مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(67)
قولُهُ ـ تعالى ذِكْرُهُ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} أَيْ إِنَّهَ لاَ يَنْبَغِي لِلْنَّبِيِّ وَالمُؤْمِنِينَ أَنْ يَعْدِلُوا عَنْ قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ إَلَى أَسْرِهِمْ إلاَّ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الغَلَبَةُ التَّامَةُ، وَالسَيْطَرَةُ الكَامِلَةُ. والإِثْخَانُ: الشِّدَّةُ، وَالغَلَبَةُ، أَوْ هُوَ المُبَالَغَةُ فِي القَتْلِ، لِيَتِمَّ إِذْلاَلُ الكُفْرِ وَأَهْلِهِ. وَأَنْ تَكُونَ قُوَّتُ المُسلمين فِي مَوْضِعِ التَّفَوُّقِ المُطْلَقِ عَلَى الأَعْدَاءِ، فَلاَ يَسْتَطِيعُ هؤُلاَءِ الأَعْدَاءُ الثَّأْرَ وَالعَوْدَةَ إِلى القِتَالِ وإيذاء المسلمين إِذَا سَنَحَتْ لَهُمُ الفُرْصَةُ. فَإِذَا كَانَتْ لَهُم القُوَّةُ وَالسُّلْطَانُ بَعْدَ أَنْ أَنْهَكُوا الأَعْدَاءَ قَتْلاً، جَازَ لَهُمُ العُدُولُ عَنِ القَتْلِ إلَى الأَسْرِ. قالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهُما، كان هذا يَوْمَ بَدْرٍ والمُسْلِمونَ يَوْمَئِذٍ قَليلٌ، فلَمّا كَثُروا واشْتَدَّ سُلْطانُهم، أَنْزَلَ اللهُ تَعالى بعدَ هذا في الأُسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} سورة محمد، الآية: 4. فجَعَلَ اللهُ نَبِيَّهُ والمؤمنين في أَمْرِ الأُسارى بالخِيارِ، إنْ شاءوا قَتَلوهُمْ، وإنْ شاءوا اسْتَعْبَدوهم، وأن شاءوا فادوهم وإن شاءوا رَفَقُوا بهم.
وكانَ المُسْلِمُونَ قد أَسَروا يَوْمَ بَدْرٍ سبعين مِنْ رُؤُوسِ الشِّرْكِ مِنْ قُرَيْشٍ، مِنْهُمْ العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَمُّ رَسُولِ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وكانَ يومَها مُشْركاً ولم يُسْلِمْ بَعْدُ، وفيهم عَقيلُ بْنُ عمِّهِ أَبي طَالِبٍ، وغيرهما من بني هاشمٍ الذين خرجوا كُرْهاً لا رغبةً منهم في قتال النبيِّ وأصحابهِ،
فقد جاءَ عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قال يَوْمَ بَدْرٍ: ((إنَّ أُناساً مِنْ بَني هاشِمَ وغيرِهم قدْ أُخْرجوا كُرْهاً لا حاجَةَ لهمْ بِقِتالِنا فَمَنْ لَقِيَ مِنْكُمْ أَحَداً مِنْ بَني هاشِمٍ فلا يَقْتُلْهُ، ومَنْ لَقِيَ أَبا البُخْتُري فلا يَقْتُلْهُ، ومَنْ لَقِيَ العَبَّاسَ فلا يَقْتُلْهُ فإنَّهُ إنَّما أُخْرِجَ مُسْتَكْرَها)). وكانَ ـ رضي اللهُ عنه، يَكْتُبُ لِرَسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، بِأَخْبارِ المُشْرِكينَ، وكانَ يُحِبُّ أَنْ يُهاجِرَ فَكَتَبَ إليْهِ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((امْكُثْ بِمَكَّةَ فَمُقامُكَ بها أَنْفَعُ لَنا)). لكنَّه عامَلَهُ حينَ أُسِرَ عَلى الظاهِرِ مِنْ أَمْرِهِ.
