وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(118)
قولُهُ ـ تعالى ذِكْرُهُ: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} عَطْفٌ على الآيةِ السابقَةِ لَها والتي تَضَمَّنَتْ تَوْبَتَهُ ـ سَبْحانَهُ وتعالى، على النبيِّ ـ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وعلى المُهاجِرينَ والأَنْصارِ الذين اتَّبعوهُ لغزوِ الروم وقتَ العُسْرَةِ وحين الشدَّةِ، وتابَ على الثلاثةِ المُرْجَئينَ من الذين تخلَّفوا عَنْ نَبِيِّهِ، وتَقاعَسُوا عَنِ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ كسلاً وحبّاً للراحة، بعدَ أَنْ كانَ قَبِلَ توبةَ عَدَدٍ مِنْهُم وأَرْجأَ هؤلاءِ الثلاثةَ، فقد قَبِلَ في هَذِهِ الآيةِ المباركةِ تَوْبَتَهم أيضاً فَضْلاً مِنْهُ وإِحْساناً، وبذلك يكونُ قد طويَ ملفُّ المتخلفين عنْ غزوةِ العسرةِ (تبوك). والثَّلاَثَةُ الذين تاب عليهم هنا هُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَمَرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيَّةَ الوَاقِفِيِّ، وَكان هَؤُلاَءِ الثَّلاَثَةُ المتخَلِّفُونَ عَنْ غَزْوَةِ تَبُوك، قد اعْتَرَفُوا لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أَنَّهُمْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ أَعْذَارٌ، طالِبين منه الصفحَ والمَغْفِرَةَ حين عادَ معربينَ عَنْ نَدَمِهم على فَعْلَتِهِمُ الشَنيعَةِ، وأنَّه لم تكنْ لهم أعذارٌ أَبَداً سِوَى أَنهم رَكَنُوا إلى المُتْعَةِ والراحَةِ والدَعَةِ، فَقَالَ لَهُمْ: ((قُومُوا حَتَّى يَقْضِي اللهُ فِي أَمْرِكُمْ))، وأَمْر الرَّسُولُ النَّاسَ أَنْ لاَ يُكَلِّمُوهُمْ، فَفَعَلُوا.
أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنِ الحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: لَمَّا غَزَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَبُوكَ تَخَلَّفَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَرَبِيعُ بْنُ مُرَارَةَ، أَوْ مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، قَالَ: "أَمَّا أَحَدُهُمْ فَكَانَ لَهُ حَائِطٌ حِينَ زَهَا قَدْ فَشَتْ فِيهِ الْحُمْرَةُ وَالصُّفْرَةُ، قَالَ: قَدْ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَوْ أَقَمْتُ عَامِي هَذَا فِي هَذَا الْحَائِطِ فَأَصَبْتُ مِنْهُ فَلَمَّا، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ، دَخَلَ حَائِطَهُ، فَقَالَ: مَا خَلَّفَنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا اسْتَبَقَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ ضَنٌّ بِكَ أَيُّهَا الْحَائِطُ، اللَّهُمَّ إِنِّي أُشْهِدُكَ أَنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهِ فِي سَبِيلِكَ. وَأَمَّا الآخَرُ: فَكَانَ قَدْ تَفَرَّقَ عَنْهُ مِنْ أَهْلِهِ نَاسٌ، وَاجْتَمَعُوا لَهُ فَقَالَ: قَدْ غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَزَوْتُ، فَلَوْ أَنِّي أَقَمْتُ الْعَامَ فِي أَهْلِي. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ، قَالَ: مَا خَلَّفَنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا اسْتَبَقَ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلاَّ ضَنٌّ بِكُمْ أَيُّهَا الأَهْلُ، اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ أَلاَّ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، وَمَالِي، حَتَّى أَعْلَمُ مَا تَقْضِي فِيَّ. وَأَمَّا الآخَرُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ لَكَ عَلَيَّ أَنْ تَقْطَعَ نَفْسِي أَوْ أَلْحَقَ بِالْقَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ" إِلَى قَوْلِهِ: "وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتِ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ" الآيَةَ، قَالَ الْحَسَنُ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! وَاللهِ مَا أَكَلُوا مَالاً حَرَامًا، وَلا أَصَابُوا دَمًا حَرَامًا، وَلا أَفْسَدُوا فِي الأَرْضِ، غَيْرَ أَنَّهُمْ قَدْ أَبْطَؤوا فِي تِلْكَ الْغَزَاةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ مِنْهُمْ مَا تَسْمَعُونَ.
