وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ
(87)
قولُهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسماؤهُ: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} قَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ إِظْهَارَ صَلاَتِهِمْ خَوْفاً مِنْ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى وَهَارُونَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ، أَنْ يَتَّخِذَا لِقَوْمِهِمِا بُيُوتاً فِي مِصْرَ، فقيلَ إنَّ المقصودَ بِ "مِصْرَ" هو مَدينَةُ الاسْكَنْدَرِيَّةِ، أَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابُْن أَبي حاتمٍ، عَنْ مجاهدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وذلك حين اشْتَدَ بهِمُ البَلاءُ مِنْ قِبَلِ فِرْعونَ وقومِهِ، وضَيَّقوا عَليهم، فقد أُمِروا بِكَثْرَةِ الصَلاةِ، وهو كما قال تعالى في سورة البقرةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} الآية: 156. وفي الحديثِ الشريف أنَّ رسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، كانَ إذا حَزَبَهُ أَمْرٌ صَلَّى. أخرجه أبو داوودَ في سُنَنِهِ من حديث حُذيفةَ بْنِ اليمانِ ـ رضي اللهُ عنه.
قولُهُ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} وَأَنْ يَجَعَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ بُيُوتَهُمْ قِبَلَ القِبْلَةِ، لِيُصَلُّوا فِيهَا، وَهُمْ مُتَجِّهُونَ جَمِيعاً جِهَةً وَاحِدَةً، وهي الكعبة كما أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: كانوا يَفْرَقونَ مِنْ فِرْعَوْنَ وقومِهِ أَنْ يُصَلُوا فقالَ: "واجعلوا بيوتكم قبلة". قالَ: قِبَلَ الكَعْبَةِ، وذُكِرَ أَنَّ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَلامُ، فمَنْ بَعْدَهُ، كانوا يُصَلُّونَ قِبَلَ الكَعْبَةِ. وقيل: معنى قبلة: أيْ يقابلُ بعضُها بعضاً. جاء ذلك فيما وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
فقد أمَرَ اللهُ تعالى بتوحيدِ القبلة لأَنَّ الاتِّحَاَد فِي الاتِجَاهِ يُسَاعِدُ عَلَى اتِّحَادِ القُلُوبِ. وقد كانوا لا يُصَلُّونَ إلاَّ في البِيَعِ، حتى خافوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ فَأُمِروا أَنْ يُصَلُّوا في بُيُوتهم. أَخْرَجَه سَعيدُ بْنُ مَنْصورٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ وأَبو الشَيْخِ عَنْ مجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "واجْعَلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً". وأَخْرَجَ الفِرْيابيُّ، وابْنُ جريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في قولِهِ: "واجْعَلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً" قال: أُمِروا أَنْ يَتَّخِذوا في بُيُوتِهمْ مَسَاجَدَ. وأَخْرَجَ أَبو الشَيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ تعالى: "وَأَوْحَيْنا إلى موسى وأَخيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً" قال: ذلِكَ حينَ مَنَعَهم فرعونُ الصَلاةَ، وأُمَروا أَنْ يجعَلوا مساجدهم في بيُوتهم، وأَنْ يُوَجِّهوها نحو القِبْلَةِ.
قولُهُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} ثُمَّ يَأْمُرُهُمُ اللهُ بِإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ بِحِفْظِ اللهِ إِيَّاهُمْ وَبِالثَّوَابِ وَالنَّصْرِ القَرِيبِ وَالفَرَجِ. ولمكانِ الصَلاةِ هذا حرمتُهُ فهو مكانٌ للعِبادةِ ولا يصلُحُ لشيءٍ من أُمورِ الدنيا، فقد أَخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ، عَنْ أَبي رافعٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيِهِ وسَلَمَ، خَطَبَ فقالَ: ((إنَّ اللهَ أَمَرَ مُوسى وهرونَ أَنْ يَتَبَوَآ لِقَوْمِهِما بُيوتاً، وأَمَرَهما أَنْ لا يَبيتَ في مَسْجِدِهما جُنُبٌ، ولا يَقْرَبوا فيهِ النِساءَ إلاَّ هَرونُ وذُرِّيَّتَه، ولا يَحِلُّ لأحَدٍ أَنْ يَقْرَبَ النِساءَ في مَسْجِدي هذا، ولا يَبيتُ فيه جُنُبٌ إلاَ عَلِيٌّ وذُرِّيَّتُهُ)).
