وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ
(82)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أَيْ: يُثَبِّتُهُ ويُقَوِّيهِ وهوَ عَطْفٌ على قولِهِ سُبْحانَهُ: {سَيُبْطِلُهُ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها. وإظْهارُ الاسْمِ الجَليلِ في المَقامَينِ لإلْقاءِ الرَوْعةِ وتَرْبِيَةِ المَهابَةِ. و "بكلماتِهِ" أَيْ بِأَوامِرِهِ وقضائهِ، وعَنِ الحَسَنِ أَيْ: بِوَعْدِهِ النَّصرِ لمنْ جاءَ بِهِ وهوَ سُبْحانَهُ لا يخلِفُ ذَلكَ، وعَنِ الجِبائِيِّ أي: بما يُنْزِلُهُ مُبَيِّناً لمَعاني الآياتِ التي أَتَى بها نَبِيُّهُ ـ عليِهِ السَّلام. وفُسِّرَتِ الكلماتُ بالأوامِرِ جمعُ أَمْرٍ وأُريدَ مِنْها الجِنْسُ، ويحتَمَلُ أَنْ يُرادَ بها قوْلُ "كن"، وأَنْ يُرادَ بها الأَمْرُ واحدُ الأُمورِ ويُرادَ بالكَلِماتِ الأُمورُ والشُؤونُ. وقيلَ: بكلماتِهِ التَنْزيلِيَّةِ التي أَنْزَلها في كُتُبِهِ على أَنْبيائهِ، لاشْتِمالها على الحُجَجِ والبراهين، وبِكَلِماتِهِ التَكْوينِيَّةِ وقضاياهُ السابِقَةِ في وَعْدِه. وقال ابْنُ سَلامٍ، بِكَلِماتِه بقولِهِ في سورةِ طَهَ: {لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} الآية: 68. وهي مُقْتَضى إِرادَتِهِ التَشْريعِيَّةِ التي يُوحيها إلى رُسُلِهِ، ومِنْ ثمَّ سَيَنْصُرُ موسى على فرعونَ، ويُنْقِذُ قومَهُ مِنْ عُبودِيَّتِهِ.
والكلماتُ: مُسْتَعارَةٌ لِتَعَلُّقِ قُدْرَتِه تَعالى بالإيجادِ وهوَ التَعَلُّقُ المُعَبَّرُ عَنْهُ بالتَكْوينِ الجاري عَلى وِفْقِ إرادتِهِ وعلى وِفْق عِلْمِهِ. وهيَ اسْتِعارَةٌ رَشيقَةٌ، لأنَّ ذَلكَ التَعَلُّقِ يُشْبِهُ الكَلامَ في أَنَّهُ يَنْشَأُ عَنْهُ إِدْراكُ مَعْنىً ويَدُل عَلى إِِرادَةِ المُتُكلِّمِ، وعلى عِلْمِهِ.
قولُهُ: {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} المُرادُ ب "المجرمون" كُلُّ مَنِ اتَّصَفَ بالإجْرامِ مِنَ السَحَرَةِ وغيرِهم. وقد أَراد بِ "المجرمين" فِرْعَوْنَ ومَلأَهُ فعَدَلَ عَنْ ضَميرِ الخِطابِ إلى الاسْمِ الظاهِرِ لما فِيهِ مِنْ وَصْفِهم بالإجْرامِ تعريضاً بهم. وإنَّما لم يُخاطِبْهم بِصِفَةِ الإجْرامِ بِأَنْ يَقولَ: وإنْ كَرِهْتُم "أَيَّها المجرمونَ" عُدولاً عنْ مُواجَهَتِهم بالذَمِّ، وُقوفاً عندَ أَمْرِ اللهِ تَعالى إذِ قالَ لَهُ في سُورَةِ طَهَ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} الآية: 44. فأتى بالقَضِيَّةِ في صورةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وهوَ يُريدُ أَنَّهم مِنْ جُزْئيَّاتها بِدونِ تَصْريحٍ بِذَلِكَ. وهذا بخِلافِ مَقامِ النَبيِّ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، إذْ قالَ اللهُ لَهُ في سُورةِ الزُمَرِ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} الآية: 64. لأنَّ ذلكَ كانَ بَعْدَ تَكريرِ دَعْوتِهم، وموسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَ في ابْتِداءِ الدَعْوةِ. ولأنَّ المُشركين كانوا محاوِلِينَ مِنَ النَبيِّ أَنْ يَعْبُدَ آلهتَهم، فكانَ في مَقامِ الإنْكارِ بِأَبْلَغِ الرَّدِّ عَليهم، وموسَى كانَ محاوِلاً فِرْعونُ وملأَهُ أَنْ يُؤمِنوا، فكانَ في مَقامِ التَرْغيبِ باللِّينِ.
قولُهُ تعالى: {وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بكلماتِه}: الواوُ: عاطفةٌ، و "يُحِقُّ" فعلٌ مضارعٍ، و "اللهُ" فاعلٌ مرفوعٌ، و "الحقَّ" مفعولُهُ، والجُملَةُ في محلِّ النَصْبِ بالقولِ ل "قَالَ" كونَها مَعْطوفَةً على قولِهِ {سَيُبْطِلُهُ}، و "بِكَلِمَاتِهِ" جارٌّ ومجرورٌ ومُضافٌ إليْهِ مُتَعَلِّقٌ بِ "يُحِقُّ".
قولُهُ: {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} الواوُ: عاطفةٌ عَلى محذوفٍ، تَقْديرُهُ: ويُحِقُّ اللهُ الحَقَّ لَو لمْ يَكْرَهِ المجرِمونَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ، و "لو" حَرْفُ شَرْطٍ، و"كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ" فِعْلٌ وفاعِلٌ، والجملةُ فعلُ شَرْطٍ ل "لو" وجوابُ الشرط محذوفٌ، تقديرُهُ: وَلَوْ كَرِهَ المجرمونَ يُحِقُّ اللهُ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ، وجملةُ "لو" الشَرْطِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ على تِلْكَ الجُمْلَةِ المحذوفَةِ.
قرأ العامّةُ: {بكلماتِهِ} بالجمع، وقرِِئَ: "بِكَلِمَتِهِ" على الإفراد، وقد تقدَّم تخريجُها.