَيْرِهِمْ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ" قال: دَخَلَ قلوبَهم مِنْها شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قلوبَهم مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((قُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلَّمْنَا)). قَالَ: فَأَلْقَى اللهُ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْرًا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ} قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ)). صَحيحُ مُسْلِمٍ بِرَقَم: (125). والتِّرْمِذِيُّ: (2992)، وغيرُهما. وأَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في مُسْنَدِه: (2/412). مِنْ حديثِ أَبي هريرةَ ـ رضي اللهُ عَنْهُ، ونَصُّهُ: قال: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: {للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} اشْتَدَّ ذَلكَ عَلى أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فأَتَوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيِهِ وَسَلَّمَ، ثمَّ جَثَوا عَلى الرُّكَبِ، وقالوا: يا رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمالِ ما نُطيقُ: الصَّلاةُ والصِّيامُ والجِهادُ والصَدَقَةُ، وقد أَنْزَلَ عَليْكَ هذِهِ الآيَةَ ولا نُطيقُها. فقالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتُريدونَ أَنْ تَقولوا كَمَا قالَ أَهْلُ الكِتابَيْنِ مِنْ قَبْلِكم: {سَمِعْنَا وعَصَيْنَا؟} بَلْ قُولوا: سِمِعْنَا وأَطَعْنَا، غُفْرانَكَ رَبَّنَا وإِلَيْكَ المَصيرُ)). فلَمَّا أَقَرَّ بِها القومُ وذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهم، أَنْزَلَ اللهُ في أَثَرِها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} فلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ فَأَنْزَلَ: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} إلى آخره.
ثانيها: نُسِبَ إِلى ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالشَّعْبِيِّ وَمُجَاهِدٍ ـ رضي اللهُ عنهم: قالوا إِنَّهَا مُحْكَمَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ الَّتِي نَهَى عَنْ كَتْمِهَا، ثُمَّ أَعْلَمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْكَاتِمَ لَهَا الْمُخْفِي مَا فِي نَفْسِهِ مُحَاسَبٌ.
ثالِثُها: أَنَّ الْآيَةَ فِيمَا يَطْرَأُ عَلَى النُّفُوسِ مِنَ الشَّكِّ واليَقينِ، ونُسِبَ إلى مُجَاهِد أَيْضًا.
رابِعُها: رواه الطَبَرِيُّ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ عَامَّةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وَاللهُ مُحَاسِبٌ خَلْقَهُ عَلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ وَعَلَى مَا لَمْ يَعْمَلُوهُ مِمَّا ثَبَتَ فِي نُفُوسِهِمْ وَأَضْمَرُوهُ وَنَوَوْهُ وَأَرَادُوهُ، فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَأْخُذُ بِهِ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ، فإِذَا جَمَعَ اللهُ الْخَلَائِقَ يَقُولُ: (إِنِّي أُخْبِرُكُمْ بِمَا أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَيُخْبِرُهُمْ ثُمَّ يَغْفِرُ لَهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّكِّ وَالرَّيْبِ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَخْفَوْهُ مِنَ التَّكْذِيبِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ" وَهُوَ قَوْلُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، في الآية: 225، مِنْ هذه السورةِ: {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}، أَي مِنَ الشَّكِّ وَالنِّفَاقِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يُعْلِمُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِمَا كَانَ يُسِرُّهُ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ. وَفِي الْخَبَرِ: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَذَا يَوْمٌ تُبْلَى فِيهِ السَّرَائِرُ وَتُخْرَجُ الضَّمَائِرُ وَأَنَّ كُتَّابِي لَمْ يَكْتُبُوا إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ وَأَنَا الْمُطَّلِعُ عَلَى مَا لَمْ يَطَّلِعُوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُخْبَرُوهُ وَلَا كَتَبُوهُ فَأَنَا أُخْبِرُكُمْ بِذَلِكَ وَأُحَاسِبُكُمْ عَلَيْهِ فَأَغْفِرُ لِمَنْ أَشَاءُ وَأُعَذِّبُ مَنْ أَشَاءُ). فَيَغْفِرُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَيُعَذِّبُ الْكَافِرِينَ، وَهَذَا أَصَحُّ مَا فِي الْبَابِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ)). أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ أَحْمَدُ: (2/393، رقم: 9097)، والبُخارِيُّ: (5/2020، رقم 4968)، ومُسْلِمٌ: (1/116، رقم: 127)، وأبَو داوودَ: (2/264، رقم: 2209)، والتِرْمِذِيُّ: (3/489، رقم: 1183)، وغيرُهم كثيرٌ. وذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى أَحْكَامِ الدُّنْيَا، مِثْلَ الطَّلَاقِ وَالْعتاقِ وَالْبَيْعِ الَّتِي لَا يَلْزَمُهُ حُكْمُهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ، وَالَّذِي ذُكِرَ فِي الْآيَةِ فِيمَا يُؤَاخَذُ الْعَبْدُ بِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ لَيْسَتْ بِمَنْسُوخَةٍ. قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَقَالَ آخَرُونَ نَحْوَ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، إِلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ الْعَذَابَ الَّذِي يَكُونُ جَزَاءً لِمَا خَطَرَ فِي النُّفُوسِ وَصَحِبَهُ الْفِكْرُ إِنَّمَا هُوَ بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَآلَامِهَا وَسَائِرِ مَكَارِهِهَا. ثُمَّ أُسْنِدَ عَنْ سيدتِنَا عَائِشَةَ أُمِّ المؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها نَحْوُ هَذَا الْمَعْنَى، وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وهُوَ الصَّوَابُ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ" مَعْنَاهُ مِمَّا هُوَ فِي وُسْعِكُمْ وَتَحْتَ كَسْبِكُمْ، وَذَلِكَ اسْتِصْحَابُ الْمُعْتَقَدِ وَالْفِكْرِ، فَلَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ تَدْخُلَ فِيهِ الْخَوَاطِرُ أَشْفَقَ الصَّحَابَةُ وَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيَّنَ اللهُ لَهُمْ مَا أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى، وَخَصَّصَهَا وَنَصَّ عَلَى حُكْمِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا، وَالْخَوَاطِرُ لَيْسَتْ هِيَ وَلَا دَفْعُهَا فِي الْوُسْعِ، بَلْ هِيَ أَمْرٌ غَالِبٌ وَلَيْسَتْ مِمَّا يُكْتَسَبُ، فَكَانَ فِي هَذَا الْبَيَانِ فَرَجُهُمْ وَكَشْفُ كُرَبِهِمْ، وَبَاقِي الْآيَةِ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا: وَمِمَّا يَدْفَعُ أَمْرَ النَّسْخِ أَنَّ الْآيَةَ خَبَرٌ وَالْأَخْبَارُ لَا يَدْخُلُهَا النَّسْخُ، فَإِنْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى تَقْدِيرِ النَّسْخِ فَإِنَّمَا يَتَرَتَّبُ لَهُ فِي الْحُكْمِ الَّذِي لَحِقَ الصَّحَابَةَ حِينَ فَزِعُوا مِنَ الْآيَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ ـ ـصَلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لَهم: ((قولوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا)) يَجئُ مِنْهُ الْأَمْرُ بِأَنْ يَثْبُتُوا عَلَى هَذَا وَيَلْتَزِمُوهُ، وَيَنْتَظِرُوا لُطْفَ اللهِ فِي الْغُفْرَانِ. فَإِذَا قُرِّرَ هَذَا الْحُكْمُ فَصَحِيحٌ وُقُوعُ النَّسْخِ فِيهِ، وَتُشْبِهُ الْآيَةُ حِينَئِذٍ قَوْلَهُ تَعَالَى في سورةِ الأَنفال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} الآية: 65، فَهَذَا لَفْظُهُ الْخَبَرُ وَلَكِنْ مَعْنَاهُ الْتَزِمُوا هَذَا وَاثْبُتُوا عَلَيْهِ وَاصْبِرُوا بِحَسْبِهِ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَأَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي