قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قُلْ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لِلنَّاسِ جميعاً إلى يومِ القيامةِ، مَنْ شَكَّ منهم في دِينِكَ وكَفَرَ بِكَ. وقد أُوثِرَ الخِطابُ باسْمِ الجِنْسِ "الناسِ" مُصَدَّراً بِحَرْفِ التَنْبيهِ "أيُّها" تَعْميماً للتَبْليغِ، وإِظْهاراً لِكَمالِ العِنَايَةِ بِشَأْنِ ما بَلَّغَ إلَيْهِمْ.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ صِحَّةِ الدِّينِ الذِي أَدْعُو إِلَيْهِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنَ لَكُمْ أَنَّهُ الحَقُّ، فَاسْمَعُوا وَصْفَهُ، وَاعْرِضُوهُ عَلَى عُقُولِكُمْ، وَانْظُرُوا فِيهِ، لِتَعْلَمُوا أَنَّهُ لا مَدْخَلَ فِيهِ لِلشَّكِّ: والشَّكُّ معناهُ: وضَعْ أَمْرَيْنِ في كِفَّتَيْنِ مُتَساوِيَتَيْنِ، إذاً فالحقُّ سبحانَهُ، يَأْمُرُ رَسُولَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِأَنْ يَعْرِضَ عَلى الكافِرينَ قَضِيَةَ الدين، وأَنْ يَضَعُوها في كفَّةٍ، وأنْ يَضَعُوا ما يؤمنون بِهِ في الكفَّةِ المُقابِلَةِ. ويَتْرُكُ لهمُ الحُكْمَ في هذا الأَمْرِ. وهذا معناه أنَّه ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، كان واثقاً كُلَّ الثِقَةِ بِأَنَّ دِينَهُ إِنْ نَظَرَ الإنسانُ فيه، بِقَلْبٍ ولَبٍّ خالِصٍ مِنْ الهوى، بعيدٍ عَنِ التَحَيُّزِ والتعصُّب إلى قناعاتٍ سابقَةٍ فلا بُدَّ من أَنْ يؤمِنَ به.
قولُهُ: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} فإنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسلامُ، لا يُمْكِنُ أَنْ يَعْبُدَ مع اللهِ تعالى غيره من الشُرَكاءِ الذين يَعْبُدونهمُ من دونِ اللهِ؛ لأنَّهُ لَنْ يَعبُدَ إلاَّ اللهَ. و يَدُلُّ ظاهرُ هذِهِ الآيَةِ على أَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ ما كانوا يَعْرِفونَ دِينَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَى اللهُ عَلَيْه وسَلَّم، لما جاءَ في الخَبَرِ من أَنَّهم كانوا يَقولونَ فيهِ أنَّهُ صابئٌ، فأَمَرَه اللهُ تَعالى أَنْ يُبَيِّنَ لهم أَنَّهُ على دينِ إِبْراهيمَ حَنيفاً مُسْلِماً.
قولُهُ: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} ولكن أَعْبُدُ اللهَ الذِي يَتَوَفَّى الخَلْقَ إِذَا شَاءَ، وما مِنْ أحدٍ يستطيعُ أنْ يَتَأَبَّى على قَدَرِ اللهِ سبحانَهُ حينَ يُميتُه. وَيَنْفَعُ منْ شاء بما شاءَ، وَيَضُرُّ مَنْ أَرادَ إِذَا أَرَادَ، ولا مِنْ مُعْتَرِضٍ يَقْدِرُ أَنْ يُغَيِّرَ مِنْ ذلكَ شَيْئاً أَوْ يُؤجِّلَهُ أَوْ يَسْتَعْجِلَهُ، فإنَّ مِثْلَ هَذا الإلَهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُعْبَدَ، ويُبْتَغى رضاهُ، وَأَنْ يُخَافَ مِنْهُ وَيُتَّقَى غضبُهُ، فإِنِّه ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لاَ يَعْبُدُ حجَارَةً من تلك التِي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ رَبِّهمْ وَخَالِقِهمْ.
