أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
(104)
قولُهُ ـ تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} يَحُثُّ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ عَلَى التَّصَدُّقِ، وَعَلَى التَّوْبَةِ، وَهُمَا الوَسِيلَتَانِ الَّلتَانِ يَحُطُّ بِهِمَا الذُّنُوبَ عَنْ عِبَادِهِ،
قولُهُ: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} معناهُ يَأْمُرُ بها ويَشْرَعُها، كَما يُقالُ: أَخَذَ السُلْطانُ مِنَ النَّاسِ العهدَ لابْنِهِ مِنْ بَعْدِهِ مَثَلاً، فإنَّ المعنى: أنَّه حمَلَهم عَلى مبايعَتِهِ. أَوْ أنَّ المعنى: يَقْبَلُ الصدَقاتِ من عباده، فقد ورَدَتْ أَحاديثُ كثيرة في أَخْذِ اللهِ صَدَقَةَ عَبيدِهِ، مِنْها قولُهُ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، الذي رَواهُ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَبي قَتادَةَ المُحارِبيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: قَالَ: مَا مِن رَجُل يَتَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ إِلاَّ وَقَعَتْ فِي يَدِ اللهِ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ فِي يَدِ السَّائِلِ, وَقَرَأَ: "أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ". إتحافُ الخِيرَةِ المَهَرَة: (3/34) ورَواهُ مُسَدَّد مَوقوفًا. وأَخْرَجهُ عبدُ الرَزَّاقِ، والحَكيمُ التِرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصولِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والطَبرانيُّ.
وأخرج عبدُ الرزّاقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَصَدَّقَ بِتَمْرَةٍ مِنْ الطَّيِّبِ، وَلا يَقْبَلُ اللهُ إِلاَّ الطَّيِّبَ، وَقَعَتْ فِي يَدِ اللهِ فَيُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَعُودَ فِي يَدِهِ مِثْلَ الْجَبَلِ)). ومُسْنَدِ أَحمد: (22/100).
وأخرجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رضي اللهُ عنه، قال: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما مِنْ عَبْدٍ يَتَصَدَّقُ بِصَدَقَةٍ طَيِّبَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولا يَقْبَلُ اللهُ إلاَّ طَيِّباً، ولا يَصْعَدُ إلى السَماءِ إلاَّ طَيِّبٌ، فيَضَعُها في حَقِّ، إلاَّ كانَتْ كأَنَّما يَضَعُها في يَدِ الرَحمنِ، فيُرْبِيها لَهُ، كَما يُرْبي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ، حتَّى أَنَّ اللُّقْمَةَ، أَوِ التَمْرَةَ لَتَأْتي يَوْمَ القيامَةِ مِثْلَ الجَبَلِ العَظيمِ، وتَصْديقُ ذَلِكَ في كِتابِ اللهِ العَظِيم: "أَلم يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ ويَأْخُذُ الصَدَقاتِ")). ونحوُ هذا مِنَ الأَحاديثِ الّتي تُعَبِّرُ عَنْ قَبولِ صَدَقَةِ العَبْدِ والتَحَفِّي بها.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} يُخْبِرُ اللهُ أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ الذِي يَقْبَلُ تَوْبَةَ عِبَادِهِ، وَأَنَّ مَنْ تَابَ إَلَى اللهِ تَابَ اللهُ عَلَيْهِ، وهو تَأْكيدٌ لِما عُطِفَ عَلَيْهِ، وزيادةُ تَقْريرٍ لِما يُقَرِّرُهُ، مَعَ زيادَةِ مَعنى لَيسَ في الأوّلِ، أيْ: أَلمْ يَعْلَموا أَنَّهُ المُخْتَصُّ المُسْتَأْثرُ بِبُلوغِ الغايَةِ القُصْوى مِنْ قَبولِ التَوْبَةِ والرَحمةِ، وأَنَّ ذلكَ مِنْهُ سُبْحانَهُ، سُنةٌ ماضيةٌ، وشَأْنٌ لَهُ دائمٌ.
أخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ في سَبَبِ نُزولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رضي اللهُ عنهُ قالَ: قالَ الآخَرونَ: هؤلاءِ كانوا مَعَنا بالأَمْسِ، لا يُكَلَّمونَ ولا يُجالَسُونَ، فما لَهُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ... " الآيةَ.
