فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّبًا} أَمَا وَإِنَّكُمْ قَدْ قَبِلْتُمُ الفِدَاءَ، وَأَطْلَقْتُمُ الأَسَارَى، فَكُلُوا مَا أَخْذْتُمْ مِنَ الفِدَاءِ حَلاَلاً طَيِّباً، وَلاَ تَتَحَرَّجُوا مِنْ ذَلِكَ، والمرادُ بها بَيانُ حُكمِ ما انْدَرَجَ في "غنمتم" مِنَ الفِدْيَةِ، لأنَّ حِلَّ الغَنيمةِ قدْ عُلِمَ سابِقاً قولِهِ سبحانه في الآية: 41، من هذه السورة: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم}.
بلْ أحلَّت الغنيمةُ قبلَ ذلك حين أَرْسَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قبل معركةِ بدرٍ الكبرى عبدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنه، ومَعَهُ ثمانيةُ رَهْطٍ مِنَ المُهاجِرينَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنهم، فأَخذوا عِيراً لِقُرَيْشٍ، وقدِموا بِها على النَبِيِّ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ، فاقْتَسَمُوها وأَقَرَّهم على ذَلِكَ.
وكانَ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، بَعَثَ سَرِيَّةً علَيْها عبدُ اللهِ ابنُ جَحْشٍ الأسَدِيُّ ومعه ثمانيةٌ من المهاجرين، وكَتَبَ لَهُ كِتابًا، وأَمَرَهُ أَلاَّ يَنْظُرَ فِيهِ حتى يَسيرَ يَوْمَين، ثمَّ يَنْظُرُ فيه، فيَمْضي لما أَمَرَهُ بِهِ، ولا يَسْتكرِهَ مِنْ أَصحابِهِ أَحَدًا. فلما فتحَ الكتابَ فَنَظَرَ فيهِ فإذا فيهِ: ((إذا نَظَرْتَ في كتابي هذا فامضِ حتى تَنْزِلَ نخلَةً، بينَ مَكَّةَ والطائفِ، تَرْصُدُ بها قُريْشًا، وتَعْلَمُ لَنا مِنْ أَخبارِهم)). فلما نَظرَ عبدُ اللهِ بن جحش في الكتاب قال: سمعًا وطاعةً. ثمَّ قالَ لأَصحابِهِ: قدْ أَمَرَني رَسولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلم، أَنْ أَمْضي إلى نخلةٍ، أَرْصُدُ بها قُريْشًا، حتى آتيهِ مِنْهم بخبرