ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
(27)
قولُه ـ تعالى شأنُهُ:{ ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِن بَعْدِ ذلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ}
فيه إشارةٌ إلى إسْلامِ هَوازِنَ بَعْدَ تِلكَ المعركةِ، فإنَّهم بعدَ أَنِ انْهَزَمُوا جاؤوا إلى رسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مُسْلِمين تائبينَ، وَلَحِقُوا بِهِ بِمَكَّةَ فِي مَكَانٍ يُعْرَفُ بِالجِعْرانَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ المَعركةِ بِعِشْرِينَ يَوْماً، وسَأَلوهُ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِم سَبْيَهم وغَنائمَهم، فقالَ لهمْ: ((إِنِّي قَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكمْ، وقدْ وَقَعَتِ المَقاسِمُ، وعِنْدي مَنْ تَرَوْنَ، وإنَّ خَيْرَ القَوْلِ أَصْدَقُهُ، فاخْتاروا: إمَّا ذَراريكم، وإمَّا أَموالَكم)). فقالوا: لا نَعْدِلُ بالأَنْسابِ شَيْئاً. فقامَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، خَطيباً فقالَ: ((هؤلاءِ جاؤونا مُسْلِمين، وقد خَيَّرْناهم، فَلَمْ يَعْدِلُوا بالأَنْسابِ، فَرَضُوا بِرَدِّ الذُرِّيَّةِ، وما كانَ لي ولِبَني عَبْدِ المُطَّلِبِ وبَني هاشِمٍ فهُوَ لهم)). وقالَ المُهاجِرونَ والأَنْصارُ: أَمَّا ما كانَ لَنا فهُوَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وامْتَنَعَ الأَقْرَعُ بْنُ حابِسٍ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ في قومِهِما مِنْ أَنْ يَرُدّوا عَلَيْهم شَيْئاً ممّا وَقَعَ لهم في سِهامِهم. وامْتَنَعَ العَبَّاسُ بْنُ مِرْداسٍ السُلَمِيُّ كَذلِكَ، وطَمِعَ أَنْ يُساعِدَهُ قومُهُ كما ساعَدَ الأَقْرَعَ وعُيَيْنَةَ قومُهُما. فأَبَتْ بَنو سُلَيْم، وقالوا: بَلْ ما كانَ لَنا فَهُوَ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ. فقالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((مَنْ ضَنَّ مِنْكمْ بِما في يَدَيْهِ فإنَّا نُعَوِّضُهُ مِنْهُ)). فرَدَّ عَلِيْهم رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، نِساءَهم وأَوْلادَهم، وعَوَّضَ مَنْ لمْ تَطِبْ نَفْسُهُ بِتَرْكِ نَصيبِهِ أَعْواضاً رَضُوا بِها.
ورُوِيَ عَنْ محمَّدٍ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ، أنَّهُ قالَ: لمَّا انْهَزَمَ مالِكُ بْنُ عَوْفٍ، سارَ مَعَ ثلاثةِ آلافٍ، فقالَ لأَصْحابِهِ: هلْ لَّكم أَنْ تُصِيبُوا مِنْ مُحَمَّدٍ مالاً؟ قالوا: نَعمْ. فأَرْسَلَ إلى النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: إنَّي أُريدُ أَنْ أُسْلِمَ، فمَا تُعْطيني؟ فأَرْسَلَ إلَيْهِ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ: ((إِنِّي أُعْطِيكَ مِئةً مِنَ الإِبِلِ وَرُعَاتَهَا)). فجاءَ فَأَسْلَمَ، فأقامَ يَومَيْنِ أَوْ ثلاثةً؛ فلَمَّا رَأَى المُسْلِمين ورِقَّتَهم، وزُهْدَهم، واجْتِهادَهم، رَقَّ لِذلك، فقالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّم: ((يَا ابْنَ عَوْفٍ أَلاَ نَفِيَ لَكَ بِمَا أَعْطَيْنَاكَ مِنَ الشَّرْطِ؟)) فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، أَمِثلي مَنْ يَأْخُذُ على الإسْلامِ شَيْئاً؟ ورُوِيَ أَنَّ النَبيَّ لم يَزَلْ بِهِ حَتى أَعْطاهُ مِئَةَ الإبِلِ، واسْتَعْمَلَهُ على قومِهِ، فامْتَدَحَهُ بِقَصيدَتِهِ التي يَقولُ فيها:
