قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ
(78)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} وَقَالَ لِمُوسَى: أَجِئْتَنا لِتَصْرِفَنَا عَنِ الدِّينِ الذِي وَجَدْنَا آبَاءَنَا يَتِّبِعُونَهُ، فإنَّ من أشق الأمور على النفس التخلّي عن الأفكار والعقائد وما اعتادت، فالتغييرُ في الأمورِ الماديَّةِ أَسْهَلُ بِكثيرٍ من التغيير في الأمور الفكريَّة والنفسيَّة والعقديةِ هكذا قال علماء الاجتماع، لذلك فإنَّ قومَ فرعون، اسْتَسْلَموا إلى أهواء نفسهم ولم يستعملوا عقولَهم، شأنهم في ذلك شأنُ الكثير من الأمم التي ذكرها القرآنُ الكريم، لذلك رَأَيْنا نسبة الذين استجابوا لله ورُسُله ودعوةِ الحقِّ عَبرَ التاريخ كانوا قلَّةً في البدايات لأنَّ الأمرَ يحتاج إلى بطولةٍ وخصوصيَّةٍ لا بدَّ أن تكون النفسُ قد جبلت عليها. واللَّفْتُ: الَّليُّ والصَرْفُ، لَفَتَه عن كذا أي: صَرَفَه ولواه عنه. وقال الأزهري: لَفَتَ الشيءَ وفَتَلَه: لواه، وهذا من المقلوب. ولا يدعى فيه قَلْبٌ حتى يَرْجَعَ أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعلوا جَذَبَ وجَبَذَ وحَمِدَ ومَدَح من هذا القبيل لتساويهما. ومطاوعُ لَفَتَ: التَفَتَ. وقيل: انفتل، وكأنهم استَغْنَوا بمطاوع "فَتَل" عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لَفُوت: أي: تَلْتَفِتُ لولدها عن زوجها إذا كان الولد لغيره، واللَّفِيْتَةُ: ما يَغْلُظُ من العَصِيدة.
قولُهُ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} الكبرياءُ: مَصْدَرٌ مُبالَغٌ مِنْ الكِبْرِ، والمُرادُ بِهِ هنا الملكُ، كذلِكَ قالَ مجاهِدٌ والضَحَّاكُ وأَكْثَرُ المُتَأَوِّلين، لأنَّهُ أَعْظَمُ تَكَبُّرِ الدُنيا، ومِن ذلك قولُ الشاعرِ عديِّ ابْنِ الرِّقاعِ:
سُؤْدَدًا غَيْرَ فَاحِشٍ لا يُدَا نيـ ................ ـهِ تِجِبَّارَةٌ وَلا كِبْرِياءُ
وقالَ ابْنُ الرُّقَيَّاتِ:
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفةٍ لَيْسَ فيهِ .................... جَبَروتٌ منهُ ولا كِبْرِياءُ
يعني: لَيْسَ هوَ ما عَلَيْهِ الملوكُ مِنَ التَجبُّرِ والتَعْظيمِ. وهكذا نَظَرُ مَلأُ فِرْعَونَ إلى القَضِيَّةِ، مِنْ زاوية المصالحِ والمَنافِعِ والمَكاسِبِ والامْتِيازاتِ الخاصَّةِ، ومِنَ العَسيرِ تَخَلِّي النَفْسِ عَنِ مَصالِحِها ومكاسِبِها، وهَكذا دائماً كانَ المانعُ مِنْ سُلوك طريقِ الهُدَى، الخوفُ مِنَ العَدْلِ، وإلاَّ فإنَّ طريقَ الحَقِّ والعَدْلِ الذي يُريدُهُ لَنَا الإلهُ سَبْحانَه واضحٌ جليٌّ والعقولُ البشريَّةُ مزوَّدةٌ بآلِيَّةِ فهمِه وإدْراكِهِ، لَكِنَّ هوىَ النُفوس وتمسكها بامتيازاتها يَقِفانِ دائماً في مُواجَهَةِ العَقْلِ لِيَخْضَعَ لهما، ولأنَّ الإنْسانَ يَرَى النَّاسَ من خلالِ ذاتِهِ، وينظر إليها ليفهم ما حولَه، فقد اعْتَقَدَ الإنسانُ أَنَّ الأنبياءَ والمُصلِحينَ يُريدونَ مُنافَسَتَهُ ومُغالَبَتَهُ على مَصَالحِهِ، ولهذا السببِ فقدِ اعْتَقَدَ فِرعَوْنُ ومَلَؤُهُ أَنَّ موسى وهارونَ ـ عليهِما السلامُ، إنما قَصَدا بِدَعْوَتِهِما بَزَّهم فيما هو في أيديهم مِنْ سُلْطَةٍ ونُفوذٍ لصالِحِهِما، ولذلك قالوا لهما: إنَّما تَدْعوانِ إلى ما تَدْعُوانِ إِلَيْهِ لِتَكُونَ لَكُما، العَظَمَةُ وَالرِّئَاسَةُ وَالسُّلْطَانُ، وَمَا يَتْبَعُهُمَا مِنْ كِبْرِيَاءِ المُلْكِ، وَعَظَمَتِهِ الدُّنْيَوِيَّةِ التَّابِعَةِ لَهَا، فِي أَرْضِ مِصْرَ كُلِّها. وقد سُمِّيَ المُلْكُ كِبرياءً لاتَّصافِ المُلوك بالتَكَبُّرِ في العادة، فقد بَنَوْا إِنْكارَهَم هذا على تخطِئَةِ مُوسى فيما جاءَ بِهِ، وعلى سُوءِ ظَنِّهم بِهِ وبهارونَ في الغايَةِ التي يَتَطَلَّبانها مما جاءَ بِهِ موسى. وإنَّما وجَّهوا الخطاب لمُوسى في البدايةِ بقولهم "أجئتَنا" لما تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ الذي باشَرَ الدَعْوَةَ وأَظْهَرَ المُعْجِزَةَ، ثمَّ أَشْرَكاهُ مَعَ أَخيهِ هارونَ في سُوءِ ظَنِّهم بهما في الغايةِ مِنْ عَمَلِهِما فقالوا: "وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ".
