لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(88)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّه: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ} اسْتِدْراكٌ لِما فُهِمَ مِنَ الكَلامِ السابقِ، أي: إذا تخلَّفَ هؤلاءِ المنافقونَ ولم يُجاهِدوا فَلا ضَيْرَ لأنَّهُ قدْ نَهَضَ عَلى أَتَمِّ وَجْهٍ مَنْ هُوَ خَيرٌ مِنْهم، وهم رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّم، وَالمُؤْمِنِينَ مَعَهُ فقد جَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ. وفيه إيذانٌ بأَنَّ المنافقين لَيْسُوا مِنَ الإيمان باللهِِ تعالى في شيْءٍ، وإنْ لم يُعْرِضوا عَنِ الإيمانِ صَريحاً إعْراضَهم عَنِ الجِهادِ حين اسْتَأْذنوا في القُعُودِ.
قولُهُ: {وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} وَهَؤُلاَءِ وَعَدَهُمُ اللهُ بِالخَيْرَاتِ: أيْ المنافعِ التي تَسْكُنُ النَفْسُ إليها، وترتاح لها فِي الدُّنْيَا، بِتَحْقِيقِ النَّصْرِ، وَمَحُوِ الْكُفْرِ، وَإِعْلاَءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَالتَّمَتُّعِ بِالمَغَانِمِ، وظاهرُ اللَّفْظِ عُمومُها هُنا لمنافِعِ الدارينِ، كالنَصْرِ والغَنيمَةِ في الدُنيا، والفوزِ بِرِضَا اللهِ وَجَنَّاتِهِ ونعيمِها فِي الآخِرَةِ. و "الخَيْراتُ" جمع "خَيْرَةٍ" على وزنِ "فَعْلَة" (بِسْكونِ العينِ) وهو المُسْتَحْسَنْ مِنْ كلِّ شيْءٍ، وقد غَلَبَ استعمالُهُ في النِساءِ، ومِن ذلك قولُهُ تَعالى في سورة الرحمن: {فيهنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} الآية: 70. فإنها هناك بمعنى الحُورِ فتُحْمَلُ عَلَيْهِ هُنا أَيْضاً. ومِنْ ذلك قولُ الشاعرِ عُمَرَ بْنِ لَجَأَ، وهو مِنْ بَني شَعاعَةَ، وشَعاعَةُ مِنْ بُطونِ تَيمِ بْنِ عَبْدِ مَناةَ، قالَ يُجاوِبُ جَريراً الشاعرَ وكانَ بَيْنَهُما هِجاءٌ:
ولقد طَعَنْتُ مَجامِع الرَّبَلاتِ .............. رَبَلاتِ هندٍ خَيْرةِ الملَكاتِ
والرَبِلاتُ: جمعُ رَبِلَةٍ وهي الجاريةُ العَبْلَةُ، ضَخْمَةُ الرَبَلَةِ؛ وهيَ باطِنُ الفَخِذِ مما يَلي القُبُلِ. وامرأةٌ رَبِلَةٌ كفرِحَةٍ ورَبْلاءُ ومتربِّلَةٌ، والرَّبالَةُ: كثْرَةُ اللَّحْمِ.
ونَصَّ المُبرِّدُ على أَنَّ الخيراتِ تُطلَقُ عَلى الجَواري الفاضِلاتِ وهِيَ جمعُ خَيْرَةٍ بِسُكونِ الياءِ مُخَفَّفَ خَيِّرَةٍ المُشَدَّدَةِ، تأنيثُ خَيِّرٍ وهُوَ الفاضِلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ المُسْتَحْسَنُ مِنْهُ. وعنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي اللهُ عنها، قالت: .. قُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ أَخْبرني عَنْ قولِ اللهِ تعالى: {فيهِنَّ خيراتٌ حِسانٌ} قال: ((خَيراتُ الأَخْلاقِ حِسانُ الوُجُوهِ)) .. . أَخْرَجَهُ الطَبرانيُّ في المعجم الكَبير: (23/367).
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قالَ: ((إنَّ الحُورَ العِينَ يَتَغَنَّيْنَ في الجَنَّةِ، يَقُلْنَ: نحنُ خَيراتٌ حِسانٌ خُبِّئْنا لأَزْواجٍ كِرامٍ)). رَواهُ أَبو يَعْلَى بِسَنَدٍ فيهِ رَاوٍ لمْ يُسَمَّ. ورَواهُ ابْنُ أَبي الدُنيا، والطَبرانيُّ بإسْنادٍ مُتَقارِبٍ. ولَهُ شاهدٌ مِنْ حَديثِ ابْنِ عُمَرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، رَواهُ الطَبرانيُّ في المُعجَمِ الصغير، والمُعْجَمِ الأَوْسْطِ بِرُواةِ الصَحيحِ. ورَواهُ الطبرانيُّ أَيْضًا مِنْ حَديثِ أَبي أُمامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه.
وقولُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} كُرِّرَ اسْمُ الإشارَةِ "أُولَئِكَ" تَنْويهاً بِشَأْنِهم. و "المفلحون" الفَائزونَ بالمَطالِبِ، الذين أدركوا بُغْيَتَهم مِنَ الجَنَّةِ، دُونَ مَنْ حازَ بَعْضاً يَفْنى عَمَّا قَليلٍ. فقد أخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قال: "أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" أَيْ: الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا، وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا". ومِنْ مَجيءِ الفلاحِ بمعنى إدراك البُغْيَةِ، قولُ عُبَيْدٍ الأبرص:
أَفْلَحَ بِمَا شِئْتَ فَقَدْ يُبْلَغُ بالـ .......... ـضَّعفِ وقد يُخدَعُ الأرِيبُ
وهذا البيتُ مِنْ جيِّدِ شِعْرِهِ وقَبْلَهُ:
مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ ........................ وسَائِلُ اللهِ لا يَخيبُ
باللهِ يُدْرَكُ كلُّ خَيْرٍ، ........................ والقَوْلُ في بَعْضِهِ تَلغيبُ
واللهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ، ........................ عَلاّمُ ما أخفَتِ القُلُوبُ
وقد يأتي الفلاحُ بمعنى البقاءِ، كَقولِ الأَضْبَطِ بْنِ قُريعٍ السَعْدِيِّ:
لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمومِ سَعَهْ ................ والمَسا والصُّبْحُ لا فَلاحَ مَعَهْ
أَيْ: لا بَقاءَ. وقَدْ عُمِّرَ الأَضْبَطُ مِئَةً وخمسين سَنَةً، والبيتُ مِنْ قَصيدَةٍ لَهُ قالها قبلَ الإسْلامِ بِزَمَنٍ طويلٍ، وسَبَبُها أَنَّ أُمَّ الأَضْبَطِ عَجيبَةُ بِنْتُ دارِمِ بْنِ مالِكِ بْنِ حَنْظَلَةَ، وخالَتُهُ الطَموحُ بِنْتُ دارِمٍ، أَمُّ جُشَمٍ وعَبْدِ شمْسٍ ابْنَيْ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ، فَحارَبَ بَنُو خالتِه الطَموحِ قوماً مِنْ بَني سَعْدٍ فجَعَلَ الأَضْبَطُ يَدُسُّ إليهمُ الخَيلَ والسِلاحَ ولا يُصَرِّحُ بِنُصْرَتهم خوفاً مِنْ أَنْ يَتَحَزَّبَ قومُهُ حِزْبَينِ، مَعَهُ وعَلَيْهِ، وكانَ يُشيرُ عليهم بالرَأْيِ فإذا أَبْرَمَهُ نَقَضوهُ وخالفوا عَلَيْهِ وأَرَوْهُ مَعَ ذلكَ أَنَّهم على رَأْيِهِ فقال في ذلك مِنَ المُنْسَرِحِ:
لكل هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ ................ والمَسا والصُّبْحُ لا فَلاحَ مَعَهْ
لا تحقِرنَّ الفقيرَ علَّكَ أَنْ ................. تَرْكَعَ يوماً والدهرُ قد رَفعَهْ
وصِلْ حِبالَ البَعيدِ إنْ وَصَلَ الحبْـ ...... ـلَ واقْصِ القريبَ إن قَطَعَهْ
قد يَجمعُ المالَ غيرُ آكِلِهِ .................. ويَأْكُلُ المالَ غيرُ مَنْ جَمَعَهْ
ما بالُ مَنْ غيُّهُ مُصِيبُكَ لا .................. يملُكُ شيئاً مِنْ أَمْرِهِ وَزَعَهْ
حتى إذا ما انجلَتْ غَوايتُه ..................... أَقْبَلَ يَلْحِي وَغيُّهُ فَجَعَهْ
أَذودُ عَنْ نَفْسي ويخدَعُني ............. يا قومُ: مَنْ عاذِرِي مِنَ الخُدَعَهْ
فأقْبَلْ مِنَ الدَّهْرِ ما أَتاكَ بِهِ ................... مَنْ قرَّ عيْناً بِعَيْشِهِ نَفَعَهْ
وبُلوغُ البُغْيَةِ يَعُمُّ لَفْظَةَ الفَلاحِ حيْثُ وَقَعَتْ.
قولُهُ تَعالى: {لَكِنِ الرَّسُولُ} لكن: حرْفُ اسْتِدْراك، والجُمْلَةُ بعدَها مُسْتَأْنَفَةٌ.
قولُهُ: {أولئكَ لهم الخيرات} أولئكَ: مبتدأٌ وجملةُ "لهمُ الخيراتُ" في محل رفع خبر المبتدأ "أولئك"، وجملةُ "وأولئك لهم الخيرات" مَعْطوفَةٌ على جملةِ "جاهدوا".