وَسَأَلَ الرَّسُولُ أَصْحَابَهُ ـ رضوانُ الله عليهم، عمَّا يَفْعَلُ بِالأَسْرَى، فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ الأَنْصَارِيُّ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، بِإِيقَادِ نَارٍ عَظِيمَةِ فِي الوَادِي وَإِحْرَاقِهِمْ فِيهَا، وذكر القُشَيري أَنَّ سعدَ بْنَ مُعاذٍ ـ رضي اللهُ عنه قال: يا رسول الله، إنَّهُ أَوَّلُ وَقْعَةٍ لَنا مَعَ المُشْرِكينَ، فكانَ الإثخانُ أحبَّ إليَّ. وَأَشَارَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِقَتْلِهِمْ، قائلاً: اضْربْ أعْنَاقَهُمْ، فإنهم أئِمَّةُ الكُفْر وإنَّ الله أغْنَاكَ عَنِ الفِدَاءِ، فمكِّني من فُلاَن لنَسِيبٍ لَهُ ومكِّنَ عَليّاً وحَمْزَةَ مِنْ أخويهما، فَلْنَضْربْ أَعنَاقَهُمْ فلم يَهْوَ ذلك رسولُ اللهِ ـ صلى عليه وسلم. وقالَ مُصْعَبُ بْنُ عُميرٍ الذي أَسَرَ أَخاهُ: شُدَّ عَلَيْهِ يَدَكَ، فإنَّ لَهُ أُمّاً موسرةً، فكأنَّه أشارَ عليه بالفِداءِ. وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، بِمُفَادَاتِهِمْ. قَائلاً: هُمْ الأَهْلُ وَالعَشِيرَةُ. فاسْتَبِقهِمْ، لعلَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ، وخُذْ مِنْهُمْ فدْيةً تُقَوِّي بِها أَصْحَابَكَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وقال: ((إنَّ اللهَ لَيُلَيِّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ حَتَّى تكُونَ أَلْيَنَ مِنْ كُلّ لين، وإنَّ اللهَ ليُشَدِّدُ قُلوبَ رِجَالٍ حتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الحِجَارَةِ، وإنَّ مَثلَكَ يا أَبَا بَكْر مَثَلُ إبراهيم، قال: {فَمَن تَبِعَني فَإِنَّهُ مِنّيِ وَمَن عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سورة إبراهيم، الآية: 36. ومَثَلُكَ يا عُمَرُ مَثَلُ نوح، قال: {رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَى الأَرضِ مِنَ الكَفِرينَ دِيَّاراً} سورةُ نوح، الآية: 26. ثُمَّ استشارَ أصحابَه فأشارَ عليه أكثرُهم بالفدية فقَبِلَها منهمُ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هَذِهِ الآيَةَ، يَلُومُ فِيهَا الرَّسُولَ وَالمُسْلِمِينَ عَلَى قُبُولِ الفِدَاءِ، وَتَفْضِيلِ عَرَضِ الحَيَاةُ الدُّنْيا عَلَى مَصْلَحَةِ الإِسْلاَمِ العُلْيَا، وَهِيَ إِبَادَةُ الكُفْرِ وَقَادَتِهِ، حَتَّى يَتَضَعْضَعُ الكُفْرُ، وَيَنْهَارُ بُنْيَانُهُ، وَتَتَقَطَّعُ أَوْصَالَهُ. وفي الآيةِ دليلٌ على أَنَّ جهادَ الكافرين وقتالهم لكسر شوكتهم ودفعِ ضررهم عن المؤمنين هو مما كلِّفَ به سائرُ الأنْبياءِ، فلِذلك عَمَّهمُ اللهُ تعالى بقولِه: "ما كانَ لنبيٍّ". فجيءَ بِ "نَبيٍّ" نَكِرَةً إشارَةً إلى أَنَّ هذا حُكْمٌ سابقٌ في حُروبِ الأَنْبِياءِ مِنْ بَني إسْرائيل، وهو في الإصْحاحِ العشرين مِنْ سِفْرِ التَثْنِيَةِ الفقرة: 13منه. أَخْرَجَ ابْنُ أبي شَيْبَةَ، وأَحمدُ، والتِرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ، وابْنُ المُنذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، والطَبرانيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مردويْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدلائلِ، عَنْ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، وَجِيءَ بِالأُسَارَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلاءِ الأُسَارَى؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، قَوْمُكَ وَأَهْلُكَ اسْتَبْقِهِمْ وَاسْتَأَنِّهِمْ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْرَجُوكَ وَكَذَّبُوكَ، فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ: يَا رَسُولَ اللهِ، انْظُرْ وَادِيًا كَثِيرَ الْحَطَبِ، فَأَدْخِلْهُمْ فِيهِ ثُمَّ أَضْرِمْهُ عَلَيْهِمْ نَارًا، فَقَالَ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الأَسْرَى، يَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ: قَطَعْتَ رَحِمَكَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يُجِبْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ، وَقَالَ نَاسٌ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ ابْنِ رَوَاحَةَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ لَيَّنَ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ، حَتَّى تَكُونَ أَلْيَنَ مِنَ اللِّينِ، وَإِنَّ اللهَ لَيُشَدِّدَ قُلُوبَ رِجَالٍ فِيهِ، حَتَّى تَكُونَ أَشَدَّ مِنَ الْحِجَارَةِ، وَإِنَّ مَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وَمَثَلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ كَمَثَلِ عيسى، قَالَ: {إِنَّ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ نُوحٍ، قَالَ: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا}، وَمَثَلَكَ يَا عُمَرُ كَمَثَلِ موسى، قَالَ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}، أَنْتُمْ عَالَةٌ، فَلا يَنْفَلِتَنَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلا بِفِدَاءٍ أَوْ ضَرْبَةِ عُنُقٍ))، قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِلا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ، فَإِنِّي سَمِعْتُهُ يَذْكُرُ الإِسْلامَ، فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُنِي فِي يَوْمٍ أَخْوَفُ أَنْ يَقَعَ عَلِيَّ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنِّي حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِلاَّ سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ))، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِ عُمَرَ، "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ"، إِلَى آخِرِ الآيَاتِ".
قال القاضي البيضاوي: (والآيةُ دَليلٌ على أَنَّ الأَنْبياءَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامَ يَجْتَهِدون، وأَنَّهُ قد يَكونُ منهم الخَطأُ، ولكنْ لا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ). ولكنْ بما أَنَّهُ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، استشارَ أصحابه في أمرِ الأسرى فهذا يعني أنَّه لم يُوحَ إليْهِ بِشَيْءٍ في ذَلِكَ، وأَنَّ اللهَ أَوْكَلَ ذَلِكَ إلى اجْتِهادِ رَسُولِهِ لحكمةٍ أَرادها، فرَأَى النبيُّ أَنْ يَسْتَشيرَ الناسَ، ثمَّ رَجَّحَ أَحَدَ الرَأْيَيْنِ باجْتِهادٍ، وقَدْ أَثمرَ الاجْتِهادُ أَنْ أَسْلَم مِنْهم حِينَئذٍ سُهَيْلُ بْنُ بَيْضاءَ، وأَسْلَمَ مِنْ بعدُ العبَّاسُ وغيرُهُ، وخَفِيَ على النَبيِّ ـ صلى الله عليه وسلَّم، شيءٌ لمْ يَعْلَمْهُ إلاَّ اللهُ وهُو إضْمارُ بَعْضِهم التأهُّبَ لقتال المسلمين بعد الرجوع إلى قومهم، فكانت معركةُ أحُد.
وقد اخْتارَ النبيُّ الفداءَ لأنَّهُ مِنَ اليُسْرِ والرَحمةِ بالمُسْلِمينَ، إذْ كانوا في حاجةٍ إلى المالِ، وكان رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، ما خُيِّرَ بين أَمْرَيْنِ إلاَّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُما ما لم يَكُنْ إثْماً.
