وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ
(25)
قولُهُ ـ جلَّ مِنْ قائلٍ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} أيْ: كَما أَرْسَلْناكَ يا مُحَمَّدُ إلى قومِكَ لِتُنْذِرَهم وتُبَشِّرَهم، فَقَابَلَكَ فريقٌ من قومَكَ بالكُفْرِ والجُحودِ، كذلك فقد أَرْسَلْنا قَبْلَكَ نُوحاً إلى قومِه، وكَانَ نُوحٌ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَوَّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللهُ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ مِمَّنْ أَشْرَكُوا، وَعَبَدُوا الأَصْنَامَ وَالأَوْثَانَ. وقيلَ إنَّ اسْمَهُ عَبْدُ الغَفَّارِ، ونُوحُ لَقَبُهُ، لُقِّبَ بذلك لشِدَّةِ خوفِهِ من مولاه، قالهُ الإمامُ السُهَيْلِيُّ (فيضُ القدير: (3/125)، ورَواهُ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، والحاكمُ، وذكرَه النقّاشُ في تفسيرِه، وقال ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عَنْهُما: بُعثَ نُوحٌ بَعْدَ أَربَعينَ سَنَةً، ولبِثَ يَدْعُو قومَهُ تِسْعَ مِئَةِ سَنَةٍ وخَمسينَ عامًا، وعاشَ بَعْدَ الطُوفانِ سِتِّينَ سَنَةً، فكانَ عُمْرُهُ أَلْفَ سَنَةٍ وخَمْسينَ سَنَةً، وقيلَ غيرُ ذلكَ، وقد فصَّلنا فيه بأكثر في سورة الأعرافِ.
وقد ورَدَ ذِكرُهُ ـ عليه السلامُ، في ثلاثةٍ وأربعينَ مَوْضِعًا مِنَ القُرآنِ الكَريمِ، في ثَمانٍ وعشْرينَ سُورَةً. وذُكِرَتْ قِصَّتُهُ مُفَصَّلَةً في القرآنِ الكريمِ في سُورةِ الأعرافِ، وهُودٍ، وسورةِ المُؤْمنينَ، وفي سورةِ الشُعَراءِ، وسورةِ القمَرِ، وفي سُورَةِ نوحٍ. وهيَ مُخْتَلِفَةُ اللَّفْظِ بحَسبِ ما تَكونُ العِنَايَةُ مُوَجَّهَةً نَحْوَهُ مِنَ البَيانِ.
والآيةُ انْتِقالٌ مِنْ إِنْذارٌ المشركينَ بالعذاب الأليم والعقابِ الشديدِ في الدنيا والآخرة، ووصْفِ أَحْوالِهم، وما ناسَبَ ذَلِكَ، إلى مَوْعِظَتِهم بما أَصابَ المُكَذِّبين قبلَهم مِنَ المَصائبِ، وفي ذَلِكَ تَسْلِيَةٌ للنَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِما لاقاهُ الرُّسُلُ ـ عَلَيْهِمُ الصلاةُ السَّلامُ، قبلَهُ مِنْ كفرِ أَقْوامِهم وجحودهم، كما أنَّ فيه عبرةً لأمَّتِهِ ـ صلَّ اللهُ عليه وسلَّمَ، وموعظةً. فالعَطْفُ هنا مِنْ عَطْفِ القِصَّةِ على القِصَّةِ، ولذلك فالواوُ هُنَا تُسَمَّى الواوَ الابْتِدائِيَّةَ.
قولُهُ: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} فَقَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّنِي لَكُمْ نَذِيرٌ مِنَ اللهِ أُبَيِّنُ لَكُمْ طَرِيقَ النَّجَاةِ، فَآمِنُوا بِهِ وَأَطِيعُوا أَمْرَهُ. و "أَلاَّ تعبدوا إلاّ الله" تفسيرٌ ل "أرسلنا" لأنَّ الإرْسالَ فيهِ معنى القول دونِ حُروفِهِ، ويَجوزُ أنْ يكونَ تفسيراً ل "نذير" لِما في "نذير" مِنْ مَعنى القَولِ.
قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ } وَلَقَدْ: الواوُ: للاسْتِئْنافِ، واللامُ الموطِئَةُ للقَسَمِ، و "قد" للتَحْقيقِ، و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" المعظِّمِ نفسَهُ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ رفعِ فاعلِهِ، و "نُوحًا" مفعولُهُ منصوبٌ به، و "إِلَى قَوْمِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ جرِّ مضافٍ إليه، والجُمْلَةُ جَوابٌ للقَسَمِ المَحذوفِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ المَحذوفةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنِّي لكم} إِنِّي: "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ للتأكيد مشبَّهٌ بالفعل، وياء المتكلِّمِ ضميرٌ متصلٌ في محلِّ نصبِ اسْمٍ له، و "لَكُمْ" جارٌ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ: "نَذِيرٌ"، والميمُ للمذكَّر، و "نَذِيرٌ" خَبَرُ "إن" مرفوعٌ و "مُبِينٌ" صِفَةُ "نذير"، وجُملةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ بقولٍ مَحْذوفٍ تقديرُهُ قائلًا: إنِّي لَكُم نَذيرٌ مَبينٌ، وأَمَّا قِراءَةُ فَتْحِ هَمْزَةِ "إنَّ" فعلى تَقديرِ حَرْفِ جَرٍّ.
قرأَ العامةُ: {إِنَّي} بِكَسْرِ الهَمْزَةِ: وقرأَ ابْنُ كَثيرٍ، وأَبو عَمْرِو بْنِ العلاءِ، والكِسائيُّ: "أَنّي" بفتحها، فأمَّا الكَسْرُ فَعَلى إِضْمارِ القَوْلِ، وكثيراً ما يُضْمَرُ، وهوَ غَنِيٌّ عَنِ الاحتجاجَ له بشواهِدَ. وأَمَّا الفَتْحُ فعَلى إِضْمارِ حَرْفِ جَرٍّ، أَيْ: بِأَنِّي. قالَ الفَارِسِيُّ: في قراءة الفتحِ خروجٌ مِنَ الغَيْبة إلى المُخاطَبَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّة: وفي هذا نَظَرٌ، وإنَّما هي حِكَايةُ مُخاطَبَتِهِ لِقَوْمِهِ، وليسَ هذا حَقيقةُ الخُروجِ مِنْ غَيْبةٍ إلى مُخاطَبَةٍ، ولو كانَ الكلامُ أَنْ أَنْذِرْهم ونحوَهُ لَصَحَّ ذلك. وقدْ قالَ بِالالْتِفاتِ مَكِيٌّ أيضاً فإنَّهُ قالَ: الأَصْلُ: "بِأَنِّي" والجارُّ والمُجرورُ في مَوْضِعِ المَفْعولِ الثاني، وكانَ الأَصْلُ: "أَنَّهُ"، لكنَّهُ جاءَ عَلى طَريقَةِ الالْتِفاتِ. ولكنَّ هذا الالْتِفاتَ غيرُ الذي ذَكَرَهُ أَبو عَلِيٍّ الفارسيُّ، فإنَّ ذاكَ مِنْ غَيْبَةٍ إلى خطابٍ، وهذا مِنْ غَيْبَةٍ إلى تَكَلُّمٍ، وكلاهُما لا يُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وإنْ كانَ قولُ مَكِيٍّ أَقْرَبَ. وقالَ الزمخشريُّ: الجارُّ والمَجرورُ صِلَةٌ لِحَالٍ مَحْذوفَةٍ، والمَعْنى: أَرْسَلْناهُ مُلْتَبِساً بِهذا الكَلامِ، وهوَ قولُهُ: "إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ" بالكَسْرِ، فلَمَّا اتَّصَلَ بِهِ الجَارُّ فُتِحَ كما فُتِحَ في "كأنَّ".