وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ
كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ
(65)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} لَوْ أنَّكَ سألتَ أيَّها الرسولُ هؤلاءِ المُنافقين عنْ أَقوالهم هذِهِ، وسَبَبِ طَعْنِهم في الدِينِ، واسْتِهْزائِهم بالله وآياتِهِ، لاعْتَذَروا لك وقَالوا: كُنَّا نَخوضُ في الحديثِ ونَلْهو وَنَلْعَبُ قَطْعاً لِلطَّرِيقِ وتقصيراً لمسافَةِ السَفَرِ بالحَديثِ والمُداعَبَةِ كما يَفْعَلُ الرَكْبُ في العادةِ، ولم يَكُنْ ذلك بالجَدِّ مِنَّا. وذلك حِينَمَا كَانَ الرَّسُولُ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مُنْطَلِقاً فِي الطَّرِيقِ إِلَى غَزْوَةِ تَبُوكَ حين قَالَ بَعْضُ المُنَافِقِينَ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلاَدَ بَنِي الأَصْفَر (يَعْنِي الرُّوم) كَقِتَالِ العَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً، وَاللهِ لَكَأَنَّنَا بِكُمْ غَداً مُقَرَّنِينَ فِي الحِبَالِ؟. وَكَانَ هَؤُلاَءِ المنافقون يَقُولُونَ هَذَا إِرْجَافاً، وَتَرْهِيباً لِلْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ الرَّسُولُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ، لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَدْرِكِ القَوْمَ فَقَدِ احْتَرَقُوا، فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ لَهُمْ عَمَّارُ ذَلِكَ فَأَتَوْا إِلَى رَسُولِ اللهِ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. أَيْ: إِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا جَادِّينَ فِيمَا يَقُولُونَ، وَإِنَّمَا قَالُوا مَا قَالُوا لِلتَّسَلِّيِ وَالتَّلَهِّي، وَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ هَذَا العُذْرَ مَقْبُولٌ منهم. فقد وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ قَتادَةَ في الآية، قال: بينَما رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في غَزْوَتِهِ إلى تَبوك، وبين يَدَيْهِ أُناسٌ مِنَ المُنافقين، فقالوا: يَرْجو هَذا الرَجُلُ أَنْ تُفْتَحَ لَهُ قُصُورُ الشَامِ وحُصُونُها؟ هيهاتِ هيهات! فأَطْلَعَ اللهُ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، على ذَلِكَ، فقالَ: ((احْبِسوا علَيَّ هؤلاءِ الرَّكْبِ. فأَتاهم فَقالَ: قُلْتُمْ كَذا، قُلْتُمْ كَذا. قالوا: يا نَبيَّ اللهِ إنَّما كُنَّا نَخوضُ ونَلْعَبُ، فأَنْزَلَ اللهُ فيهِم ما تَسْمَعون.
وأَخْرَجَ ابْن ُمَردوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، قال: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ في رَهْطٍ مِنَ المُنافِقينَ مِنْ بَني عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فيهم وَدِيعَةُ بْنُ ثابتٍ ورَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ حَليفٍ لهم يُقالُ لَهُ مخشيُّ بْنُ حُمَيرٍ، كانوا يَسيرونَ مَعَ رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلّمَ، وهُو مُنْطَلِقٌ إلى تَبوكَ، فقالَ بَعضُهم لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ قِتالَ بَني الأَصْفَرِ كَقِتالِ غَيرِهم؟ واللهِ لَكَأَنَّا بِكم غَداً تُقادونَ في الحِبالِ. قالَ مخشيُّ بْنُ حُميرٍ: لَوَدِدْتُ أَني أُقاضي. فذَكَرَ الحديثَ مِثْلَ الذي قَبْلَهُ. وأَخْرَجَ أيضاً عَنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رضي اللهُ عنه، نحوَهُ.
وأخرج ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَأُمِرَ بِالْغَزْوِ إِلَى تَبُوكَ، قَالَ: وَنَزَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جَانِبٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: وَاللهِ إِنَّ أَرْغَبَنَا بُطُونًا، وَأَجَبْنَنا عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَأَضْعَفَنَا لَقُرَّاؤُنَا، فَدَعَا النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَمَّارًا، فَقَالَ: ((اذْهَبْ إِلَى هَؤُلاءِ الرَّهْطِ فَقُلْ لَهُمْ: مَا قُلْتُمْ؟ وأَخْرَجَ أَبو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ ـ رَضَيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَجُلاً قالَ لأَبي الدَرْداءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يا مَعْشَرَ القُرَّاءِ ما بالُكم أَجْبَنَ مِنَّا وأَبْخَلَ إذا سُئِلْتُمْ، وأَعْظَمَ لُقَماً إذا أَكَلْتُم؟ فأَعْرَضَ عَنْهُ أَبو الدَرْداءِ، ولم يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئاً، فأَخبرَ بِذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فانْطَلَقَ عُمَرُ إلى الرَجُلِ الّذي قالَ ذَلكَ، فخنقَه بِثَوْبِهِ وقادَهُ إلى النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقالَ الرَجُلُ: إنَّما كُنَّا نَخُوضُ ونَلْعَبُ. فأَوْحى اللهُ تَعالى إلى نَبْيِّهِ ـ صَلَّى الله عليه وسلَّم: "ولئن سألتَهم لَيَقولُنَّ إنَّما كُنّا نَخوضُ ونَلْعَبُ".