ورُويَ أَنَّ ذلك كانَ رَغبةَ أَكْثَرِهم، وفيهِ نَفْعٌ للمُسْلِمين، وهُم في حاجةٍ إلى المالِ. أخرج الطبريُّ وابْنُ سيرينَ وابنُ أبي شيبةَ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمانيِّ عَنْ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: جاءَ جبريلُ ـ عليه السلامُ، إلى النبيّ ـ صَلَّى اللهُ عَليهِ وسلَّمَ، فقالَ لَهُ: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ قدْ كَرِهَ ما صَنَعَ قومُكَ في أَخْذِهِمُ الأُسارى، وقدْ أَمَرَكَ أَنْ تُخَيِّرْهم بَينَ أَمْريْنِ: أَنْ يُقَدَّموا فَتُضْرَبَ أَعْناقُهم، وبَينَ أَنْ يَأْخُذوا الفِداءَ على أَنْ يُقْتَلَ مِنْهم عِدَّتُهم. قالَ: فَدَعا رَسُولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، الناسَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لهم، فَقالوا: يا رَسُولَ اللهِ، عَشائرُنا وإخْوانُنا!! لا بَلْ نَأْخُذُ فِداءَهم فَنَتَقَوَّى بِهِ على قِتالِ عَدُوِّنا، ويُسْتَشْهَدُ مِنّا عِدَّتُهم، فَلَيْسَ في ذَلِكَ ما نَكْرَهُ! قالَ: فَقُتِلَ مِنْهم يَوْمَ أُحِدٍ سَبْعونَ رَجُلاً عِدَّةَ أُسارى أَهْلِ بَدْرٍ.
قالَ قتادَةُ فادوهم بِأَرْبَعَةِ آلافٍ أَرْبَعةِ آلآفٍ، ورُوِيَ أَنَّ أَسْرى بَدْرٍ افْتُدوا بِأَرْبعينَ أُوقيَّةً أَرْبعينَ أُوقيَّةً إلاَّ العَبَّاسَ فإنَّهُ افْتُدِيَ بمِئَةِ أُوقيَّةٍ. وقالَ عُبَيْدَةُ السَلْمانِيُّ: كانَ فداءُ أَسْرَى بَدْرٍ مِئةَ أُوقيَّةٍ، والأوقية، أَرْبعونَ دِرْهماً، ومِنَ الدنانيرِ سِتَّةُ دَنانير.
وقالَ القُشَيْرِيُّ: أَخَذَ النبيُّ ـ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسَلَّمَ، يَوْمَ بَدْرٍ مِنْهمُ الفِداءَ، وكان ذلكَ جائزاً لِوُجوبِ العِصْمَةِ، ولكنَّ قَتْلَهم كانَ أَوْلى. وقالَ ابْنُ عَطيَّةَ: إنَّما تَوَجَّهَ العِتابُ للصَحابَةِ على اسْتِبْقاءِ الرِجالِ دُونَ قَتْلِهم، لا على الفِداءِ؛ لأنَّ اللهَ تَعالى قد كان خَيَّرَهم، فاخْتَاروا الفداءَ على أَنْ يُقْتَلَ مِنْهم سَبْعين. ثمَّ قالَ: والنبيُّ ـ عليْه الصَلاةُ السَّلامُ، خارجٌ عَنْ ذَلكَ الاسْتِبْقاءِ. فإنْ قلتَ: إذا كان الحق تعالى خيَّرهم فكيف عاتبهم، وهم لم يرتَكِبوا محْظوراً؟ فالجَوابُ: أَنَّ العِتابَ تَابِعٌ لِعُلوِّ المَقامِ، فالخَواصُّ يُعاتَبونَ على المُباحِ، إنْ كان فِعْلُهُ مَرْجوحاً، والحَقُّ تَعالى إنما عاتَبَهم على رَغبَتِهم في أمرٍ دُنْيَوِيٍّ، وهو الفداء، حتى آثروا قتلَ أَنْفُسِهِم على أَخذِهِ، ويَدُلُّ عليهِ قولُهُ: "تُريدون عَرَض الدنيا"، وهذا إنَّما كان في بعضِهم، وجُلُّهم إنَّما اخْتَاروا الفِداءَ اسْتِبْقاءً لِقَرابَةِ الرَسولِ ـ عليْهِ الصلاةُ والسَلامُ.