الْجِهَادِ مَنْسُوخَةٌ بِصَبْرِ الْمِئَةِ لِلْمِئَتَيْنِ. وهذِهِ الآيَةُ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِهَا. وَقِيلَ: فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ وَتَقْيِيدٌ، تَقْدِيرُهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شَاءَ، وَعَلَى هَذَا فَلَا نَسْخَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَمِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي الْآيَةِ وَأَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّهَا عَامَّةٌ، ثُمَّ أُدْخِلَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي النَّجْوَى، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَغَيْرُهُمَا، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ القيامةِ مِنْ رَبِّهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ فَيُقْرِرُهُ بِذُنُوبِهِ فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُ فَيَقُولُ أَيْ رَبِّ أَعْرِفُ قَالَ فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ)). متَّفقٌ عليْهِ أَخْرَجَهُ البُخارِيُّ في: المَظالِمِ والغَصْبِ، باب قولُ الله تعالى: {أَلَا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ}، برقم: (1201). ومُسْلِمٌ في: التوبة، برقم: (52)
وَالْمُحَاسَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْحُسْبَانِ وَهُوَ الْعَدُّ، فَمَعْنَى يُحَاسِبْكُمْ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: يَعُدُّهُ عَلَيْكُمْ، إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى لَازِمِ الْمَعْنَى وَهُوَ الْمُؤَاخَذَةُ وَالْمُجَازَاةُ كَمَا حَكَى الله تَعَالَى في الآية: 113، مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ بِقَوْلِهِ: {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُون}. وَشَاعَ هَذَا فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ، وَيُوَضِّحُهُ هُنَا قَوْلُهُ تعالى: "فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ". وَقَدْ أَجْمَلَ اللهُ تَعَالَى هُنَا الْأَحْوَالَ الْمَغْفُورَةَ وَغَيْرَ الْمَغْفُورَةِ: لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، فَلَا يُقَصِّرُوا فِي اتّباع الْخيرَات النفيسة وَالْعَمَلِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ أَثْبَتَ غُفْرَانًا وَتَعْذِيبًا بِوَجْهِ الْإِجْمَالِ عَلَى كُلٍّ مِمَّا نُبْدِيهِ وَمَا نُخْفِيهِ. وَلِلْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْجَمْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ رَبَّكم رَحيمٌ، مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ أَوْ مَحاها اللهُ، ولا يَهْلِكُ عَلَى اللهِ إِلَّا هالِكٌ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ أَحمدُ: (1/279، رقم: 2519)، والطَبَراني: (12/161، رقم: 12760)، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ: (1/300، رقم: 334). وغيرُهم عَنِ ابْنِ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، وَقَوْلِهِ: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْهَا بِهِ أَنْفُسُهَا)). وقد تقدَّم تخريجُهُ. وتقديمُ الإبْداءِ على الإخْفاءِ عَلى عَكْسِ ما في قولِهِ تَعالى في سورة آل عمران: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} الآية: 29. فلمّا قِيلَ: إنَّ المُعَلَّقَ بما في أنفسِهم هنا المُحاسَبةُ والأصل فيها الأعمال الباديَةُ، وأمّا العِلمُ فتعلُّقُه بها كتعلُّقِه بالأعمال الخافيَة ولا يَختَلِفُ الحالُ عَلَيْهِ تَعَالى بَيْنَ الأَشْيَاءِ البَارِزَةِ والكامِنَةِ.
قولُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ} فإنَّ اللهَ تعالى حضرةُ الإطلاقِ يُوجِبُ ما شاءَ على منْ شاء، ولا يوجِبُ أحَدٌ عليه شيءٌ، إلَّا ما أوْجَبَهُ هوَ على ذاتِهِ المُقدَّسَةِ.