وقدِ اكْتَفَى بِذِكْرِ التَوَفِّي هنا ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ المُرادُ أَنَّي أَعْبُدُ اللهَ الذي خَلَقَكُم أَوَّلاً، ثمَّ يَتَوَفّاكم ثانياً، ثمَّ يُعيدُكم ثالِثاً، لِكونِ التوفّي مُنَبِّهاً على الحقيقَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ. أَوْ لأَنَّ المَوْتَ أَشَدَّها مَهابَةً، فخُصُّ بالذِكْرِ في هذا المَقامِ، لِيَكونَ أَقْوى في الزَّجْرِ والرَّدْعِ.
وتَدُلُّ هذِهِ الآيةُ الكَريمَةُ عَلى هَلاكِ أُولئِكَ الكُفَّارِ وبقاءِ المؤمنين وأنْ ستكونُ لهم دولةٌ قويَّةٌ فكأَنَّهُ يَقولُ: أَعْبُدُ اللهَ الذي وعَدَني بإهْلاكِكم وبِإبْقائي.
قولُهُ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَقَدْ أُمِرْتُ بِأَنْ أَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ المُسْتَسْلِمِينَ لأَمْرِهِ تَعَالَى. فإذا كانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قدْ رَفَضَ عِبادَةَ مَنْ هُمْ دُونَ اللهِ سُبْحانَهُ، فمَعْنى ذَلِكَ أَنَّهُ لَنْ يَعْبُدَ سِوَى اللهِ تَعالى. وليسَ هذا منه مَوْقِفاً سَلْبِيّاً، بَلْ هوَ قُمَّةٌ في الإيجابيَّةِ؛ لأَنَّ العِبادَةَ تَقْتَضي اسْتِقْبالَ مِنْهَجِ اللهِ بِأَنْ يُطيعَ أَوامِرَهُ، ويجتَنِبَ نَواهِيَهُ. فبَعدَ أنْ ذَكَرَ العِبادَةَ، التي هيَ من أَعْمالِ الجَوارِحِ، انْتَقَلَ إلى الإيمانِ، لِيَدُلَّ عَلى أَنَّهُ ما لم يَكُنِ الظاهرُ مُحلَّى بالأعمالِ الصالِحَةِ، فلَنْ يَحْصَلَ في القَلْبِ نُورُ الإيمانِ والعرفانِ.
قولُهُ تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قل: فعلُ أَمْرٍ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ يَعودُ عَلى سيدنا محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليه وسلم، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "يا" للنِداءِ، و "أَيُّ" مُنادى نَكِرَةٌ مَقْصودَةٌ. و "ها" حرَفُ تَنْبيهٍ، و "النَّاسُ" بدلٌ مِنْ "أَيِّ" أو صِفَةٌ لها، وجملَةُ النِداءِ في محلِّ النَصْبِ ب "قُلْ".
قولُهُ: {إنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي} إنْ: حَرفْ شَرْطٍ، و "كُنْتُمْ" فعلٌ ناقِصٌ، وتاءُ الفاعلِ اسمُهُ، والميم: للجمع المذكَّر، والجملةُ في محَلِّ الجزمِ بِ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلى أنَّها فِعْلُ شَرْطٍ لها. و "فِي شَكٍّ" جارٌّ ومجرورٌ خَبَرَ في محلِّ نصبِ خبرٍ ل "كاَنَ". و "مِنْ دِينِِي" جارٌّ ومجْرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "شَكٍّ" و قيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِنَعْتٍ ل "شك".