قَولُهُ: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} يُنَبِّهَ اللهُ تَعَالَى رَسُولَهُ وَالمُؤْمِنِينَ إِلَى أَنَّ فَضَّلُوا هُمْ إذ عَدَلوا إِلى فِداءِ الأََسْرى، فقد فَضَّلُوا عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيا، أَيْ حُطامَها، لأنَّ اللهَ تعالى كان قد أمرهم بقتلِ الكفَرَةِ في الآية: 12. فقال: {فَاضرِبُوا فَوْقَ الأَعنَاقِ واضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَان} لكنَّهم بادروا إلى أسرهم طمعاً في أنْ يفتدونهم بعرض الدنيا وحطامِها، أَمَّا هُوَ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُرِيدُ لهم الآخِرَةَ وما فيها منْ عظيم الأجرِ والثوابِ.
قولُهُ: {وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} والله عزيز: فِي انْتِقَامِهِ، يَغْلِبُ أَوْلِياءَهُ على أَعْدائِهِ، "حَكيمٌ" فِي شَرْعِهِ وَتَدْبِيرِهِ، يَعْلَمُ ما يَليقُ بِكَمالِ حالهم ويخصهم بها، كما أَمَرَ بالإثْخانِ، ومَنَعَ مِنْ أخذِ الفِداءِ حين كانت الشَوْكَةُ للمُشْركين، وخَيَّرَ بينَ الفِداءِ وبين المنِّ لما تحوَّلَّتْ الحالُ، وصارتِ الغَلَبَةُ للمُؤمنين.
قولُهُ تعالى: {ما كان لنبيٍّ أنْ يكونَ له أسرى} المصْدَرُ المُؤوَّلُ مِنْ "أَنْ يَكون" اسْمُ كانَ، و "لنبيٍّ" الجارٌّ والمجرورُ خبرُها.
وقولُهُ: {في الأَرْضِ} هذا جارٌّ على حَقيقَةِ المَعنى مِنَ الظَرْفِيَّةِ، أَيْ: يَتَمَكَّنَ في الدُنْيا.
قولُهُ: {تُرِيدُونَ} هذه الجملةُ واقعةٌ موقِعَ العِلَّةِ للنَهْيِ الذي تَضَمَّنَتْهُ الآيةُ: "مَا كَانَ لِنَبِيٍّ" فلذلك فصلت، لأن العلة بمنزلة الجملة المبَيِّنَة.
وجملةُ: "وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" عطف على جملة: "وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ" عطفاً يُؤذِنُ بأنَّ لهذَيْنِ الوَصْفَيْنِ أَثَراً في أنََّهُ يُريدُ الآخِرَةَ، فيكون كالتعليلِ.
قرأَ العامَّةُ: {ما كانَ لنبيٍّ} فقيل إنَّ في ذلك تَلَطُّفاً به ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، حتى لا يوجَّه العتابُ إليه مباشرةً. وقرأَ أَبو الدَرْداءِ. وأَبو حَيَوَةَ "لِلنَّبِيِّ" بالتَعريف، فقيل: إنّ ذلك على تقدير مضافٍ، أي: ما كان لأصحابِ النبيِّ، بدَليلِ قولِهِ تَعالى: "تُرِيدُونَ".
وقرأَ {أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} بالتذكير مراعاةً للفظ الجمع. وقرأ أَبو عمرو "تكون" بالتأنيث مراعاةً لمعنى الجماعة.
