قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ
(101)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} هُوَ خِطابٌ مِنْ رَبِّ العالمين لِسَيِّدِ المُخاطَبينَ ـ عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلاةِ وأَكْمَلُ التَسْليمِ: فادْعُهم يا رَسُولَ اللهِ إلى النَظَرِ في دَلائِلِ الوَحْدَانِيَةِ، والإرْشادِ إلى تحصيلِ أَسْبابِ الإيمانِ، ودَفْعِ غِشاواتِ الكُفْرِ، وذلكَ بالنَظَرِ والاسْتِدْلالِ بما هُوَ حَوْلَ الإنْسانِ مِنْ أَحْوالِ الموْجوداتِ وتَصاريفِها الدالَّةِ عَلى الوَحْدانِيَّةِ، كالكَواكِبِ والأجرام السماويَّةِ، وآفاقِ جَريانها، وأَحْوالِ النُورِ والظُلمَةِ وتبدُّلها، والرِياحِ وطرُقِ مَسيرِها، والسَّحابِ والمَطَرِ وتقاديرها، وكيفيَّةِ تشكُّلِ البِحارِ والجِبالِ وغيها من الآيات الدالَّة أنَ ذلك لا يصدُر إلاَّ عن إلهٍ عظيم، وخالقٍ حكيم، على كلِّ شيءٍ قديرٍ وبكلِّ شيءٍ عليم. وهذا الذي تَقَدَّمَ إنَّما كانَ جميعُه بِقَضاءِ اللهَ عَلَيْهم ومَشيئَتِهِ فيهم، ولو شاءَ اللهُ لَكانوا جَميعُهم مُؤمنينَ، فلا تَأْسَفْ عليهم يا محمَّدُ أنَّ منهم مَنْ كَفَرَ بك ولم يُؤمِنْ برسالتِكَ، وادْعُهم ولا عَلَيْكَ آمنوا أم لم يؤمنوا سواء عليك، فالأَمْرُ محتومٌ بهِ مجزومٌ، وفي الآيَةِ دَليلٌ على وُجُوبِ النَظَرِ والاجْتِهادِ، وترْكِ التَقْليدِ في الاعْتِقادِ.
قولُهُ: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} وأيُّ شَيْءٍ تُجْدِي الآياتُ السَماوِيَّةُ والأَرْضِيَّةُ، والرُسُلُ بآياتها وحُجَجِها وبَراهينِها الدَّالَّةِ على صِدْقِها، عَنْ قومٍ لا يُؤمِنُونَ، كمَا قال تعالى قبل ذلك في الآيتان: 96 و 97. مِنْ هذِهِ السُورَةِ المباركة: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ}. والمُرادُ بالآياتِ ما أُشيرَ إِلَيْهِ بقولِهِ سُبْحانَهُ: "مَاذَا فِي السمواتِ والأرْضِ" ففيهِ إِقامَةُ الظاهِرِ مقامَ المُضْمَرِ. والمُرادُ بِ "قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ" القومُ المطبوعُ عَلى قُلوبِهِمْ، أَيْ: لا يُؤْمِنونَ في عِلْمِ اللهِ تَعالى وحِكْمِهِ.