قولُهُ: {فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ، و "لا" نافيةٌ، وثمَّةَ مُبْتَدَأٌ مُقَدَّرٌ، أَيْ: فَأَنَا لا أَعْبُدُ، فالجُمْلَةُ جَوابُ الشَرْطِ، و "أَعْبُدُ" فِعْلٌ مضارعٌ وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ وجوباً تَقْديرُهُ: "أنا" يَعودُ عَلى سيدنا محمَّد ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، و "الَّذِينَ" مفعولُهُ، وهذه الجملة الفعلية في محلِّ جزْمِ جوابِ شرطٍ ل "إن" الشرطيَّةِ، أو خَبَرُ ابْتِداءٍ مُضْمَرٍ تَقديرُهُ: فَأَنَا لا أَعْبُدُ، ولو وَقَعَ المُضارِعُ مَنْفِيّاً بِ "لا" دونَ فاءٍ لَجُزِمَ ، ولَكِنَّهُ مَعَ الفاءِ يُرْفَعُ، وكذا لَوْ لمْ يُنْفَ بِ "لا" كَقَولِهِ تعالى في سورة المائدةِ: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ} الآية: 95. أيْ: فَهُوَ يَنْتَقِمُ منه. وجملَةُ "إن" في محَلِّ النَّصْبِ ب {قُلْ} على أنَّها جوابَ النِداءِ. و "تَعْبُدُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعه ثبوتُ النونِ لأنَّه من الأفعالِ الخمسةِ وفاعلُهُ الواوُ الدالَّةُ على الجماعةِ، وجملةُ "تعبدون" صِلَةُ المَوْصولِ. و "مِنْ دُونِ اللهِ" جارٌّ ومجْرورٌ مُضافٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "تعبدون"، وقيل: بحالٍ من الموصول، و "اللهِ" مضافٌ إلِيهِ.
قولُهُ: {وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ} الواو: عاطفَةٌ. و "لكن" حرَفْ اسْتِدْراكٍ. و "أَعْبُدُ" فِعْلٌ مضارعٌ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ وجوباً يَعودُ على سيدنا محمَّد ـ صلّى الله ُ عليه وسلَّمَ، و "اللهَ" لفظُ الجلالةِ في محلٍّ نصبِ مَفْعولٍ لُه، والجملةُ في محلِّ النَصْبِ بالقولِ عَطْفاً على جمْلَةِ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ، و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصُولٌ في محَلِّ نَصْبِ صِفَةٍ للجَلالَةِ. و "يَتَوَفَّاكُمْ" فعلٌ مضارعٌ وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ جوازاً يَعودُ عَلى الموْصولِ، ومفعولُهُ الكافُ والميمُ علامةِ جمعِ المذكّرِ، والجملةُ صِلَةُ المَوْصولِ.
قولُهُ: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} وَأُمِرْتُ: الواوُ للعطفِ، و "أمرتُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٍّ للمجهولِ، وقد بنيَ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هي تاءُ الفاعلِ، والتاءُ: نائبٌ عَنْ فاعِلِهِ، والجُمْلَةُ في محلِّ النَصْبِ عطفاً عَلى جملَةِ "أنْ" الشَرْطِيَّةِ. و "أَنْ أَكُونَ" ناصِبٌ، وفِعْلٌ ناقِصٌ واسمُها ضميرٌ مستترٌ وجوباً تقديرُهُ "أنا" يَعودُ على سيِّدِنا محمَّد ـ صلّى اللهُ عليه وسلَّم. و "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" خَبَرُ "أَكونَ"، وصِلَةُ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ، و "أنْ" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ محذوفٍ، تَقْديرُهُ: وأُمِرْتُ بِكَوْني مِنَ المُؤمِنينَ. وهذا الحذفُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ مِنَ الحذفِ المُطَّرِدِ الذي هوَ حَذْفُ الحروفِ الجارَّةِ مَعَ "أَنْ" و "أنَّ"، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ مِنَ الحَذْفِ غَيْرِ المُطَّرِدِ كما هوَ قولُ عمرِو بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ:
أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به ........ فقد تَرَكْتُكَ ذا مال وذا نَشَبِ
أي: "بالخَيْرِ" وَنَعْني بِغَيرِ المُطَّرد أَنَّ حَذْفَ حَرْفِ الجَرِّ مَسْمُوعٌ في أَفعالٍ لا يَجوزُ القياسُ عَلَيْها وهيَ: أَمْرَ، واسْتَغْفَرَ، وقَدْ قاسَ ذَلِكَ بعْضُ النَّحْويّين، ولكنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَتَعيَّنَ ذَلِكَ الحرفُ ويَتَعَيَّنَ مَوْضِعُهُ أَيْضاً.