وأَصْلُ الخَوْضِ الدُخولُ في مائعٍ كالماءِ والطِينِ، ثمَّ كَثُرَ حتى صارَ اسْماً لِكُلِّ دُخولٍ فيهِ تَلْويثٌ وإيذاءٌ، فَالخَوْضُ لُغَةً هُوَ الدُّخُولُ فِي البَحْرِ أَوْ الوَحْلِ وَقد كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي البَاطِلِ.
قولُهُ: {قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} أَيْ: قُلْ لهم غيرَ مُلْتَفِتٍ إلى اعْتِذارِهم ناعياً عَلَيهم جِناياتِهم، لقدِ اسْتَهْزَأْتمْ بِمَنْ لا يَصِحُّ الاسْتِهْزاءُ بِهِ، وأَخْطَأْتم مَواقِعَ فِعْلِكُمُ الشَنيعِ الذي طالما ارْتَكْبْتُموهُ. فالاسْتِفهامُ هُنا إِنْكاريٌّ للتَقْريعِ والتَوْبيخِ. ولم يَعْلَمُوا أَنَّ اتِخَاذَ الدِّينِ هَزْواً وَلِعِباً كُفْرٌ مَحْضٌ، لأنَّ الخَوْضَ وَالَّلعِبَ فِي صِفَاتِ اللهِ، وَشَرْعِهِ وَآيَاتِهِ، المُنْزَّلَةِ هُوَ اسْتِهْزَاءٌ بِهَا. وفيِهِ دَلالَةٌ عَلى أَنَّ اللاعِبَ والخائضَ سَواءً في إظهارِ كَلِمَةِ الكُفْرِ على غيرِ وَجْهِ الإكْراهِ لأنَّ المُنافقين ذَكَروا أَنَّهم قالوا ما قالوهُ لَعِباً, فأَخْبرَ اللهُ تَعالى عَنْ كُفْرِهم باللَّعِبِ بِذلكَ. ودَلَّ أَنَّ الاسْتِهْزاءَ بآياتِ الله تَعالى كُفْرٌ.
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشيخِ وابْنُ مَردوَيْهِ عَنْ عبدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ قال: قَالَ رَجُلٌ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ فِي مَجْلِسٍ يَوْمًا: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ قُرَّائِنَا هَؤُلاءِ لا أَرْغَبَ بُطُونًا، وَلا أَكْذَبَ أَلْسِنَةً، وَلا أَجْبَنَ عِنْدَ اللِّقَاءِ، فَقَالَ رَجُلٌ فِي الْمَجْلِسِ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ لأُخْبِرَنّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ عَبْدُ اللهِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ مُتَعَلِّقًا بِحَقَبِ نَاقَةِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَنْكُبُهُ الْحِجارَةُ وَهُوَ، يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللهِ: "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ" وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يَقُولُ: "أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ".
وأَخْرَجَ ابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والعَقيليُّ في الضعفاء، وأَبو الشيخِ، وابْنُ مردوَيْهِ، والخَطيبُ في روايةِ مالك عنِ ابْنِ عُمَرَ قال: رأيتُ عبدَ اللهِ بْنِ أُبيٍّ وهوَ يَشْتَدُّ قُدّامَ النَبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، والأَحجارُ تَنْكُبُه، وهو يَقولُ: يا محمَّدُ إنَّما كُنا نُخوضُ ونَلعبُ، والنبيُّ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، يقولُ: أَبِالله وآياتِهِ ورَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئونَ؟.
قولُهُ تَعالى: {ولئن سألتَهم لَيَقولُنَّ} اللام في "لئن" مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، واللامُ في "ليقولُن" واقعةٌ في جوابِ القَسَمِ، والفعلُ "يقولُنَّ" مُضارِعٌ مَرْفوعٌ بِثُبوتِ النونِ المحذوفةِ لتَوالي الأَمْثالِ، والواوُ المحذوفة لالتقاءِ الساكنينِ فاعِلٌ، والنُونُ للتَوْكيدِ.
قولُهُ: {أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُون} الجارُّ في "بالله" مُتَعلِّقٌ بقولِهِ: "تَسْتَهزئون" و "تستهزئون" خبرُ كانَ. وفيه دليلٌ على تقديم خبرِ كانَ عَلَيْها، لأَنَّ تَقديمَ المَعمولِ بِطريقِ الأَوْلى. وفيه بحثٌ: وذلِكَ أَنَّ ابْنَ مالكٍ قَدَحَ في هذا الدَليلِ بقولِهِ تَعالى في سُورةِ الضُحى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ * وَأَمَّا السائل فَلاَ تَنْهَرْ} الآيتانِ: 9 و10. قالَ: فاليَتيمُ والسائلُ قدْ تَقَدَّما على "لا" الناهيةِ، والعاملُ فيهما ما بَعْدَها، ولا يجوز تقديمُ ما بعدَ "لا" الناهيةِ عليْها لكونِهِ مَجْزوماً بها، فقدْ تقَدَّم المعمولُ حيثُ لا يَتَقدَّمُ العامِلُ. ذُكِرَ ذلكَ عندَ اسْتِدْلالهم على جوازِ تَقديمِ خبرِ لَيْسَ بقولِهِ في سُورِةِ هُود: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} الآية: 8.