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} فَنَحْنُ لَنْ نُصَدِّقَ بِمَا جِئْتَنا بِهِ أنتَ وأَخوكَ هارونُ، ولنْ نَتَخَلَّى لكما عمَّا في أَيدينا مِنْ كبرياءِ المُلْكٍ وسطوةٍ السُلْطانِ ونَعمَةِ المُكْتَسَباتِ والامتيازاتِ، ولَنْ نَتَّبِعَكُما على ما تدعوانِ إِلَيْهِ مِنْ معتقدٍ ودينِ، ولن نَتْرُكَ ما كان عَلَيْه آباؤنا، وما ورَّثونا إيّاه مِنْ فِكرٍ ومُعْتَقَداتٍ وملكٍ، ولَنْ تَلْفِتَنَا أَنْتَ وأخوكَ عَنْ ذلك، ولَنْ تَصْرِفَنَا أَوْ تَلْوِيَنَا.
قولُهُ تَعالى: {قالوا: أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} قَالُوا: فعلٌ وفاعلٌ والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، و "أَجِئْتَنَا" الهمزة للاستفهام الإنكاري. و "جئتَنا" فعلٌ وفاعلُهُ ضميرُ "أنت" يعودُ على موسى، ومفعولُهُ الضميرُ "نا"، والجملةُ في محلِّ النَصْبِ بِ "قَالُوا"، و "لِتَلْفِتَنَا" اللامُ حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ، مُتَعَلِّقَةٌ بالمجيءِ، أَيْ: أَجِئْتَ لهذا الغَرَضِ؟، فقد أَنْكَروا عَلَيْهِ مجيئَهُ لهذِهِ العِلَّةِ. و "تَلْفِتَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَنْصوبٌ بِ "أن" مُضْمَرِةً بَعْدَ لامِ "كي"، وفاعلُهُ ضَميرٌ يَعود عَلى "مُوسَى"، و "نَا" ضَميرُ المُتَكَلِّمينَ في محَلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ، والجُمْلَةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مجرورٍ باللاّمِ تَقْديرُهُ: لِلَفْتِكَ وصَرْفِكَ إيّانَا عَنِ الحَقِّ، والجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ ب "جئتَنا"، و "عَمَّا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "تلفتنا"، و "وَجَدْنَا" فعلٌ مضٍ وفاعلُهُ، "عَلَيْهِ" هذا الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِ "وجدنا" وهو في محلِّ المَفْعولِ الثاني. و "آبَاءَنَا" مفعولٌ أَوَّلُ، أَوْ أنَّ "وَجَدَ" هُنا بمعنى أَصابَ فيِتَعَدَّى لمفعولٍ واحدٍ.
قولُهُ: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ} الواوُ حرفُ عطفٍ، "تَكُونَ" فعلٌ مُضارِعٌ ناقصٌ مَعْطوفٌ عَلَى "تَلْفِتَ"، و "لَكُمَا" جارٌّ ومجرورٌ خبرٌ ل "تَكُونَ" مُقدَّمٌ على اسمِها. و "الْكِبْرِيَاءُ" اسْمُ "تَكون" مُؤَخَّرٌ. و "فِي الأَرْضِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "الْكِبْرِيَاءُ" أو ب "تَكُونَ".
وقد جوَّزَ أبو البقاء خمْسَةَ وُجُوهٍ في هذا الجارِّ والمجرورِ: "في الأرض"، وهي، أَوَّلاً: أَنْ تَكونَ مُتَعَلِّقةً بِنَفْسِ الكِبْرياءِ، كما تقدَّم. الثاني: أَنْ يُعَلَّقَ بِنَفْسِ "تكون". الثالث: أَنْ يَتَعَلَّقَ بالاستقرارِ في "لكم"، لِوُقوعِهِ خَبراً. الرابعُ: أَنْ يَكونَ حالاً مِنَ "الكبرياء". الخامسُ: أَنْ يَكونَ حالاً مِنَ الضَميرِ في "لَكُما" لِتَحَمُّلِهِ إيَّاهُ.
قولُهُ: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بمؤمنين} الواو: عاطفةٌ، و "ما" الحجازيَّةُ، و "نَحْنُ" في محلِّ رَفْعِ اسمِها، و "لَكُمَا" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ ب "مُؤْمِنِينَ" و "بمؤمنين" الباءُ حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "مؤمنين" مجرورٌ لفظاً بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مرفوعٌ محلاًّ على أنَّه خبرُ "ما" الحجازِيَّةِ، والجُمْلَةُ في محَلِّ نَصْبٍ عطفاً على ما قبلَها كونَها مَقُولاً ل "قَالُوا".
قرَأَ الجُمهورُ: {تكون} بالتَأْنيثِ مُراعاةً لِتَأْنيثِ اللفْظِ. وقرأَ ابْنُ مَسْعودٍ، والحَسَنُ، وإسماعيلُ، وأَبو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، في رِوايةٍ عنه: "ويكون" بالياءِ مِنْ تحتِ، لأنَّهُ تَأْنيثٌ مجازِيٌّ.