لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(91)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} اسْتِئْنافٌ بَيانيٌّ لِجوابِ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ يَنْشَأُ عَنْ تهويلِ القُعودِ عَنِ الغَزْوِ وما تَوَجَّّهَ إلى المُخَلَّفين مِنَ الوعيدِ. يَذْكُرُ فِيهَ الأَعْذَارَ التِي لاَ حَرَجَ عَلَى مَنْ قَعَدَ مَعَهَا عَنِ الجِهَادِ، فَذَكَرَ مِنْهَا مَا هُوَ مُلاَزِمٌ لِبُنْيَةِ الإِنْسَانِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ مُبَاشَرَةِ القِتَالِ، كَالضَعْفِ فِي البُنْيَةِ الجَسَدِيَّةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَارِضٌ، كَالمَرَضِ الذِي يَمْنَعُهُ مِنَ الخُرُوجِ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ كَالفَقْرِ الذِي لاَ يُمَكِّنُهُ مِنَ التَّجَهُّزِ لِلْحَرْبِ، وَاقْتِنَاءِ السِّلاَحِ وَالْعُدَّةِ، وَالإِنْفَاقِ عَلَى النَّفْسِ وَالعِيَالِ خِلاَلَ مُدَّةِ الجِهَادِ. وذلكَ اسْتيفاءً لأَقْسامِ المُخلَّفينَ مِنْ مَلُومٍ ومَعْذورٍ مِنَ الأَعْرابِ أَوْ مِنْ غيرِهم.
و "الضعفاءُ" جمعُ ضَعيفٍ وهُو الذي بِهِ الضَعْفُ وهُوَ وَهْنُ القُوَّةِ البَدَنيَّةِ مِنْ غيرِ مَرَضٍ. و "المرضَى" جمعُ مَريضٍ وهوَ الذي بِهِ مَرَضٌ في بَدَنِهِ. والمرَضُ تَغَيُّرُ النِظامِ المُعْتادِ بالبَدَنِ بِسَبَبِ اخْتِلالٍ يَطْرَأُ في بَعْضِ أَجْزاءِ المِزاجِ، ومِنَ المَرَضِ ما هُوَ مُزْمِنٌ كالعَمَى والشيخوخةِ، وبالتالي فإنَّ العُذْرَ دائمٌ بِدَيمومَتِهِ، ومنها ما هُوَ عارِضٌ مُؤَقَّتٌ ينقضي العذرُ بانقضائه.
والحرجُ: الضِيقُ، ويُرادُ بِهِ ضَيقُ التَكْليفَِ، وهو أَصْلٌ في سُقوطِ التَكليفِ عَنِ العاجِزِ، فَكُلُّ مَنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ سَقَطَ عَنْهُ، فتارةً يسقُطُ إلى بَدَلٍ هُوَ فِعْلٌ، وتارَةً إلى بَدَلٍ هُوَ غُرْمٌ، ولا فَرْقَ بينَ العَجْزِ مِنْ جِهةِ القُوَّةِ أَوْ العَجْزِ مِنْ جِهَةِ المالِ، ونَظيرُ هذِهِ الآيةِ قولُهُ تعالى في سورة البقرة: {لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إلاَّ وُسْعَها} الآية: 286. وقولُهُ في سورة النورِ: {ليسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا على الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المريضِ حَرَجٌ} الآية: 61.
أَخْرَجَ عَبْدُ الرَزّاقِ في المُصَنَّفِ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وأَحمدُ بْنُ حنبلٍ، والبُخارِيُّ، وأَبو الشَيْخِ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وأَبو دَاوودَ، عَنْ أَنَسٍ ـ رضي اللهُ عنه، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، قال: ((لقد تَرَكْتُمْ بالمَدينةِ أَقواماً ما سِرْتمْ مَسيراً ولا أَنْفَقتُم مِنْ نَفَقَةٍ ولا قَطَعْتُمْ مِنْ وادٍ إلاَّ وَهُمْ مَّعكم فيه)). قالوا: يا رسول الله، وكيفَ يَكونونَ مَعَنا وَهُمْ بالمَدينةِ؟ قالَ: ((حَبَسَهُمُ العُذْرُ)). وأَخرجَ أَحمدُ، ومُسلمٌ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ جابرٍ بْنِ عبد اللهِ ـ رضي اللهُ عنهُ، قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ: ((لقد خَلَّفتُم بالمَدينةِ رِجالاً ما قَطَعْتُمْ وادياً، ولا سَلَكْتُمْ طَريقاً، إلاَّ شَرَكُوكُم في الأَجْرِ حَبَسَهُمُ المَرَضُ)).
فَقد بَيَّنَتْ هذِهِ الآيَةُ مَعَ ما ذكرنا مِنْ نَظائرِها أَنَّه لا حَرَجَ على المعذورين، وهُمْ قَوْمٌ عُرِفَ عُذرُهم كأَرْبابِ الزَمانةِ والهَرَمِ والعَمى والعَرَجِ، وأقوامٍ لم يجِدوا ما يُنْفِقون، فقالَ: ليسَ على هؤلاءِ حَرَجٌ. لكنَّ نَفْيَ الحَرَجِ لا يَتَضَمَّنُ المَنْعَ مِنَ الخُروجِ إلى الغَزْوِ، فلو خَرَجَ أَحَدُ هَؤلاءِ المعذورين لِيُعينَ المجاهِدينَ بما يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ مَتاعِهم، أَوْ تَكْثيرِ سَوادِهم، على أَلاَّ يَكونَ كَلاًّ عَلَيْهم، كانَ لَهُ في ذَلِكَ ثَوابٌ جَزيلٌ مِنَ اللهِ وأجرٌ عظيمٌ.
قالَ العُلماءُ: لقد عَذَرَ الحَقُّ سُبْحانَهُ أَصْحابَ الأَعْذارِ، لكنَّ القُلوبَ ما صَبَرَتْ، فقد خَرَجَ ابْنُ أَمِّ مَكْتومٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، إلى أُحُدٍ وطَلَبَ أَنْ يُعْطى اللواءَ فلم يُعطَهُ، وأَخَذَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيرٍ، فجاءَ رَجُلٌ مِنَ الكُفَّارِ فَضَرَبَ يَدَهُ التي فيها اللواءَ فَقَطَعَها، فَأَمْسَكَهُ باليَدِ الأُخْرى، فضَرَبَ اليَدَ الأخْرى فضمَّهُ إلى صَدْرَهِ بما تَبَقّى مِنْ يَدَيْهِ وَقَرَأَ: {ومَا محمَّدٌ إلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهْ الرُسُلُ} سورة آل عمران، الآية: 144. لقد كانت هذِهِ عَزائِمَ القومِ أصحابِ رسول اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصَحْبِهِ أَجمعين وَسلَّمَ تَسْليماً كَثيراً.
وقد قدَّمَ الحَقُّ سبحانَهُ، العَمَى فقالَ في الآية: 61. مِنْ سُورَةِ النُورِ: {لَيْسَ عَلى الأَعْمى حَرَجٌ} ثمَّ ثنَّى بالعَرَجِ فقالَ: {ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ} وهذا عَمْرُو بْنُ الجَمُوحِ الخزرجيُّ سيِّدُ بَني سَلمَةَ، مِنْ نُقَباءِ الأنْصارِ في أَوَّلِ الجَيْشِ وهو أَعْرَجٌ، فقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((إنَّ اللهَ قَدْ عَذَرَكَ)) فقالَ: (واللهِ لأَحْفِرَنَّ بِعَرْجَتي هَذِهِ في الجَنَّةِ). وقد شَهِدَ ـ رضي اللهُ عنه، العَقَبَةَ وبَدْراً واسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، ودُفِنَ هُوَ وعَبْدُ اللهِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ حَرامِ والِدِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رضي اللهُ عنهما، في قبرٍ واحِدٍ وكانا صِهْرَيْنِ. وقالَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه: (ولَقَدْ كانَ الرَّجُلُ يُؤتى بِهِ يُهادَى بينَ الرَّجُلينِ حَتَّى يُقامَ في الصَفِّ.