قولُهُ: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} حَتَّى ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ عَلَى رَحْبِهَا وَسَعَتِهَا، بِسَبَبِ إعْراضِ النّاسِ عَنْهم، ومُقاطَعَتِهِمْ لهم، وَضَاقَتْ أَنْفُسُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِمَا كَانُوا يَشْعُرُونَ بِهِ مِنْ ضِيقِ صُدُورِهِمْ بِامْتِلاَئِهَا هَمّاً وَغَمّاً، وهو كِنايَة عَنْ شِدَّةِ تَحَيُّرِهم، وكَثرةِ همِّهم، وبالغِ حُزْنهم، ومَدى اسْتِسْلامِهم لِحُكْمِ اللهِ فيهم. وَقد لَبِثُوا فِي ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَتَابُوا أَحْسَنَ التَّوْبَةِ، وَفَزِعُوا أَحْسَنَ الْفَزَعِ، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوْثِقَ نَفْسَهُ إِلَى سَارِيَةٍ، فَقَالَ: وَاللهِ لا أَطْلُقُهَا حَتَّى يُطْلِقُنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا الآخَرُ: فَعَمَدَ إِلَى حَائِطِهِ الَّذِي تَخَلَّفَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُونَعٌ فَجَعَلَهُ صَدَقَةً في سبيلِ اللهِ، وَأَمَّا الآخَرُ: فَرَكَتَ الْمَفَاوِزَ وَالْوَقْعَ حَتَّى لَحِقَ بنَبِيِّ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرِجْلاهُ تَسِيلانِ دَمًا. وحَسُنَتْ تَوبتُهم، فقَبِلَها اللهُ منهم، رضي اللهُ تعالى عنهم، فأينَ نحن اليومَ من هؤلاء الرجالِ الأبطالِ، تداسُ كرامتنا، وتنتهكُ أَعراضُنا، وتُدَنَّسُ مقدَّساتنا، مَسْرى نَبِيِّنا مغتصَبٌ، وكرامتُنا مهدورةٌ، ولا يُحَرِكُ ذَلِكَ كُلُّهُ فينا نَخْوةً ولا شَهامَةً وليسَ مِنَّا غَضبة للهِ ورسولِهِ، ولذلك فقد سلط اللهُ علينا أَشرارَ الدنيا كلَّهم من صليبيين ويهود ومجوس وخوارج وروافضَ فعاثوا فينا قتلاً وسفكاً وخراباً ودماراً، فلا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله العليِّ العظيم.
قولُهُ: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلا إِلَيْهِ} الظَنُّ هُنا بمعنى العِلْمِ كَمَا هُوَ في قَوْلِ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَةَ:
فَقُلتُ لهم ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ .............. سَرَاتُهمُ بالفارِسي المُسَرَّدِ
وكما هو في قولِ عُميرَةَ بْنِ طارِقٍ:
بَأَنْ تَغْتَزوا قومي وأَقْعُدَ فيكم .......... وأَجْعَلَ مِنّي الظَنَّ غَيْباً مُرَجَّما
وكقولِ أَبي دُؤادٍ:
رُبَّ همٍّ فَرَّجْتُه بعَزيمٍ ........................ وغُيوبٍ كَشَّفْتُها بظُنونِ
فاستُعْمِلَ الظنَّ استعمالَ اليقينِ مجازاً ، وقيل: هو على بابه.
قولُه: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} ثُمَّ بعدَ هذا التَأْديبِ الشَديدِ لهؤلاءِ الثَلاثةِ التائبين مِنَ المُتَخَلِّفينَ، نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وَفِيهَا التَّوْبَةُ عَلَيهِمْ. وَذلك عَطْفاً مِنْهُ عَلَيْهِمْ ولُطفاً بهم، وَأَنْزَلَ قَبُولَ تَوْبَتِهِمْ لِيَتُوبُوا وَيَرْجِعُوا إِلَيْهِ، بَعْدَ أَنْ قَصَّرُوا فِي اتِّبَاعِ رَسُولِهِ إِلَى الغَزَاةِ، فَكَانَ عَاقِبَةُ صِدْقِهِمْ خَيْراً لَهُمْ، وَتَوْبَةً عَلَيْهِمْ، لِيَتُوبوا إِلَيْهِ تَوْبَةً نَصوحاً، لا تَكاسُلَ مَعَها بَعْدَ ذَلِكَ ولا تخاذُلَ عَنْ طاعَةِ اللهِ ورَسُولِهِ.
أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قالَ: دَعا اللهُ إلى تَوْبَتِهِ مَنْ قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلى} سورة النازعات، الآية: 24. وقال: {ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيري} سورةُ القَصَصِ: 38. ومَنْ آيَسَ العِبادَ مِنَ التَوْبَةِ بَعْدَ هَؤلاءِ فَقَدْ جَحَدَ كِتابَ اللهِ، ولكنْ لا يَقْدِرُ العبدُ أَنْ يَتوبَ حَتى يَتُوبَ اللهُ، وهُوَ قَوْلُهُ: {ثمَّ تابَ عَلَيْهم لِيَتُوبوا} فَبِدْءُ التَوْبَةِ مِنَ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} إنَّ اللهَ تعالى هُوَ الكَثيرُ القَبولِ لِتَوْبِةِ التائبينَ، أفادَ هذا المعنى قولُهُ "التوَّابُ" الذي ضُوعفَ من "تائبٍ" للمبالغةِ، وهوَ سبحانه الواسِعُ الرَحمةِ بِعبادِهِ المحسنين.
أخرجَ عَبْدُ الرَزَّاقِ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأحمدُ، والبُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وابنْ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وابْنُ حَبَّانٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَريقِ الزُهْرِيِّ، قال: أَخْبرني عَبْدُ الرَّحمنِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مالِكٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ ابْنَ كَعْبِ بْنِ مالكٍ ـ وكانَ قائدَ كَعْبٍ مِنْ بَنيهِ حِينَ عَمِيَ، قالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ إِلاَّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، غَيْرَ أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْهُ غَزْوَةَ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ حِينَ جَمَعَ اللهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ، وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. فَكَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ تِلْكَ الْغَزْوَةِ، وَاللهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهَا رَاحِلَتَانِ قَطُّ حَتَّى جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكِ الْغَزْوَةِ فَغَزَاهَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حُرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا، وَاسْتَقْبَلَ عَدُوًّا كَثِيرًا، وَمَفَازًا، فَجَلا لِلْمُسْلِمِينَ أَمَرَهُمْ لِيَتَأَهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ، فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِ، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَثِيرٌ، وَغَزَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلالُ، وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُ فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: إِنِّي قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أَرَدْتُهُ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى تَشَمَّرَ بِالنَّاسِ الْجِدُّ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غَادِيًا، وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جِهَازِي شَيْئًا، فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا، وَتَفَاوَتَ الْغَزْوُ، وَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ، فَأُدْرِكَهُمْ ـ وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي، فَطَفِقْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ أَحْزنَنِي أَنِّي لا أَرَى إِلاَّ رَجُلاً مَغْمُوصًا عَلَيْهِ النِّفَاقُ، أَوْ رَجُلاً مِمَّنْ عَذَرَ اللهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ، وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى بِتَبُوكَ، فَقَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي وَسَطِ الْقَوْمِ: مَا فَعَلَ كَعْبُ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، حَبَسَهُ بُرْدَاهُ، وَنَظَرُهُ فِي عِطْفَيْهِ، فَقَالَ بِهِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللهِ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا عَلِمْنَا إِلاَّ خَيْرًا، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ حَضَرَنِي بَثِّي وَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ، وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخْطَتِهِ غَدًا؟ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي لُبٍّ مِنْ أَهْلِي، فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا، زَاحَ الْبَاطِلُ عَنِّي وَعَرَفْتُ أَلاَّ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ فِيهِ كَذِبٌ، فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ، وَأَصْبَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ، فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنٍ، ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلَّفُونَ، فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَيَحْلِفُونَ لَهُ وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً، فَقَبِلَ عَلانِيَتَهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَى اللهِ، حَتَّى جِئْتُ، فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ، فَجِئْتُ أَمْشِي، حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: ((مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرًا))؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، إِنِّي، وَاللهِ، لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ الْيَوْمَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّيَ سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، لَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً، وَلَكِنْ، وَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللهِ، لا وَاللهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى، وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، قُمْ حَتَّى يَقْضِي اللهُ فِيكَ)). وسَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتَّبَعُونِي، فَقَالُوا: وَاللهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ قَطُّ قَبْلَ هَذَا، وَلَقَدْ عَجَزْتَ أَنْ لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونِ، فَقَدْ كَانَ كَافِيكَ ذَنْبَكَ اسْتِغْفَارَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكَ، قَالَ كَعْبٌ: فَوَ اللهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي، ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِيَ أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلانِ قَالا: مِثْلَ مَا قُلْتَ، وَقِيلَ لَهُمَا: مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ، فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَامِرِيُّ، وهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ الْوَاقِفِيُّ، فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، فِيهِمَا أُسْوَةٌ، فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي، وَنَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، النَّاسَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنَ مَنْ تَخَلَّفَ عَلَيْهِ، فَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ، وَاعْتَزَلُونَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِيَ الأَرْضُ، فَمَا هِيَ الَّتِي كُنْتُ أَعْرِفُ، فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، فَأَمَّا صَاحِبَايَ: فَاشْتَكَيَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ، وَأَمَّا أَنَا: فَكُنْتُ أَجْلَدَ الْقَوْمِ، وَأَشَبَّهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ لا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ، وَآتِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ فَأَسْلَمُ عَلَيْهِ بَعْدَ الصَّلاةِ، فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِ السَّلامِ عَلَيَّ أَمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي قَرِيبًا مِنْهُ فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، وَإِذَا الْتَفَتُ إِلَى نَحْوِهِ أَعْرَضَ عَنِّي. حَتَّى إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيَّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ يَوْمًا حَتَّى تَصَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطٍ لأَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّي، وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَوَ اللَّهِ مَا رَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللهِ، هَلْ تَعْلَمُنِي أَحَبُّ للهِ وَرَسُولِهِ؟ قَالَ: فَسَكَتَ، فَعُدْتُ، فَنَشَدْتُهُ قَالَ: فَسَكَتَ، قَالَ: فَعُدْتُ فَنَشَدْتُهُ، فَقَالَ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، فَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَصَوَّرْتُ الْجِدَارَ. قَالَ كَعْبٌ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا أَنَا بِنَبْطِيٍّ مِنْ نَبْطِ الشَّامِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ، يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ، حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ، وَكَتَبَ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ، أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللهُ بِدَارِ هَوَانٍ، وَلا مَنْقَصَةٍ، اِلْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ حِينَ قَرَأْتُهُ: وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ فَتَيَمَّمْتُ التَّنُّورَ فَسَجَّرْتُهُ بِهَا. حَتَّى إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ لَيْلَةً مِنَ الْخَمْسِينَ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْتِينِي، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْمُرُكَ بِأَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أُطَلِّقُهَا، أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لا، اعْتَزِلْهَا وَلا تَقْرَبْهَا، وَأَرْسَلَ رَسُولاً إِلَى صَاحِبِيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِي اللهُ فِي هَذَا الأَمْرِ، وَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ هِلالَ بْنَ أُمَيَّةَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدِمَهُ؟ قَالَ: لا وَلَكِنْ لا يَقْرَبْكِ، قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللهِ مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلاَّ شَيْءٌ، وَاللهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ أَمْرُهُ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِهِ هَذَا، قَالَ كَعْبٌ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللهِ فِي امْرَأَتِكَ، فَقَدْ أَذِنَ لامْرَأَةِ هِلالِ بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: فَقُلْتُ: وَاللهِ لا أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ لِي رَسُولُ اللهِ إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ. فَلَبِثْتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ، حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نَهَى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ كَلامِنَا، ثُمَّ صَلَّيْتُ صَلاةَ صُبْحِ خَمْسِينَ لَيْلَةً عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللهُ مِنَّا، قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، وَضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ: أَبْشِرْ. فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ، وَأَذَنَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِتَوْبَةِ اللهِ عَلَيْنَا، حِينَ صَلَّى الْفَجْرَ، فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيَّ مُبَشِّرُونَ، وَرَكَّضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فَرَسًا، وَسَعَى سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ، فَأَوْفَى عَلَى الْجَبَلِ، فَكَانَ الصَّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ، فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشِّرُنِي نَزَعْتُ ثَوْبَيَّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيَّاهُ بِشَارَةً، وَاللهِ مَا أَمْلِكُ يَوْمَئِذٍ غَيْرَهُمَا، وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَلَقَّانِي النَّاسُ فَوْجًا فَوْجًا، يُهَنُّونِي يَقُولُونَ: لَنُهَنِّكَ تَوْبَةَ اللهِ عَلَيْكَ، حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَإِذَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسٌ حَوْلَهُ النَاسُ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ يُهَرْوِلُ، حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّانِي، وَاللهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ فَكَانَ كَعْبُ لا يَنْسَاهَا، قَالَ: فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ ـ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السُّرُورِ: ((أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ)). فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِ اللهِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ وكان ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، إِذَا سُرَّ اسْتَنَارَا وَجْهُهُ حَتَّى كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنخْلعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمْسِكْ سَهْمي الذي بخيبرَ)). فَقُلت: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّ اللهَ، إِنَّمَا أَنْجَانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَلاَّ أُحَدِّثُ إِلاَّ صِدْقًا مَا بَقِيتُ. فَوَ اللهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاهُ اللهُ فِي صَدِقِ الْحَدِيثِ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِمَّا أَبْلانِي، وَاللهِ مَا تَعَمَّدْتُ مِنْ كِذْبَةٍ مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلَى يَوْمِي هَذَا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَعْصِمَنِي اللهُ فِيمَا بَقِيَ. قَالَ كَعْبٌ: وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ: "لَقَدْ تَابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ". قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَوَ اللهِ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ بَعْدَ إِذْ هَدَانِي لِلإِسْلامِ أَعْظَمُ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَلاَّ أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلَكُ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَبُوهُ، فَإِنَّ اللهَ قَالَ لِلَّذِينَ كَذَبُوهُ حِينَ أَنْزَلَ وَحَيَّهُ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسْمُهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا تَخَلَّفْنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ حَلَفُوا لَهُ فَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى قَضَى اللهُ تَعَالَى فِيهِ، فَلِذَلِكَ قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا" وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ مِمَّا خَلَّفَنَا لِتَخَلُّفِنَا عَنِ الْغَزْوِ، إِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمَرَنَا عَمَّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ، فَقَبِلَ مِنْهُمْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ تعالى: {وَعَلَى الثلاثة} يجوزُ أَنْ يُنْسَقَ على "النبيّ"، أيْ: تابَ على النَبيِّ وعلى الثلاثة، ويجوزُ أَنْ يُنسَقَ على الضميرِ في "عليهم"، أيْ: ثم تابَ عليهم وعلى الثلاثةِ، ولِذلِكَ كُرِّرَ حَرْفُ الجَرِّ.