ما إنْ رَأيتُ ولا سَمِعْتُ بِمِثْلِه ........... في النَّاسِ كُلِّهِمُ بِمِثْلِ مُحَمَّدِ
أوْفَى وأعْطَى للجَزيلِ إذا اجْتُدِي ........ ومَتى تَشَأْ يُخْبرْكَ عَمّا في غَدِ
وإذَا الكَتيبَةُ عَرّدَتْ أَنْيابُها ............. بالسَّمْهَريِّ وَضَرْبِ كُلّ مُهَنَّدِ
فَكَأنَّهُ لَيْثٌ على أَشْبَالِهِ ................. وَسْطَ الهَبَاءَةِ خَادِرٌ في مَرْصَدِ
ثمَّ كانَ مالِكُ بْنُ عَوْفٍ بَعْدَ ذَلكَ ممَّنْ افْتَتَحَ عامَّةَ الشامِ. وكانَ ذلكَ أَكْبرَ مِنَّةٍ في نَصْرِ المُسْلِمين، إذْ أَصْبَحَ أَعداءُ الأمسِ الذين حَشَدوا رجالَهم وأَمْوالَهم لِحَرْبِ الإسْلامِ والمُسْلِمينَ، أَصْبَحُوا إخوةً لهم، وجُنْداً مَعَهم يُحارَبونَ أَعْداءَ الدينِ ويُشارِكونَ في رَفْعِ رايتِهِ ونَشْرِ نُورِهِ بعدَ ذَلكَ اليومِ.
ورَوَى البُخاريُّ عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: (أَنَّ ناساً مِنْ هَوازِنَ جاؤوا رَسُولَ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّمَ، وبايَعوهُ على الاسْلامِ وقالوا: يا رَسُولَ اللهِ، أَنْتَ خيرُ الناسِ وأَبَرُّ النّاسِ، وقدْ سُبيَ أَهْلونا وأولادُنا وأُخِذَتْ أَمْوالُنا، فقالَ: اختاروا إمَّا ذَراريكم ونِساءَكم، وإمّا أَمْوالَكم، قالوا: ما نَعْدِلُ بالأَحْسابِ شَيْئاً، فَرَدَّ ذَراريهم ونِساءَهم). وَكَانُوا سِتَّةَ آلافِ أَسِيرٍ مَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَامْرَأَةٍ.
وقال قتَادَةُ: ذُكِرَ لَنا أَنَّ ظِئْرَ النَبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، التي أَرْضَعَتْهُ مِنْ بَني سَعْدٍ أَتَتْهُ يَوْمَ حُنَينٍ فَسَأَلَتْهُ سَبايا حُنينٍ فقالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنِّي لا أَمْلِكُ إلاَّ ما يُصِيبُني مِنْهُم، ولكنْ اِيتِيني غَداً فاسْأَليني والناسُ عِنْدي، فإذا أَعْطَيْتُكِ حِصَّتي أَعْطاكِ الناسُ)). فجاءَتِ الغَدَ فَبَسَطَ لها ثَوْبَهُ فأَقْعَدَها عَلَيْهِ. ثمَّ سَأَلَتْهُ فأَعْطاها نَصيبَهُ فلمَّا رَأَى ذلكَ النّاسُ أَعْطَوْها أَنْصباءَهم. وكانَ عدَدُ سَبْيِ هَوزِانٍ في قولِ سَعيدِ ابْنِ المُسَيّبِ سَتَّةُ آلافِ رَأْسٍ. وقيلَ: أَرْبَعَةُ آلافٍ. فيهِنَّ الشَيْماءُ أُخْتُ النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مِنَ الرَضاعَةِ، وهِيَ بِنْتُ الحارثِ بْنِ عَبْدِ العُزَّى، مِنْ بَني سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ، وبِنْتُ حَليمَةَ السَعْدِيَّةَ، فأَكْرَمَها رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهِ عَلَيْهِ وسَلَّم، وأَعْطاها وأَحْسَنَ إلَيْها، ورَجَعَتْ مَسْرورةً إلى بِلادِها بِدِينِها وبما أَفاءَ اللهُ عَلَيْها.
قولُه: {وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تَذييلٌ للكَلامِ لإفادَةِ أَنَّ المَغفرةَ مِنْ شأنِهِ ـ سبحانَه وتَعالى، وأَنّهُ رَحيمٌ بِعبادِهِ إنْ أَنابوا إليْهِ وأَقلعوا عن الإشْراكِ بِهِ.