قولُهُ تَعالى: {وَأَوْحَيْنا إلى موسى وأَخيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} الواوُ: للاستئنافِ، وَ "أَوْحَيْنَا" فعلٌ وفاعلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "إِلَى مُوسَى" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "أوحينا"، و "أَخِيهِ" مَعْطوفٌ عَلى موسى، و "أَنْ" مُفَسِّرَةٌ لِوُجودِ ضابِطِها، وهو أَنْ يَتَقَدَمَها جمْلَةٌ فيها مَعنى القَوْلِ دونَ حُروفِهِ، كما هو حالُ "أوحينا" هنا، و "تَبَوَّآ" بوَزْنَ "تَفَعَلْ"، فعْلُ أَمْرٍ مَبْنيٌّ عَلى حَذْفِ النُونِ مِنْ آخرِهِ، لكونِهِ منَ الأفعال الخمسةِ، فإنَّ أصلَهُ "يَتَبَوَّآن"، وهوَ كقولِهِ تَعالى في سورة المؤمنون: "أَنِ اصْنَعِ الفُلْكَ" الآية: 27. ويجوزُ أَنْ تَكونَ "أَنْ" مَصْدَرِيَّةً، و "تبوآ" فِعْلُ أَمْرٍ في محَلِّ النَصْبِ بِ "أَنْ" المصدرِيَّةِ، والفاعلُ في الحالين ألِفُ التَثْنِيَةِ. و "لِقَوْمِكُمَا" جارٌّ ومجرورٌ وفي مُتَعَلِّقٌ ب "تبوآ" وهو في محلِّ المَفعولِ الأوَّلِ، والأَقرَبُ كَوْنُ اللامِ زائدةً في المَفْعولِ، و "بيوتاً" مفعولٌ ثان بمعنى بَوِّآ قومَكما بُيوتاً، أي: أنْزِلوهم، و "فَعَّلَ" و "تَفَعَّل" بمَعنىً، مثل "عَلَّقَها" و "تَعَلَّقها" قالَهُ أبو البقاء. وفيه ضعفٌ منْ حيثُ إنَّه زِيدَتِ اللامُ، والعاملُ غيرُ فرع، ولم يتقدَّم المعمول. ويجوزُ أنَّ اللامَ غيرُ زائدةٍ، فهي حينئذٍ إمَّا حالٌ من "البيوت". أو أَنَّها وما بعدَها مَفعولُ "تَبَوَّآ". و "قومِ" مُضافٌ والكافُ في محلِّ جرٍّ بالإضافةِ. و "بِمِصْرَ" جارٌ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "تَبَوَّآ" أَوْ حالٌ مِنْ ضَميرِ "تبوآ" أَوْ حالٌ مِنْ "بُيُوتًا"، أو حالٌ مِنْ "لِقومِكُما"، و "بُيُوتًا"، مَفْعولٌ ثانٍ لِ "تبوآ" وجملةُ "تبوآ" صِلَةُ "أَنْ" إذا اعتبرناها مَصْدَريَّةُ، و "أَنْ" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَنْصوبٍ على المَفْعولِيَّةِ ل "أوحينا" والتَقديرُ: وأَوْحيْنا إلى موسى وأَخيهِ التَبَوُّؤَ لِقَوْمِهِما بِمِصْرَ بُيوتاً.
قولُهُ: {وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً} الواوُ: للعطفِ، و "اجعلوا" فِعْلٌ أَمْرٍ وفاعلُهُ واوُ الجماعة، والألفُ للتفريق، و "بُيوتكم" مفعولٌ بِهِ أوّلُ مُضافٌ والكافُ مضافٌ إليهِ والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ، و "قِبْلَةً" مفعولٌ ثانٍ، والجُمْلةُ مَعْطوفَةٌ على جملةِ "تبوآ".
قولُهُ: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} الواوُ: عاطفةٌ، و "أقيموا" فِعْلٌ وفاعلُهُ واوُ الجماعةِ والأَلِفُ الفارقة، و "الصلاةَ" مَفْعُولٌ به، والجملةُ مَعْطوفةٌ على جملةِ "تبوآ".
قولُهُ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} الواوُ: العاطفةُ، و "بشِّر" فعلُ أمرٍ، والفاعلُ "أنتَ" يعودُ على موسى عليهِ السلامُ، ويجوزُ أن يعود على كلِّ مَنْ هو أهلٌ للبشارةِ إذا اعتبرناها عامَّةً شاملةً لكلِّ مؤمنٍ، و "المؤمنين" مفعولٌ به منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الياءُ لأنَّ من الأسماء الخمسةِ والنونُ عِوَضاً عَنِ التنوينِ في الاسمِ المفردِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ على جملَةِ "تبوآ" أَيْضاً.
وقد ثَنَّى الضميرَ في "تبوَّآ" وجمَعَ في قولِهِ "واجعلوا" و "أقيموا"، وأَفْردَ في قولِهِ: "وبشِّر"؛ لأنَّ الأوَّلَ أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومِهِما، والثالثَ لموسى فقَطْ؛ لأنَّ أَخاهُ تَبَعٌ لَهُ، ولمَّا كان فِعْلُ البِشارة شَريفاً خَصَّ بِهِ موسى لأنَّه هوَ الأصلُ.
قرأ الجمهورُ: {تبوَّآ} بالهمزةِ في "تبوَّأَ". وقرأ حَفْصٌ: "تَبَوَّيا" بِيَاءٍ خالِصَةٍ، وهيَ بَدَلٌ عَنِ الهَمْزَةِ، وهوَ تخفيفٌ غيرُ قِياسِيٍّ، إذْ قياسُ تخفيفِ مثلِ هذِهِ الهمزَةِ أَنْ تَكونَ بَينَ الهَمْزَةِ والأَلِفِ، وقدْ أَنْكَرَ هذِهِ الرِوايَةَ عَنْ حَفْصٍ جماعةٌ مِنَ القُرّاءِ، وخَصَّها بعضُهم بحالةِ الوَقْفِ، ولم يَحْكِ أبو عَمْرٍو الدانيُّ والشاطِبيُّ غيرَهُ. وبَعْضُهم يُطْلِقُ إبْدالَها عَنْهُ ياءً، وَصْلاً ووَقْفاً، وبالجملةِ فهي قِراءَةٌ ضَعيفَةٌ في قواعِدِ العَرَبِيَّةِ وفي الرِوايَةِ أيضاً.
المزاج
السبت أغسطس 08, 2015 5:32 pm