قولُهُ تَعالى: {قل انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرضِ} قُلِ: فِعْلُ أَمْرٍ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ يَعودُ على النبي محمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلَّم، والجُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ. و "انْظُرُوا" فِعْلٌ أمرٍ وفاعِلُه واوُ الجماعةِ والألفُ فارقةٌ، والجملة في محلِّ النَصْبِ بالقولِ. و "مَاذَا" ما: اسْمُ اسْتِفُهامٍ في محلِّ الرَفْعِ مُبْتَدَأً و "ذا" اسْمٌ مَوْصُولٌ بمَعْنى "الذي" في محلِّ رَفْعٍ خَبَراً للمبتدأِ، والجملةُ الاسميَّةُ هذهِ في محلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ به. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "ماذا" كلُّهُ اسْتِفْهاماً مُبْتَدَأً، و "في السَمَواتِ" خبرُهُ، أَيْ: أَيُّ شَيْءٍ في السَمَواتِ؟ وعلى التقديرين فالمبتدأُ وخبرُه في محلِّ نصبٍ بنزع الخافِضِ؛ لأنَ الفِعْلَ قبلَهُ مُعَلَّقٌ بالاستفهام، ويجوزُ على ضَعْفٍ أنْ يَكونَ "ماذا" كُلُّهُ مَوصولاً بمعنى "الذي" وهو في محل نَصْبٍ بِ "انظروا". ووجهُ ضَعْفِهِ أَنَهُ لا يخلو: إمَّا أَنْ يَكونَ النَظَرُ بمَعنى البَصَرِ فيُعدى بِ "إلى"، وإمَّا أَنْ يَكونَ قَلْبِيّاً فيُعَدَّى بِ "في" وقدْ تَقَدَّمَ الكلامُ في "ماذا". و "الأَرْضِ" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ.
قولُهُ: {وما تُغْنِي الآيَاتُ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} الواوُ: حالِيَةٌ و "ما" نافيَةٌ. و "تُغْنِي الآيَاتُ" فعْلٌ وفاعِلٌ. وَ "النُّذُرُ" مَعْطوفٌ على الآياتِ. و يجوزُ في "النُّذُرِ" أَنْ يَكونَ جمعَ نَذيرٍ، والمُرادُ بِهِ المَصْدَرُ، فيَكونَ التَقْديرُ: وما تُغْني الآياتُ والإِنذاراتُ، وأَنْ يَكونَ جمعَ "نذير" مُراداً بِهِ اسْمَ الفاعِلِ بمَعنى مُنْذِرٍ، فيكون التَقديرُ: والمُنْذِرونَ وَهُمُ الرُسُلُ. و "عَنْ قَوْمٍ" مُتَعَلِّقٌ ب "تُغْني". وجملةُ "لا يُؤْمِنُونَ" صِفَةٌ ل "قَوْم" والجُمْلَةُ الفِعْلِيَةُ في محلِ نَصْبٍ على الحالِ مِنْ واوِ "انْظُرُوا" والتَقْديرُ: انْظُروا والحالُ أَنَّ النَظَرَ لا يَنْفَعُكم. ويجوزُ في "ما" أَنْ تَكونَ اسْتِفْهامِيَةً، وهي واقعةٌ مَوْقِعَ المَصْدَرِ، أَيْ: أَيَّ غَناءٍ تُغْني الآياتُ؟ ولكنَّ الظاهر أنها نافيةٌ، كما تقدَّمَ. وقال ابنُ عطيَّةَ: ويُحتَمَلُ أَنْ تَكونَ "ما" في قولِهِ: "وما تغني" مَفْعُولةً بِقَوْلِهِ: "انظروا"، مَعْطوفَةً عَلى قولِهِ: "ماذا" أَيْ: تَأَمَّلوا قَدْرَ غَنَاءِ الآياتِ والنُّذُرِ عَنِ الكُفَّارِ. قالَ الشَيْخُ أبو حيانٍ الأندلُسيُ: وفيهِ ضَعْفٌ، وفي قولِهِ: "معطوفة على "ماذا" تجُّوُّزٌ، يَعْني أَنَّ الجُمْلَةَ الاسْتِفْهامِيَّةَ التي هي {مَاذَا فِي السَماواتِ} في مَوْضِعِ المَفْعولِ، إلاَّ أَنَّ "ماذا" وحدَهُ مَنْصوبٌ بِ "انْظُروا "فَتَكونُ "ماذا" مَوْصولَةً، و "انظروا" بَصَرِيَّةً لمِا تَقَدَّمَ. يَعني لِما تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لو كانَتْ بَصَرِيَّةً لَتَعَدَّتْ بِ "إلى".
قرأ العامَّةُ: {وما تغني الآياتُ} بالتأنيث، وقُرئ: "وما يغني الآياتُ" بالتذكير.