قولُهُ: {واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ} تَذْييلٌ مقرِّرٌ لمَضمون ما قبلَه فإنَّ كمالَ قدرتِه تعالى على جميعِ الأشياءِ مُوجِبٌ لقُدرتِه على ما ذُكِرَ مِن المُحاسَبَةِ وما فَرَّعَ عليه من المَغفِرةِ والتَّعذيب، وفي الآيةِ دليلٌ لأهلِ السُنَّةِ في نَفْيِ وُجوبِ التَّعذيبِ حيثُ عُلِّقَ بالمَشيئةِ واحتمالُ أنَّ تلك المَشيئةَ واجبةٌ كَمَنْ يَشاءُ صلاةَ الفرضِ فإنَّه لا يَقتضي عدمَ الوُجوبِ خلافَ الظاهر.
قوله تعالى: {للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} للهِ: اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، ولفظُ الجلالةِ اسمٌ مَجرورٌ بِهِ. و "مَا" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ مبتدأٍ مؤخَّرٍ، أَوْ هي نَكِرةٌ مَوْصوفَةٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ صِلَةٍ لِـ "مَا" أَوْ صِفَةٍ لَها، و " السَّمَاوَاتِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "وَمَا في الأرضِ" معطوفٌ على "ما في السمواتِ" وله مثلُ إعرابِهِ.
قولُهُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ. و "إنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازَمٍ. و "تُبْدُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ بـِ "إنْ" عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ شَرْطٍ لَهَا، وعلامةُ جزْمِهِ حذفُ النونِ من آخِرِهِ لأنَّه مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ الفارقةُ، و "مَا" اسمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ، أَوْ نَكِرةٌ مَوصوفةٌ، و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ صِلَةٍ لِـ "مَا" أَوْ صِفَةٍ لَهَا، و "أَنْفُسِكُمْ" مَجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، وكاف الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "أَوْ" حَرْفُ عَطْفٍ وتَفْصيلٍ، و "تُخْفُوهُ" فِعْلٌ مضارعٌ مَجْزومٌ بِـ "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ؛ عطْفًا عَلى فِعْلِ الشَّرْطِ، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخرهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصْبِ مفعولٍ بِهِ. و "يُحَاسِبْكُمْ" فعلٌ مضارعٌ مَجْزومٌ بِـ "إِنْ" الشرطيَّةِ كَونَهُ جوابَ شَرْطٍ لها، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ، و "بِهِ" جارٌّ ومَجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وقد قُدِّمَ على الفاعلِ للاهتمامِ به. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلٌ مرفوعٌ، وجُمْلَةُ "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ مِنْ فِعْلِ شَرْطِها وجَوابِها مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} الفاءُ: بِمَعْنَى الواوِ الاسْتِئنافِيَّةِ، و "يَغْفِرُ" فعْلٌ مُضارِعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى "اللهِ" تعالى، والجُملَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرٍ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: فهُوَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ، والجُمْلَةُ الإسْمِيَّةُ هذهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. هَذَا عَلى قِراءَةِ الرَّفْعِ، وأَمَّا عَلَى قِراءَةِ الجَزْمِ فَمَعْطوفٌ عَلَى "يُحاسِبْكم". و "لِمَنْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِ "يَغْفِرُ" و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ باللامِ، و "يَشَاءُ" فعلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى اللهِ تعالى، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "مَنْ"، والعائدُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: لِمَنْ يَشاءُ مَغْفِرَتَهُ. و "وَيُعَذِّبُ" حرفُ عَطْفٍ ومعطوفٌ عَلى "يَغْفِرُ" بالأَوْجِهِ الثلاثةِ السابِقَةِ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُكونِ في محلِّ نَصْبِ مفعولٍ به، و "يَشَاءُ" تَقَدَّمَ إعرابُهُ، والجملةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ، والعائدُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: يَشاءُ تَعْذيبَهُ.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الواو استئنافيَّةٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" مرْفوعٌ بالابْتِداءِ، و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ "قَدِيرٌ"، و "كُلِّ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ مضافٌ، و "شَيْءٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، و "قديرٌ" خبرُ المبتدأِ مرفوعٌ، وهذه الجُمْلَةُ الإسميَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأ الجُمهورُ: {فيَغفرْ لمنْ يشاءُ ويُعذِّبْ} بالجَزْمِ فيهما، وقرأَ ابْنُ عامرٍ وعاصمٌ "فيغفِرُ" و "يعَذِبُ" بالرَّفعِ. وقرأَ ابنُ عبَّاسُ والأعرجُ وأَبو حَيَوَةَ "فيغفِرَ" بالنَّصْبِ.