قولُهُ: {إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ} النُصْحُ: العَمَلُ النافِعُ للمَنْصُوحِ، وقدْ أُطْلِقَ هُنا على الإيمانِ باللهِ ورسولِهِ، والسَعْيِ في مَرْضاتِهِ والامتثالِ لأوامرِهِ والعمل بما يَنْفَعُ المَسلمين، فإذا عَرَفوا الحَقَّ وأَحَبّوا أَولياءَهُ وأَبْغَضوا أَعْداءَهُ فإنَّ ذلِكَ يُشْبِهُ فِعْلَ المُوالي لمنصوِحِهِ الناصِحِِ لَهُ.
يقال: نَصَحَ الشيءُ إذا خَلُصَ، ونَصَحَ لَهُ القَوْلَ أَي: أَخْلَصَهُ لَهُ. والنُصْحُ أَيْضاً إخْلاصُ العَملِ مِنَ الغِشِّ. ومِنْهُ التَوبَةُ النَّصوحُ. وفي صَحيحِ مُسْلِمٍ وأبي داوودَ والنسائيِّ، عَنْ تميمٍ الدارِيِّ ـ رضي اللهُ عنه، أّنَّ النَبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((الدينُ النَصيحَةُ)) ثلاثاً. قُلْنا لِمَنْ؟ قال: ((للهِ ولِكِتابِهِ ولِرَسُولِهِ ولأَئِمَّةِ المُسلمينَ وعامَّتِهم)).
قالَ العُلماءُ: النَصيحةَ للهِ إِخلاصُ الاعْتِقادِ في الوَحْدانِيَّةِ، ووَصْفُهُ بِصِفاتِ الأُلوهِيَّةِ، وتَنْزيهُهُ عَنِ النَقائِصِ، والرَغْبَةُ في مَحَابِّهِ، والبُعْدُ مِنْ مَساخِطِهِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، والإمامُ أَحمدُ بنُ حَنْبَلٍ في الزُهْدِ من مُسندِه، والحكيمُ التِرْمِذِيُّ في نَوادِرِ الأُصولِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، عَنْ أَبي ثُمامَةَ قالَ: قالَ الحَواريُّونَ: يا رُوحَ اللهِ أَخْبِرْنا مَنِ النَّاصِحُ للهِ؟ قالَ: الذي يُؤْثِرُ حَقَّ اللهِ على حَقِّ الناسِ، وإذا حَدَثَ لَهُ أَمْرانِ، أَوْ بَدا لَهُ أَمْرُ الدُنيا وأَمْرُ الآخِرَةِ، بَدَأَ الذي للآخِرَةِ ثمَّ تَفَرَّغَ للذي للدُنيا.
والنصيحةُ لِرَسُولِهِ: التَصْديقُ بِنُبُوَّتِهِ، والتِزامُ طاعَتِهِ في أَمْرِهِ ونَهْيِهِ، ومُوالاةُ مَنْ والاهُ ومُعاداةُ مَنْ عاداهُ، وتَوْقيرُهُ، ومَحَبَّتُهُ، ومَحَبَّةُ آلِ بَيْتِهِ، وتَعْظيمُهُ وتَعْظيمُ سُنَّتِهِ، وإحياؤُها بَعْدَ مَوْتِهِ بالبَحْثِ عَنْها، والتَفَقُّهِ فيها، والذَّبِ عَنْها ونَشْرِها والدُعوةِ إِليْها، والتَخَلُّقُ بِأَخلاقِهِ الكريمةِ ـ صَلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمِ.