وهذِهِ هِيَ عَظَمَةُ الخالِقِ، الرَّحمنِ الرَحيمِ، فهوَ يَفْتَحُ البابَ دائماً لِعِبادِهِ؛ لأَنَّهُ هُوَ خالِقُ هذا الكَوْنِ، وكُلُّ مَنْ عَصى يَفْتَحُ اللهُ أَمامَهُ بابَ التَوْبَةِ، وهذِهِ مَسْأَلَةٌ مَنْطِقِيَّةٌ؛ لأنَّ الذي يَكْفُرُ والذي يَعْصي لا يَضُرُّ اللهَ شيئاً، وإنَّما يَضُرُّ نَفْسَهُ، ويُحاوِلُ أَنْ يَفْتَرِيَ على نَوامِيسِ الحَقِّ، فإذا عَلِمَ العاصي أَنَّهُ لا مَلْجَأَ لَهُ إلاَّ اللهَ، فإنَّ الله ـ عَزَّ وَجَلَّ، يَفْتَحُ لَهُ بابَ التَوْبَةِ. قالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: رَأَى رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، يَوْمَ أَوْطاسٍ (أوطاس هو اسمُ الوادي الذي وقعت فيه معركةُ حنين) امْرَأَةً تَعْدو وتَصيحُ، ولا تَسْتَقِرُّ، فَسَأَلَ عَنْها فقيلَ: فَقَدَتْ بُنَيّاً لها. ثمَّ رَآها وَقَدْ وَجَدَتْ ابْنَها وهيَ تُقَبِّلُهُ وتُدنِيهِ، فدَعاها وقالَ لأَصْحابِهِ: ((أَطارِحَةٌ هذِهِ ولَدَها في النَّارِ))؟ قالوا: لا. قال: ((لِمَ))؟ قالوا: لِشَفَقَتِها. قالَ: ((للهُ أَرْحَمُ بِكُمْ مِنْها". وخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بمعناهِ والحَمْدُ للهِ على فيض فضله وواسِعِ رحمتِهِ. ورسولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليه وسلَّمَ، إنما كان متخلِّقاً بأخلاقِ مولاه الرَحمنِ الرِحيمِ الذي أرسلَهُ رحمةً للعالمين، فقد رَوى الوَليدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ شيبةَ بْنِ عُثْمانٍ قال: لمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَومَ حُنَينٍ قَدْ عَرِيَ، ذَكَرْتُ أَبي وعَمِّي وقَتْلِ عَلِيٍّ وحمزَةَ إيَّاهُما، فَقُلْتُ: اليومَ أُدْرِكُ ثَأْري مِنْهُ، قالَ: فَذَهَبْتُ لأَجيئَهُ عَنْ يَمينِهِ، فإذا أَنَا بالعُبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ قائمًا، عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضاء كأنها فِضَّةٌ، يَكْشِفُ عَنْها العَجاج، فَقُلْتُ: عَمُّهُ ولَنْ يَخْذُلَهُ، قالَ: فَجْئْتُهُ عَنْ يَسارِهِ، فإذا أَنَا بِأَبي سُفْيانَ بْنِ الحارِثِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ ولَنْ يَخْذُلَهُ. فَجْئتُه مِنْ خَلْفِهِ، فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ أَنْ أَسَوَّرَهُ سَوْرَةً بالسَيْفِ، إذْ رُفِعَ لي شُوَاظٌ مِنْ نارٍ بَيْني وبَيْنَهُ، كأنَّهُ بَرْقٌ، فَخِفْتُ أَنْ تَمْحَشَني (تحرق جلدي)، فَوَضَعْتُ يَدي على بَصَري، ومَشَيْتُ القَهْقَري، فالْتَفتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقالَ: "يا شَيْبَ، يا شَيْبَ، ادْنُ مِني، اللهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ الشَيْطانَ". قالَ: فَرَفَعْتُ إليهِ بَصَري، ولَهُوَ أَحَبُّ إليَّ مِنْ سَمْعي وبَصَري، فقالَ: ((يا شَيْبَ قاتِلِ الكُفَّارَ". ورواهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ حديثِ الوَليدِ، فذَكَرَهُ.
قولُهُ تعالى: {واللهُ غفورٌ رحيمٌ} لفظُ الجلالةِ مبتدأٌ، و "غفورٌ" خبرُهُ، و "رحيمٌ" خبرٌ ثانٍ. وهذه الجملةُ مُسْتَأَنَفَةٌ لا محلَّ لها.