قولُهُ تَعالى: {ألم يعلموا} المرادُ بالضَميرُ في "يَعْلَموا" هُمُ الذين لم يَتُوبوا مِنَ المُتَخَلِّفين، وذَلِكَ أَنَّهم لمّا تِيبَ على بَعْضِهم قالَ الآخرونَ: ما هَذِهِ الخاصَّةُ التي خُصَّ بها هَؤلاءِ؟ فنَزَلَتْ. ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ الضَميرُ في "يعلموا" يُرادُ بِهِ الذينَ تابُوا وَرَبَطُوا أَنْفُسَهم.
قولُه: {هُوَ يَقْبَلُ} هو: مُبْتَدأٌ، و "يَقْبَلُ" خَبَرُهُ، والجُمْلةُ خَبَرُ "أَنَّ"، و "أنَّ" وما في حَيِّزِها سادَّةٌ مَسَدَّ المَفْعولَينِ، أَوْ مَسَدَّ الأَوَّلِ. ولا يَجوزُ أَنْ يَكونَ "هو" فَصْلاً لأَنَّ ما بَعْدَهُ لا يُوهِمُ الوَصْفِيَّةَ، وقد تحرَّرَ مِنْ ذَلِكَ فيما تَقَدَّمَ.
و "هُوُ" ضميرُ فصلٍ لتَأْكيدِ انْفِرادِ اللهِ ـ سَبْحانَهَ وتَعالى، بهذِهِ الأُمورِ، وتحقيقٌ لَهُ.
قولُهُ: {عَنْ عِبَادِهِ} مُتَعَلِّقٌ بِ "يَقْبَل"، وقيل إنَّما تَعَدَّى بِ "عن" لأنَّ مَعْنى "مِنْ" ومعنى "عَنْ" مُتَقارِبانِ. فكثيراً ما يتعدّى في مَوْضِعٍ واحدٍ بهما معاً في نحوِ قولِكَ: لا صَدَقةَ إلاَّ عَنْ غَنيٍّ، ولا صدقة إلاَّ مِنْ غَنيٍّ. وتقول: فعلَ ذلكَ فُلانٌ مِنْ أَشَرِهِ وبَطَرِهِ، وعَنْ أَشَرِهِ وبَطَرِهِ. وقِيلَ: لَفْظَةُ "عن" تُشْعِرُ ببُعْدٍ مّا، فقولُك: جَلَسَ عَنْ يميني، أَيْ مَعَ بعضٍ مِنَ البُعْدِ قليلاً كان أَوْ كَثيراً لكن من المؤكَّدِ أنَّ ثمّةَ مسافة بينكما لكنها ليست بالبعيدةِ. والظاهِرُ أَنَّ "عَنْ" هُنا للمُجاوَزَةِ، أي: هي على بابِها. والمعنى: يَتَجاوَزُ عَنْ عبادِهِ بِقَبُولِ تَوبَتِهم، فإذا قُلْتَ: أَخَذْتُ العِلْمَ عَنْ فلانٍ، فمَعْناهُ المجاوَزَةُ، وإذا قلتَ: مِنْ فلانٍ، فمَعْناهُ ابْتِداءُ الغايَةِ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {أَلم يَعْلَموا} بِضَميرِ الغائبِ، وقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ أَبي الحَسَنِ بخِلافٍ عَنْهُ: "ألم تَعْلَمُوا" على مَعنى قُلْ لهم يا محمَّدُ "ألم تعلموا"، وكذلَكَ هِي في مُصْحَفِ أُبيِّ بْنِ كَعْبٍ، بالتاءِ مِنْ فَوْقِ.
وهنا لا بدَّ من أنْ نُكرِّرَ المُلاحَظةَ بِأَنّهُ مِنَ المقْطوعِ بِهِ أَنَّهُ لم يَكُنْ في حِينِه تَشْكيلٌ للمُصْحَفِ ولا ضَبْطٌ، ولذلِكَ فَقولُهُم: (في مُصْحَفِ أُبيٍّ، أو غيرِهِ) عَنْدَما يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بالنَقْطِ أوِ الشَكْلِ إنّما هو محْمولٌ عَلى أَنّها قِراءَةٌ مَأْخوذَةٌ عَنْهُ مُشافَهَةً.