والنُصْحُ لِكتابِ اللهِ: قِراءَتُهُ، والتَفَقُّهُ فيهِ، والذَبُّ عَنْهُ، وتَعليمُهُ، وإكرامُهُ، والتَخَلُّقُ بِهِ.
والنُصْحُ لأئِمَّةِ المُسْلِمينَ: تَرْكُ الخُروجِ عَلَيْهم، إرْشادُهم إلى الحَقِّ، وتَنْبيهُهُم إلى ما غَفِلوا عنه مِنْ أُمورِ المُسْلِمينَ، ولُزومُ طاعَتِهم، والقِيامُ بِواجِبِ حَقِّهم.
والنُصْحُ لعامَّةِ المسلمين: تَرْكُ مُعاداتِهم، وإرْشادُهم، وحُبُّ الصالحينَ مِنْهُم، والدُعاءُ لجَميعِهم وإرادَةُ الخَيرِ لِكافَّتِهم.
قولُه: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} المعنى ليس على الضُعَفاءِ، ولا عَلى مَنْ عُطِفَ عَليهم حَرَجٌ إذا نَصَحُوا للهِ ورَسُولِهِ لأَنَّهم مُحْسِنونَ غيرَ مُسيئينَ، وما على المحسنينَ مِنْ سَبيلٍ، أَيْ: ليس عليهم مُؤاخذةٌ أَوْ مُعاقَبَةٌ، والمُحْسِنونَ هُمُ الذين فَعَلوا الإحْسانَ، وهُوَ ما فيهِ النَفْعُ التامُّ. والسَبيلُ: أَصْلُهُ الطَريقُ، ويُطْلَقُ على وسائلِ وأَسبابِ المُؤاخَذَةِ باللَّومِ والعِقابِ لأنَّ تِلكَ الوَسائلَ تُشْبِهُ الطَريقَ الذي يَصلُ منْهُ طالِبُ الحَقِّ إلى مَكانِ المَحقوقِ، ولِمُراعاةِ هذا الإطْلاق جُعلَ حَرْفُ الاسْتِعْلاءِ في الخَبَرِ عَنِ السَبيلِ دُونَ حَرْفِ الغايَةِ. ونَظيرُهُ قولُهُ تَعالى في سورة النساءِ: {فإنْ أَطَعْنَكم فلا تَبْغوا عَلَيْهِنَّ سَبيلاً} الآية: 34. فدَخَلَ في المحسنين هؤلاءِ الذين نَصَحوا للهِ ورَسولِهِ. وليس ذَلكَ مِنْ وَضْعِ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ لأَنَّ هذا مَرْمَى آخَر هو أسمى وأبعد غاية.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ الإمامِ الأَوْزَاعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: "خَرَجَ النَّاسُ إِلَى الاسْتِسْقَاءِ، فَقَامَ فِيهِنَّ بِلالُ بْنُ سَعْدٍ ـ رضي اللهُ عنه، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرُ مَنْ حَضَرَ، أَلَسْتُمْ مُقِرِّينَ بِالإِسَاءَةِ؟ قَالُوا: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْمَعُكَ تَقُولُ: "مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ" وَقَدْ أَقْرَرْنَا بِالإِسَاءَةِ فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا، وَاسْقِنَا، وَرَفَعَ يَدَيْهِ وَرَفَعُوا أَيْدِيَهُمْ، فَسُقُوا". وهذِهِ الآيةُ أَصْلٌ في رَفْعِ العِقابِ عَنْ كُلِّ مُحْسِنٍ.
