فيض العليم .... سورة هود، الآية: 117
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
قولُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} الْمُرَادُ بِ "الْقُرى" أَهْلُهَا، عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسلِ وهو كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ يُوسُف ـ عليه السلامُ: {وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ} الآية: 82. أَيْ: لَمَّا يُهْلِكِ اللهُ تعالى النَّاسَ إِهْلَاكًا مُتَلَبِّسًا بِظُلْمٍ، فَاللهُ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ قَوْمًا ظَالِمًا لَهُمْ وَلَكِنْ يُهْلِكُ قَوْمًا ظَالِمِينَ لأَنْفُسِهُمْ. أَوْ لَمْ يَكُنْ رَبَّكَ يُعَذِّبُ أَهْلَ قَرْيَةٍ بِغَيْرِ جُرْمٍ، ونَظيرُها قولُهُ تَعالى في سُورةِ فُصِّلتْ: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} الآية: 46. وقَالَ تَعَالَى في سورة القَصَصِ: {وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ} الْآية: 59. يؤيِّدُ هذه التفسيرَ ما أخرجه الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخ، وَابْن مِرْدُوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلَّمَ، يُسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِه الْآيَةِ: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعضُهم بَعْضًا)). المعجمُ الكبيرُ للطَّبَرانِيِّ: (2/447)، وَأَخْرَجَهُ عنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ والخَرائطِيُّ فِي مَساوِي الْأَخْلَاقِ مَوْقُوفًا عليه. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّه قالَ: (ما أَهْلكَ اللهُ قومًا إِلَّا بِعَمَلِهِم، ولمْ يُهْلِكْهم بالشِّرْكِ). يَعْني: لَمْ يُهْلِكهم بِشِرْكِهم وهمْ مُصْلِحونَ فيما بينهم، يتعاملونَ بالقِسْطِ ولا يَظْلِمُ بَعْضُهم بَعْضًا، لأنَّ عقوبةَ الشِّرْكِ نَارُ جهنَّمَ، ولَيْسَ بِما هوَ أَقلُّ مِنْها، وإنَّما أَهْلَكهُمُ اللهُ بِمَعاصِيهم وتعاطيهمُ الظُّلْم، ولم يكُنْ لِيُهْلِكُهم، وهُمْ يَتَعاطونَ الحَقَّ فيما بَيْنَهم. فقومُ صالِحٍ أُهْلِكوا بعَقْرِ النَّاقَةِ، وقوْمُ لُوطٍ بِالفِعلِ الخِبيثِ، وقومُ شُعيبٍ بِنُقْصانِ الكيلِ والوَزْنِ، وقومُ فِرْعونَ بإيذائهم مُوسَى وقومَهُ بَني إسرائيلَ. و "وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" أيْ: فيهم مَنْ يَأْمُرْ بالمَعْروفِ، ويَنْهى عَنِ المُنْكَرِ. وَالْمُصْلِحُونَ مُقَابِلُ الْمُفْسِدِينَ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ ذلكَ: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ} وَقَوْلِهِ: {وَكانُوا مُجْرِمِينَ} الآية: 116، مِنْ هذه السورة، فَقدِ اسْتَحالَ في الحِكْمَةِ الإلهيَّةِ أَنْ يُهْلِكَ القُرَى التي أَهْلَكَها إلَّا بِما تفَشَّى بين أَهْلِها مِنْ ظُلْمٍ. وَالْمُرَادُ: الْإِهْلَاكُ الْعَاجِلُ الْحَالُّ بِهِمْ فِي غَيْرِ وَقْتِ حُلُولِ أَمْثَالِهِ دُونَ الْإِهْلَاكِ الْمَكْتُوبِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ وَهُوَ فَنَاءُ أُمَّةٍ وَقِيَامُ أُخْرَى فِي مُدَدٍ مَعْلُومَةٍ حَسَبَ سُنَنِ مَعْلُومَة.
قولُهُ تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} الواوُ: استئنافيَّةٌ. و "ما" نافيَةٌ لا عملَ لها. و "كَانَ" فعلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، و "رَبُّكَ" اسْمُهُ مرفوعٌ به مضافٌ، والكافُ ضميرٌ المُخاطَبِ متّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليهِ. و "لِيُهْلِكَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ وجُحُودٍ لِسَبْقِها بِـ "كان" المَنْفِيَّةِ بِـ "ما". مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحذوفٍ تَوَجَّهَ إِلَيْهِ النَّفِيُ، عِنْدَ البَصْرِيَّةِ، وزائدَةٌ لِتَأْكيدِ النَّفْيِ عِنْدَ الكُوفيَّةِ، و "يُهْلِكَ" فِعْلٌ مضارعٌ مَنْصوبٌ بِ "أَنْ" مُضْمَرَةً وُجوبًا بَعْدَ لامِ الجُحُودِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ: "هو" يَعودُ عَلَى اللهِ تعالى. و "القُرَى" مفعولٌ به منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ المُقدَّرةُ على آخرِهِ، لتعذُّرِ ظهورِها على الألفِ، و "بِظُلْمٍ" جارٌّ ومَجْرورٌ في محلِّ النصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ "يُهْلِكَ" أَيْ: حالَةَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِظُلْمٍ، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُهْلِكَ" أيْ: ما كانَ يُهْلِكَ أَهْلَ القُرَى بِظُلْمٍ مِنْهم، والجُملةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللامِ، تقديرُهُ: لإهلاكِ القُرَى، وهذا الجارُّ والمَجْرورُ، مُتَعَلِّقٌ بِواجِبِ الحَذْفِ لِوُقوعِهِ خبرًا لِـ "كان" والتَقديرُ: وما كانَ رَبُّكَ مُريدًا لإهْلاكِ القُرَى. و "وَأَهْلُهَا" الواوُ: للحال، ومُبْتَدَأٌ مرفوعٌ مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، و "مُصْلِحُونَ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالمِ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسمِ المُفرَدِ، والجمْلَةُ الاسميَّةُ هذه، في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ "القرى".