فيض العليم ... سورة هود، الآية: 95
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
(95)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} فَأَصْبَحَ القَوْمُ هَلْكَى كَأَنَّهُمْ لَمْ يَعْمُرُوا دِيَارَهُمْ قَبْلَ ذلِكَ، وَلَمْ يُقِيمُوا فِيهَا طويلًا، بنعمة وخفض عيش، ومنه المغاني وهي المنازل المعمورة بالأهل.
قولُهُ: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} أَلا: لِتَنْبيهِ السامِعِ، وهو دُعاءٌ عليهم بالهلاك، و "بُعْدًا لِمَدْيَنَ"، أي هلاكًا لمدينَ قومِ شُعيبٍ ـ عليه السلامُ، كَمَا هَلَكَتْ ثَمْودُ قومُ صالحٍ منْ قبلُ، وَبَعُدَتْ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ تعالى. وَإِنَّمَا قَاسَ حَالَهُمْ عَلَى ثَمُودَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ تعالى عَذَّبَهم مِثْلَ عذابِ ثمود. وَكَانَتْ ثَمْودُ جِيرَانَ مَدْيَنَ فِي الأَرْضِ، وَأَشْبَاهَهُمْ فِي الكُفْرِ وَالتَّمَرُّد ِعَلَى اللهِ. و "بُعْدًا" مصدرٌ، دَعَا بِهِ عليهم، وهذا كَقولهم: سَقْيًا لَكَ، ورَعْيًا لَكَ، وهو دعاءٌ بالخيرِ، وكقولهم: سُحْقًا للكافِرِ ونَحْوه، وهو دُعاءٌ عليه بالشرِّ. وإنِّما هي أدْعيَةٌ مُتَرَجاةٌ.
وَفي قَوْلِهِ: "كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ" تَشْبِيهُ الْبُعْدِ الَّذِي هُوَ انْقِرَاضُ مَدْيَنَ بِانْقِرَاضِ ثَمُودَ. وَوَجْهُ الشَّبَهِ التَّمَاثُلُ فِي سَبَبِ عِقَابِهِمْ بِالِاسْتِئْصَالِ، وَهُوَ عَذَابُ الصَّيْحَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّشْبِيهِ الِاسْتِطْرَادَ بِذَمِّ ثَمُودَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ جُرْأَةً فِي مُنَاوَأَةِ رُسُلِ اللهِ، فَلَمَّا تَهَيَّأَ الْمَقَامُ لِاخْتِتَامِ الْكَلَامِ فِي قَصَصِ الْأُمَمِ الْبَائِدَةِ نَاسَبَ أَنْ يُعَادَ ذِكْرُ أَشَدِّهَا كُفْرًا وَعِنَادًا فَشَبَّهَ هَلَكَ مَدْيَنَ بِهَلَكِهِمْ.
وَالِاسْتِطْرَادُ فَنٌّ مِنَ الْبَدِيعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ بْنِ ثابتٍ ـ رضيَ اللهُ عنه، فِي الِاسْتِطْرَادِ بِالْهِجَاءِ بِالْحَارِثِ أَخِي أَبِي جَهْلٍ:
إِنْ كُنْتِ كَاذِبَةَ الَّذِي حَدَّثْتِنِي ........ فَنَجَوْتِ مَنْجَى الْحَارِثِ بْنِ هِشَامِ
تَرَكَ الْأَحِبَّةَ أَنْ يُقَاتِلَ دُونَهُمُ ................. وَنَجَا بِرَأْسِ طِمِرَّةٍ ولِجامِ
قولُهُ تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا} كَأَنْ: مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقيلةِ، حرفٌ ناصبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ تستعملُ في التشبيه، واسْمُها محذوفٌ تقديرُهُ: كأَنَّهم. و "لَمْ" حرفُ نفيٍ وجزمٍ وقلبٍ، و "يَغْنَوْا" فِعْلٌ مضارعٌ مجزومٌ بها، وعلامةُ جَزْمِهِ حذفُ النونِ من آخرِهِ لأنّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ به، مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ. و "فِيهَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه، في مَحَلِّ رَفْعِ خَبَرِ "كَأَنْ"، وجُمْلَةُ "كَأَنْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضميرِ المُسْتَكِنِّ في "جَاثِمِينَ"؛ أَيْ: أَصْبَحُوا جاثمينَ حالَ كونِهم مُماثِلينَ لِمَنْ لَمْ يُوجَدْ قطُّ، ولَم يَقُمْ في مَكانٍ البَتَّةَ. أو في محلِّ نَصْبِ خَبَرٍ ثانٍ للفعلِ الناقِصِ "أصبحوا"، أوْ في مَحَلِّ نَصْبِ حالٍ مِنَ ضَميرِ الفاعل في "أصبحوا" التامِّ.
