إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
(11)
قولُهُ ـ جلَّ شأنُه: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا: على الضراء؛ إيماناً بالله، واسْتِسْلاماً لقضائِهِ، و "عملوا الصالحاتِ" شكراً لآلائه، سابقِها ولاحِقِها. يَسْتَثْنِي اللهُ تَعَالَى مِنَ الأُنَاسِ اللَّجُوجِينَ القَنُوطِينَ، المُؤْمِنِينَ الصابرين الصالحين، الذِينَ صَبَرُوا عَلَى الشَّدَائِدِ وَالمَكَارِهِ، إِيمَاناً بِاللهِ، وَاحْتِسَاباً، وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي الرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، شُكْراً لَهُ سُبْحانَهُ على عَظيمِ آلائهِ وسابغِ نِعَمِهِ التي لا تُعدُّ ولا تُحَدُّ.
ومنْ معاني الصَبْرِ عدمُ القنوطِ وانْتِظارُ الفَرَجِ، ولذلك أُوثِرَ هُنا "صبروا" دون "آمنوا" لأنَّ المُرادَ مُقابَلَةُ حالِهم بِحالِ الكفَّارِ في قوله: {يؤوسٌ كَفورٌ}. وكَنَّى بالذين صَبَروا عَنِ المُؤْمِنينَ فإنَّ الإيمانَ يَرُوضُ صاحبَه عَلى نَبْذِ الهَوَى، والعملِ لله تعالى بما يَرْضَى، إيماناً بِهِ وخوفاً منه وشكراً، فإنَّ الإيمانَ صَبْرٌ وشُكْرٌ.
قولُهُ: {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهؤلاءِ إِنَّما حَمَلَهم عَلى ذلكَ خَوْفُ اللهِ تعالى وحُبُّ الدَّارِ الآخرة، فَهؤُلاَءِ سَيَغْفِرُ اللهُ لَهُمْ ويكفِّرُ عنهم سيئاتهم، بِمَا يُصِيبُهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ. وَسَيَجْزِيهِمْ أَجْراً كَبِيراً بِمَا أَسْلَفُوا فِي زَمَنِ الرَّخَاءِ مِنْ صَالِحِ الأَعْمَالِ.
وقال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَوَّلُ شَيْءٍ كَتَبَهُ اللهُ في اللوحِ المَحْفوظ: أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إلاَّ أَنَا، مُحَمَّدٌ رَسولي، فمَنِ اسْتَسْلَمَ لِقَضائي، وصَبَرَ على بَلائي، وشَكَرَ نَعْمائي، كَتَبْتُهُ صِدِّيقاً، وبَعَثْتُهُ مَعَ الصِدِّيقينَ، ومَنْ لَمْ يَسْتَسْلِمْ لِقضائي، ولمْ يَصْبِرْ على بَلائي، وَلَمْ يَشْكُرْ نَعْمائي، فَلْيَتَّخِذْ رَبّاً سِوائي. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قال: ثلاثٌ مَنْ رُزِقَهُنَّ خَيْرُ الدُنيا والآخرة: الرِضا بالقَضاءِ، والصَبْرُ على الأَذى، والدعاءُ في الرَّخاء.
وحُكيَ أَنَّ سَيِّدَنا مُوسى ـ عليْهِ السَّلامُ، قال: يا رَبُّ؛ دُلَّني على عَمَلٍ إذا عَمِلْتُهُ رَضِيتَ عَنّي. قال: إنَّكَ لا تُطيقُ ذلك، فَخَرَّ ساجِداً لله مُتَضَرِّعاً، فقال: يا بْنَ عُمْرانَ؛ إنَّ رِضايَ في رِضائِكَ بِقَضائي.
والخلاصةُ فإنَّه ينْبَغي للعَبْدِ أَنْ يَكونَ شاكِراً للنِعَمِ، صابراً عندَ النِقَمِ، واقِفاً مَعَ المُنْعِمِ دُونَ النِعَمِ. فإنْ ذَهَبَتْ نِعْمَةٌ رَجَى اللهَ رُجوعَها، وإنْ أَصابَتْهُ نِقْمَةٌ انْتَظَرَ انْصِرافَها. فيكونُ عَبْداً للهِ في جَميعِ الحالات.
قولُه تعالى: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} إِلَّا: بمعنى "لكن" الاستدراكيَّةِ، وهي أَداةُ اسْتِثْناءٍ مِنَ "الإنسان" المذكور في الآية: 9 السابقة, وهو استثناءٌ مُتَّصلٌ إِنْ كانَ "أَلْ" فيه لاستغراقِ الجِنْسِ، وهو الصحيح، ومُنْقَطِعٌ إنْ كانَتْ "ال" للعَهْدِ إِشارةً إلى الإنْسانِ الكافِر مُطْلَقاً، وهو قول ضعيفٌ من جهة المعنَى، لا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ؛ لأنَّ صِفَةَ الكُفْر لا تُطْلَقُ على جَميعِ الناسِ؛ و "الَّذِينَ" مَوْصولٌ في محلِّ الرَّفْعِ مُبْتَدَأً أَوَّلَ، والجملة منه في مَحَلِّ النَصْبِ بِالاسْتِثْناءِ، على المحلِّ، ويجوزُ أنْ تُعربَ مبتدأً، ويكون الخبرُ الجملةَ مِنْ قولِهِ: "أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ" إذا اعتبرنا الاستثناءَ منقطعاً وهو ضعيف كما تقدَّم. و "صَبَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الفتحِ لاتصالِهِ بواوِ الجماعة، و واوُ الجماعةِ فاعِلُهُ، والألفُ للتفريق، وهذه الجملةُ صِلَةُ المَوْصولِ.
قولُهُ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ} الواو: للعطف، عملوا: معطوفٌ على "صَبَرُوا"، وإعرابُهُ كإعرابه، و "أُولَئِكَ" مُبْتَدَأٌ ثانٍ، و "لَهُمْ" جارٌّ ومجرورٌ في محلِّ خبرٍ مُقَدَّمٍ، و "مَغْفِرَةٌ" مُبْتَدَأٌ ثالِثٌ، و "أَجْرٌ" معطوفٌ على "مَغْفِرَةٌ"، و "كَبِيرٌ" صِفَةُ "أَجْرٌ" والجملةُ مِنْ المَبْتَدَأِ الثالثِ وخبرِهِ، خبرٌ للمُبْتَدَأِ الثاني، والجملةُ مِنَ المبتدأِ الثاني وخبرِهِ خَبَرٌ للأوَّلِ، والجُمْلَةِ مِنَ الأَوَّلِ، وخَبَرِهِ: جُمْلَةٌ اسْتِدْراكِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ.