وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم
(115)
قولُهُ ـ تعالى جدُّه: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ} وَمَا كَانَ مِنْ سُنَنِ اللهِ فِي خَلْقِهِ، وَلاَ مِنْ رَحْمَتِهِ بهم ولُطفِهِ، وَلا مِنْ حِكْمَتِهِ وحُسْنِ تَدْبيرِهِ، أَنْ يَحْكُمَ على قَوْمٍ بِالضَّلاَلِ، ويَذُمَّهم، وَيَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامَهُ مِنْ عَذابٍ وعِقَابَ يعمُّهم، بَعْدَ أَنْ هَدَاهُمْ إِلَى الإِيمَانِ والإسْلامِ والبرَّ أَلهَمَهم، بِمُجرَّدِ اسْتِغْفارِهِم لآبائهم المُشْرِكين وأَقربائهم والدُعاءِ لهم، وقدَ كانَ هذا مَوْضوعَ الآيَتَينِ السابِقَتَينِ. ولا بقَولٍ يَصْدُرُ عَنْهُمْ بغيرِ قَصْدٍ مِنْهم، ولا تعمُّد عِصيانِ مولاهم، وإغضاب ربهم، أَوْ بعَمَلٍ يَعملونَهُ بِاجْتِهَادٍ خَاطِئٍ منهم.
قولُه: {حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} مِنَ الأَقوالِ والأفعالِ بياناً واضحاً، لا لَبْسَ فيه، ويَعِدَهم ويُوعِدَهم، ليكونوا على بيِّنةٍ مِنْ أَمْرِهم.
وَقالَ شيخُ والمَفَسِّرينَ ابْنُ جَريرٍ الطبريُّ فِي تَفْسِيرِ هذِهِ الآيَةِ: (وَمَا كَانَ اللهُ لِيَقْضِيَ عَلَيكُمْ فِي اسْتِغْفَارِكُمْ لِمَوْتَاكُمُ المُشْرِكِينَ بِالضَّلاَلِ، بَعْدَ إِذْ رَزَقَكُمُ الهِدَايَةَ، وَوَفَّقَكُمْ إِلى الإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ، حَتَّى يَتَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فَتَتْرُكُوا، فَأَمَّا قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَكُمْ كَرَاهَةَ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ لاَ يَحْكُمُ عَلَيْكُمْ بِالضَّلاَلِ، وَاللهُ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ.
وقال رسولُ الله ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم: ((إني لأَخافُ على أُمَّتي مِنْ بَعْدي مِنْ أَعمالٍ ثلاثةٍ))، قالوا: وما هي يا رسول الله؟. قال: ((أخافُ عَلَيْهم مِنْ زَلَّةِ العالِمِ، وَمِنْ حَاكِمٍ جائرٍ، ومِنْ هَوَى مُتَّبَعٍ)). رواهُ الطَبرانيُّ في المُعْجَمِ الكَبيرِ، والبَزّّارُ في مُسْنَدِهِ، والبَيْهَقِيُّ، عَنْ كَثيرِ بْنِ عبدِ اللهِ ابْنِ عَمْرِو بن عوفٍ المَزَنيِّ عَن أَبيهِ عَنْ جَدِّهِ.
وجاء في سَبَبِ نُزول هذه الآيةِ: أَنَّ قوماً مِنَ الأَعْرابِ أَسْلَموا وعادوا إلى بِلادِهم، فعَمِلوا بما شاهَدوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَعْمَلُهُ مِنَ الصَلاةِ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وصِيامِ الأَيامِ البِيضِ. ثمَّ قَدِموا بَعدَ ذَلك على رسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، فوَجَدوهُ يُصلّي إلى الكَعْبَةِ ويَصومُ شَهْرَ رَمَضان, فقالوا: يا رَسُولَ اللهِ: أَضَلَّنا اللهُ بعدَكَ بالصَلاةِ. إنَّكَ عَلى أَمْرٍ وإنَّا على غَيرِهِ فأَنْزَلَ اللهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ.
قولُهُ: { إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} تعليلٌ لما سَبَقَ، أيْ: أَنَّهُ تَعالى عَليمٌ بجَميعِ الأَشْياءِ التي مِنْ جُمْلَتِها حاجَتُهم إلى بَيانِ قُبْحِ ما لا يَسْتَقِلُّ العَقْلُ بمَعْرِفَتِهِ، ولذلك فقد بيَّنَ لهمْ هنا ما بيَّنَ.
قولُهُ تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا} لِيُضِلَّ: اللامُ لامُ الجُحود، و "يُضلَّ" فعلٌ مضارعٌ مَنْصوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ، والمَصْدَرُ المنسبك من "أن" المقدَّرة والفعل، في محلِّ جَرٍّ بلامِ الجحودِ، مُتَعَلِّقٌ بخبرْ "كان" المُقَدَّرِ بِ: "مريدا".
وقولُهُ: {إذْ هداهم} إذ: اسْمٌ ظرفيٌّ مَبْنيٌّ على السُكونِ في محلِّ جرٍّ بإضافة "بعد" إليه.