يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ
(96)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ" {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} وَهُمْ إِنَّمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَتُديموا عَليهم ما كُنْتمْ تَفعلونَ مِنَ السَتْرِ عليهم، والرِفْقِ بهم، وإشراكِهم في الغَنائِمِ، وغير ذلك. ومَنْ كانَ مَسْخوطَ الحَقِّ لا يَنْفَعُهُ أَنْ يَكونَ مَرْضِيَّ الخَلْقِ. وسبقَ أنْ بَيَّنَ في الآية: 62. مِنْ هذِهِ السورة المباركة أَنَّهم يُريدونَ بِأيَمانِهم إرْضاءَ المُؤمنينَ، وإنَّ اللهَ ورسولَهُ أَحَقُّ بالإرْضاءِ، فقالَ: {يَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ}
قولُهُ: {فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} وَلَكِنْ إِذَا خُدِعْتُمْ أَنْتُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَرَضِيتُمْ أَنْتُمْ عَنْهُمْ، فَهذا الرِّضَا لاَ يَنْفَعُهُمْ فِي شَيءٍ، لأنَّ اللهَ لاَ يَرْضَى عَنِ القَوْمِ الفَاسِقِينَ، الخَارِجِينَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَطَاعَةِ رَسُولِهِ. فإنَّ رِضاكُمْ لا يَسْتَلْزِمُ رِضَى اللهِ، ورِضاكُم وحْدَكم لا يَنْفَعُهم إذا كانوا في سَخَطِ اللهِ وبِصَدَدِ عِقابِهِ. وإذا أَمْكَنَهم أَنْ يُلَبِّسوا عَلَيْكُمْ فلا يُمْكِنُهم أَنْ يُلَبِّسوا عَلى اللهِ؛ فإنَّهُ سبحانَه، يَهْتِكُ سِتْرَهُم ويَكْشِفُ زيفَهم، ويُنْزِلُ الهَوانَ بهم. والمقصودُ مِنَ الآيَةِ: النَهْيُ عَنِ الرِضا عَنِ المنافقين، والاغْتِرارِ بمَعاذيرِهم، بَعْدَما أَمَرَ بالإِعْراضِ عَنْهُم، وعَدَمِ الالْتِفاتِ نَحْوَهم، والسماعِ لهم. وهذا تحذيرٌ للمُسْلِمينَ مِنَ الرِضَى عَنِ المُنافِقينَ بِطَريقِ الكِنايَةِ إذْ قَدْ عَلِمَ المُسلمون أَنَّ ما لا يُرْضِي اللهَ لا يَكونُ لهم أَنْ يَرْضَوْا بِهِ.
وقال: "عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ" وكانَ كافياً أن يقول: "عنهم" فوَضَعَ الفاسقينَ مَوْضِعَ ضَميرِهِم لِيُسجِّلَ عليهم خُروجَهُمْ عَنْ طاعَةِ ربِّهم وهذا الخروجُ مُسْتَوجِبٌ لما حَلَّ بهم مِنَ السُخْطِ، وللإيذانِ بِشُمُولِ هذا الحُكمِ كلَّ مَنْ شَارَكَهُم فِسْقَهم. وهذا مِنْ بابِ التَوَسُّعِ بالمَعْنى، وهُوَ مِنْ الإخبارِ بالعامِ عَنِ الخاصِّ.
وقد نزلت هذه الآيةُ الكريمةُ في جُدِّ بْنِ قَيْسٍ. ومُعْتِبِ بْنِ قُشَيرٍ. وأَصْحابِهِما مِنَ المُنافِقينَ، وكانوا ثمانينَ رَجُلاً، أَمَرَ النَبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، المؤمنينَ لمَّا رَجَعوا إلى المَدينَةِ أَنْ لا يُجالِسوهُمْ، ولا يُكَلِموهُمْ فامُتَثَلوا، بحسَبِ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما، وقد تقدمَتْ روايتُه في أسباب نزولِ الآياتِ السابقات. وروي عَنْ مُقاتِلٍ أَنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ اللهِ ابْنِ أُبَيٍّ، حَلَفَ للنَبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، أَنْ لا يَتَخَلَّفَ عَنْهُ أَبَداً، وَطَلَبَ أَنْ يَرْضَى عنهُ، فلَمْ يَفْعَلْ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قولُهُ تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ} بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنْ جملةِ {سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ} الآية: 95. السابقة، لأنهم إذا حلفوا لأَجْلِ أَن ْيُعْرِضَ عَنْهُمُ المسلمون فلا يَلومونَهم، فإنَّ ذَلِكَ يَتَضَمَّنُ طَلَبَهُم رِضَى المُسلِمينَ.
وقولُهُ: {فإن ترضوا} هذه الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محَل لها من الإعراب.