فأَمَّا أمَّا الجَزْمُ فلِلعَطْفِ على الجَزاءِ المَجزومِ، وأَمّا الرَّفعُ فيَجوزُ أَنْ يَكونَ رَفعُه على الاستئنافِ، وفيهِ احْتِمالانِ، أَحَدُهُما: أَنْ يَكونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: فهوَ يَغْفِرُ. والثاني: أَنَّ هذِهِ جُمْلةٌ فِعليَّةٌ مِنْ فِعْلٍ وفاعِلٍ عُطِفَتْ على ما قبلَها. وأَمَّا النَّصْبُ فبِإضْمارِ "أَنْ" وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوفٍ على المَصدَرِ المُتوهَّمِ مِنَ الفِعلِ قبلَ ذلك تقديرُه: تكنْ محاسَبَةٌ فغُفرانٌ أَوْ عذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوْجُهِ الثلاثة وهو قولُهُ:
فإنْ يَهْلِكْ أبو قابوسَ يَهْلِكْ ................ ربيعُ النّاسِ والبَلَدُ الحَرامُ
ونَأْخُذْ بَعدَهُ بذِنابِ عيشٍ ................... أَجَبَّ الظَّهْرِ ليْسَ لَه سَنامُ
بِجَزْمِ "نأْخُذ" عَطْفًا على "يَهْلِك ربيع" ورَفعِهِ ونصبِهِ، على ما ذُكِرَ في "فَيَغفِرْ" وهذِهِ قاعدةٌ مُطَّرِدَةٌ: وهي أَنَّه إذا وَقَعَ بعدَ جَزاءِ الشرطِ فِعْلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جازَ فيه هذه الأوجُهُ الثلاثةُ، وإِنْ تَوَسَّطَ بَيْنً الشرطِ والجزاءِ جاز جزمُه ونصبُه وامتنع رفعُه نحو: إن تأتني فَتَزُرْني أو فتزورَني، أو وتزرْني أو وتزورَني. وقرأَ الجَعَفِيُّ وطَلحةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وخَلَّادٌ: "يَغْفِرْ" بإسقاطِ الفاء، وهي كذلك في مُصحَفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ، وهي بَدَلٌ مِنَ الجَوَابِ كَقَوْلِهِ تَعالى في سورةِ الفُرقانِ: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ العذابُ} الآيَتانِ: 68 و 69، وهُوَ عَلى البَدَلِ مِنْ "يُحاسِبْكم" تَفْسيرًا للمُحاسَبَةِ. ومَعْنَى هذا البَدَلِ التَفْصِيلُ لِجُمْلَةِ الحِسابِ لأَنَّ التَّفْصيلَ أَوْضَحُ مِنَ المُفَصَّلِ، فهوَ جارٍ مُجْرَى بَدَلِ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ، أَوْ بَدَلِ الاشْتِمالِ، كقولِكَ: ضَرَبْتُ زَيْدًا رَأْسَهُ، وأَحْبَبْتُ زَيْدًا عَقْلَهُ، وهذا البَدَلُ واقِعٌ في الأَفْعالِ وُقوعَهُ في الأَسْماءِ لِحَاجَةِ القَبِيلَيْنِ إِلى البَيانِ.