وقرأ الجمهورُ هُنا على "أَسْرى" وهو قياس فعيل بمعنى مفعول دالاَّ على أَنَّه كجريح وجَرْحى وقتيل وقتلى. وقرأَ ابنُ القعقاع والمفضَّل عن عاصم "أُسَارى" شبَّهوا "أسير" بكَسْلان فجمعوه على "فُعالَى" ك "كُسالى"، كما شبَّهوا به "كسلان" فجمعوهُ على كَسْلى. وسمِّيَ الأسيرُ بهذا اسمِ لأنَّهم كانوا يشدونَه بالقِدِّ من الجلدِ وهو الإسارُ، فسُمِّيَ به كُلُّ أَخيذٍ وإن لم يؤسَرْ. قالَ الأَعْشى:
وقيَّدَني الشِعْرُ في بَيْتِهِ ..................... كَما قيَّدَ الآسِراتُ الحِمارا
وقد مضى هذا في سورة "البقرة". وقال أبو عَمْرو بْنُ العلاء: الأَسْرى هُمْ غيرُ المُوثَقين عند ما يُؤخَذون، والأُسارى هُمُ المُوثَقون ربطاً. وحَكى أبو حاتم أَنَّه سمِعَ هذا مِنَ العَرَبِ. وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة محقَّقاً.
وقَرَأَ العامَّةُ: {يُثْخِنَ} مخففاً عدَّوه بالهمزة، وقرأ أبو جعفر ويحيى بْنُ وثَّابٍ، ويحيى بْنُ يَعْمُرَ "يُثَخِّن" بالتَشديد، عَدَّوْه بالتضعيفِ، وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلْظُ و الكَثافَةُ في الأَجْسامِ، ثمّ يُستعار ذلك في كَثرَةِ القتل والجراحات فيقال: أَثْخَنَتْه الجراحُ أَيْ: أَثقلتْهُ حتى أَثْبَتَتْه، ومنْه قولُه تعالى في سورة (محمد): {حتى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ} الآية: 4. وقيل: حتى تقهر. والإِثخان: القهر. ويقالُ مِنْهُ: ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانةً فهو ثَخِين، كظَرُفَ يَظْرُفُ ظَرافَةً فهُو ظَريفٌ.
وقرأ الجمهورُ: {والله يُرِيدُ الآخرة} بنصبِ "الآخرة"، وقرأَ سُليمانُ بْنُ جماز المدني بجرِّها، وخُرِّجتْ على حذفِ المُضافِ وإبْقاءِ المضافِ إليْه على جَرِّهِ. وقدَّرَهُ بعضُهم: واللهُ عَرَضَ الآخِرَةِ، فعِيبَ عليْهِ إذْ لا يَحْسُنُ أَنْ يُقالَ: واللهُ يَريدُ عَرَضَ الآخرةِ، فأَصْلَحَهُ الزَمَخْشَرِيُّ بِأَنْ جَعَلَه كذلك لأَجْلِ المُقابَلَةِ قال "يَعني ثوابها". وقدَّرَهُ بعضُهم بأَعْمالِ أو ثوابِ. وجعلَه أَبو البَقاءِ كَقولِ أبو دؤادٍ الأيادِيِّ:
أَكُلَّ امْرِئٍ تحسببنَّ امْرَأً ........................ ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ ناراًوقدَّر المضاف "عَرَضَ الآخرة". قالَ الشيخ أبو حيّانَ الأندلُسيُّ: ليْسَتِ الآيةُ مثلَ البيتِ فإنَّهُ يَجوزُ ذلك إذا لم يُفْصَلْ بين حرفِ العَطْفِ وبينَ المجرورِ بِشَيْءٍ كالْبَيْتِ، أَوْ يُفْصَلُ بِ "لا" نحو قولِكَ: ما مِثْلُ زَيْدٍ ولا أَخيهِ يَقولانِ ذلكِ. أَمَّا إذا فُصِل بِغَيْرِها كَهذِهِ القِراءَةِ فهُوَ شاذٌّ قَليلٌ.