قولُهُ: {أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إلاَّ إِلَيْهِ} أَنْ: هي المخفَّفَةُ سادَّةٌ مَسَدَّ المَفْعولين، و "لا" وما في حيِّزِها الخبرُ، و "مِنَ الله" خبرُها. ولا يَجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بِ "مَلْجَأ"، ويَكونَ "إلا إليه" الخبرَ لأنَّهُ كانَ يَلْزَمُ إعْرابَهُ، لأنَّهُ يَكونُ مُطَوَّلاً. وقالَ بعضُهم: يجوزُ تَشْبيهُ الاسْمِ المُطَوَّلِ بالمُضافِ فيُنْتَزَعُ ما فيهِ مِنْ تَنْوينٍ، ونُوِّنَ في قول ابْنِ الدُمينة:
أَراني ـ ولا كُفرانَ لله، أَيَّةً ............ لِنَفْسي، لقد طالَبْتُ غيرَ مَنِيْلِ
فقدْ نوَّن (أيَّةً) مع بُعده، يقولُ الشاعرُ: أَوَيْتُ لِنَفْسي أَيَّةً، أيْ: رَحِمْتُها وَرَقَّقْتُ لَها، وهُوَ اعْتِرَاضٌ.
ومِنْ ذلكَ قولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((لا صَمْتَ يَومٌ إلى اللَّيْلِ)). بِرَفْعِ "يومٌ" منوَّناً عَلَى أَنَّهُ مَرْفوعٌ بالمَصْدَرِ عَلى تَقْديرِهِ: بِ "أنْ" وفعلِ ما لمْ يُسَمَّ فاعلُهُ. ومعنى "لا صَمْتَ": لا فَضِيلَةَ، ولا هو مشروعٌ عِنْدَنا. فإنَّهُ كانَ مِنْ نُسْكِ أَهْلِ الجاهِلِيَّةِ الصُماتُ حين يَعْتَكِفُ الواحِدُ مِنْهُمُ اليومَ واللَّيْلَةَ صامِتاً لا يَنْطِقُ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ، وأُمِروا بالذِكْرِ والنُطْقِ. شَرْحُ السُنَّةِ، للإمامِ البَغَوِيِّ: (9/201). والمطالِبِ العالِيَة للحافظِ ابْنِ حَجَرٍ العَسْقلاني: (3/349) ورواه أَبْو قُرَّةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. و "إلاَّ إِلَيْهِ" اسْتِثْناءٌ مِنْ ذَلِكَ العامِّ المحذوفِ، أَيْ: لا مَلْجَأَ إلى أَحَدٍ إلاَّ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ.
قرأَ الجمهورُ: {خُلِّفوا}، مَبْنِيّاً للمَفعولِ مُشَدَّدَ اللامِ مِنْ خَلَّفَهُ يُخَلِّفُه. وقَرَأَ أَبو مالِكٍ كَذلِكَ إلاَّ أَنَّهُ خَفَّفَ اللامَ. وقرأَ عِكرِمَةُ وزَرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، وعُمَرُ بْنُ عُبَيْدٍ، وعِكْرِمَةُ بْنُ هارونَ المَخْزوميُّ، ومُعاذٌ القارئ: "خَلَفوا"، مَبْنِيّاً للفاعلِ مُخَفَّفاً، مِنْ خَلَفَه، والمَعنى: الذين خَلَفُوا، أيْ: فَسَدُوا، مِنْ خُلُوفِ فَمِ الصائمِ. ويجوزُ أَنْ يَكونَ المعنى: أَنَّهم خَلَفوا الغازين في المدينةِ. وقرأَ أَبو العاليةَ وأَبو الجَوزاءِ كذلِكَ إلاَّ أَنَّهم شَدَّدوا اللامَ. وقرأَ أَبو رَزينٍ، وعَليُّ بْنُ الحُسَينِ، وابْناهُ: زَيْدٌ ومحمَّدُ الباقِرِ، وابْنُهُ جَعْفَرُ الصادقِ ـ رضي اللهُ عنهم: "خالفوا"، بِأَلِفٍ، أيْ: لم يُوافِقوا الغازينَ في الخُروجِ. قالَ الباقِرُ: ولَوْ خُلِّفوا لمْ يَكُنْ لهم.