قولُهُ: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفورٌ: صيغةُ مُبالَغَةٍ مِنْ غافرٍ، أَيْ: شَديدُ المَغْفِرَةِ، ومِنْ مَغْفِرَتِهِ أَنْ لم يُؤاخِذْ أَهْلَ الأَعْذارِ بالقُعودِ عَنِ الجِهادِ. رحيمٌ: شَديدُ الرَّحمةِ بالنَّاسِ، ومِنْ رَحمَتِهِ أَنْ لمْ يُكَلِّفْ أَهْلَ الأَعْذارِ ما يَشُقُّ عَليهم.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رضي اللهُ عنه، فِي قَوْلِهِ: "وَاللهُ غَفُورٌ" لِمَا كَانَ مِنْهُمْ فِي الشِّرْكِ، "رَحِيمٌ" بِهِمْ بَعْدَ التَّوْبَةِ".
ومما جاءَ في سَبَبِ نُزولِ هذِهِ الآيةِ المُبارَكَةِ ما أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، والدارَ قُطْنيُّ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ زَيدِ بْنِ ثابتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنْتُ أَكْتُبُ بَرَاءَةَ، فَإِنِّي لَوَاضِعٌ الْقَلَمَ عَلَى أُذُنِي إِذْ أُمِرْنَا بِالْقِتَالِ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْظُرُ مَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ، إِذْ جَاءَ أَعْمَى، فَقَالَ: كَيْفَ بِي يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَنَا أَعْمَى؟ فَنَزَلَتْ: "لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ".
وأخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأبو الشيخِ، عَن قَتادةَ في قولِهِ "ليس على الضعفاء . . .". قَالَ: "نَزَلَتْ فِي عَائِذِ بْنِ عَمْرٍو وَفِي غَيْرِهِ".
قولُهُ تعالى: {ليس على الضُعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} حرجٌ: اسْمُ لَيْسَ، و "على الضُعفاء" خبرُها، وإعادةُ حرفِ النَفْيِ في عَطْفِ الضُعَفاءِ والمَرْضى لِتَوْكِيدِ نَفْيِ المُؤاخَذَةِ أَوِ العُقوبةِ عَنْ كُلِّ فَريقٍ بخُصوصِهِ.
وقولُهُ: {إذا نَصَحوا} إذا: ظَرْفِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بمَضْمونِ الجَوابِ المُقَدَّرِ؛ أَيْ: إذا نَصَحوا للهِ انْتَفى الحَرَجُ، وجمْلةُ الشَرْطِ "نصحوا" مُسْتَأْنَفَةٌ، وجوابُ الشَرْطِ محذوفٌ، دَلَّ عَلَيْهِ ما قَبْلَهُ.
وقولُهُ: {ما على المحسنينَ مِنْ سَبيلٍ} ما: نافيةٌ تعملُ عملَ لَيْسَ، "على المحسنين" خَبَرُها، و "مِنْ" زَائدةٌ لِدُخولها على نَكِرَةٍ وسَبْقِها بِنَفِيٍ، "سبيلٍ" مجرورٌ لَفْظاً بِ "مِنْ" مَرْفُوعٌ محَلاً على أنَّهُ اسمُها، أَوْ هو فاعلٌ بالجارِّ لاعْتِمادِهِ على النَفْيِ، ويجوزُ أَنْ يَكونَ "مِنْ سَبيلٍ" في مَوْضِعِ رَفْعِ اسْمِ "ما" وخبرُها محذوفٌ والتقديرُ: ما من سبيلٍ إلى العُقوبة. ويجوزُ أَنْ يَكونَ "من سبيل" مُبْتَدَأً والجارُّ قبلَه خَبرُهُ، وعلى كُلِّ حالٍ فإنَّ "مِنْ" مَزيدةٌ فيهِ، أيْ: ما على المحسنين سَبيلٌ.