قولُهُ: {أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} أَلَا: حَرْفُ تَنْبيهٍ. "بُعْدًا" منصوبٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ بِفِعْلٍ محذوفٍ وُجوبًا، والتَقْديرُ: بَعُدَتْ مَدْيَنُ بُعْدًا، وهذه جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لِمَدْيَنَ" حرفُ جرٍّ متعلق بِـ "بُعْدًا" و "مدينَ" مجرورٌ بها وعلامةُ جرِّه الفتحةُ نيابةً عن الكسرةِ لأنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرفِ. و "كَمَا" الكافُ" حَرْفُ جَرٍّ للتشبيهِ متعلِّقٌ بِما بعدَه، و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "بَعِدَتْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ لتأنيثِ الفاعلِ، و "ثَمُودُ" فاعلُهُ مرفوعٌ بِهِ، وهذهِ الجملةُ صِلَةُ "ما" المَصْدَرِيَّةِ، و "ما" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالكافِ الجارَّةِ، والمَجْرورُ صفةٌ لِـ "بُعْدًا" والتقديرُ: أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ مِثْلَ بُعْدِ ثَمودَ.
قرأ الجمهور: {بَعِدَتْ} (بِكَسْرِ العين) ومعناه: الهَلاكُ، ومِنْهُ قولُ مالِكِ بْنِ الرَّيْبِ: (الطويل)
يَقُولُونَ لاَ تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُوننِي .............. وَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيَا
وقولُ الخِرْنِقِ بِنْتِ بَدْرِ بْنِ هفانَ أختِ طَرَفةِ بْنِ العبدِ: (الكامل)
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ...................... سُمُّ العَداةِ وآفةُ الجُزْرِ
وبعده:
النازلينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ............................ والطَّيّبُونَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ
وهذا البيتُ (الأخير) دليلٌ على جوازِ القَطْعِ وأنَّ البَيْتَ لا عَطْفَ فِيهِ؛ لأَنَّها قطعتْ "النازلين" فنَصَبَتْهُ، و"الطيبون" فرفعَتْهُ عَطفًا على قولِها "قومي".
وقرأَ أبو عبدِ الرَّحمنِ السُلَمِيُّ وأَبو حَيَوَةَ "بَعُدَتْ" (بضمِّ العينِ)، وهو مِنَ البُعْدِ الذي هو ضِدُّ القُرْبِ، ولا يُدْعَى بِهما إلَّا عَلى مَبْغوضٍ
وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: مَنْ ضَمَّ الْعَيْنَ مِنْ" بَعِدَتْ" فَهِيَ لُغَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمَصْدَرُهَا الْبُعْدُ، وَبَعِدَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ خَاصَّةً، يُقَالُ: بَعِدَ يَبْعَدُ بَعَدًا، فَالْبَعَدُ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ بِمَعْنَى اللَّعْنَةِ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ مَعْنَى اللُّغَتَيْنِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَعْنَى، فَيَكُونُ مِمَّا جَاءَ مَصْدَرُهُ عَلَى غَيْرِ لَفْظِهِ لتقارب المعاني.