وفي قولِهِ "ما على المحسنينَ مِنْ سَبيلٍ" نَوْعٌ مِنَ البَديعِ يُسَمّى "التَمليح" وهو: أَنْ يُشارَ إلى قِصَّةٍ مَشْهورَةٍ، أَو مَثَلٍ سائرٍ، أوْ شِعْرٍ نَادِرٍ في فَحْوى الكلامِ مِنْ غيرِ ذِكْرِهِ، ومن ذلك قولُ يسارِ بْنِ عديٍّ حين بلغهُ مقتلُ أخيه:
اليومَ خمرٌ ويَبْدو بَعْدَهُ خَبَرٌ ............... والدَهْرُ مِنْ بَينِ إِنْعامٍ وإبْآسِ
يُشيرُ لِقولِ امْرِئِ القَيسِ بنِ حجرٍ الكنديِّ لَمَّا بَلَغَهُ مقْتَلُ أَبيهِ حجر وهو في مجلسِ شُرْبٍ فقالَ: "اليومَ خمرٌ وغداً أَمْرٌ".
ومِنْ ذلكَ أَيْضاً قولُ أبي تمّامٍ الطائيِّ:
فو اللهِ ما أَدْري أَأَحْلامُ نائمٍ ....... أَلَمَّتْ بِنا أَمْ كانَ في الرَّكْبِ يُوشَعُ
يُشير إلى قِصَّةِ نبيِّ اللهِ يُوشَعَ ـ عليْهِ السّلامُ واسْتيقافِهِ الشَمْسَ. وقبلَهُ:
لحِقْنا بِأُخْراهُمْ وقدْ حَوَّمَ الهَوى ......... قُلُوباً عَهِدْنا طَيرَها وَهْيَ وُقَّعُ
فَرُدَّتْ علينا الشمسُ والليلُ راغمٌ...بشمسٍ لهم منْ جانِبِ الخِدْرِ تَطْلُعُ
نَضَا ضَوْؤهَا صِبْغَ الدُّجنَّةِ فانطَوَى ....... لبهجتِها ثوبُ السَماءِ المجزَّعُ
ومنه قولُهُ أَيْضاً:
لعَمْروٌ مَعَ الرَّمْضاءِ والنارُ تَلْتَظِي .. أَرَقُّ وأَحْفَى مِنْكَ في ساعَةِ الكَرْبِ
مشيراً بذلك إلى البيتِ المشهورِ المنسوبِ إلى كُلَيْبِ بْنِ ربيعةَ بْنِ
وائلٍ، وذلك أَنَّه بعدما طَعَنَهُ جسَّاس، طَلَبَ الماءَ، وأَقبلَ عَليْهِ عَمْرُو بْنُ الحارِثِ فَظَنَّ أنَّهُ سَيَسقيهِ فلَمَّا رأى أَنَّه يُريدُ أَنْ يُجْهِزَ عليِهِ قالَ:
المستجيرُ بعمروٍ عندَ كُرْبَتِهِ ............. كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضاءِ بالنارِ
وقبلَه:
يا مَنْ تَيَمَّمَ عَمْراً يَسْتَجيرُ بِهِ ............... أَمَا سَمِعْتَ ببَيْتٍ فيِهِ سَيَّارِ
وكأَنَّ هذا الكلامَ وهو "ما على المحسنين مِنْ سَبيلٍ" اشْتُهِرَ ما هُوَ بمعناهُ بَينَ الناسِ، فأَشارَ إلَيْهِ الحقُّ سُبْحانَه، مِنْ غيرِ ذِكْرِ لَفْظِهِ. وجملةُ "ما على المحسنين من سبيل" مُسْتَأْنَفَةٌ.
قولُهُ: {وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} تَذْييلٌ والواوُ اعْتِراضِيَّةٌ، والجُمْلةُ مُسْتَأنَفةٌ كذلك.
قرأَ العامَّةُ: {نَصَحُوا للهِ} وقرَأَ أَبو حَيَوَةَ: "نَصَحُوا اللهَ" بِدونِ لامٍ، وقَدْ تقدَّمَ أَنَّ "نَصَحَ" يَتَعدَّى بِنَفْسِهِ وباللامِ.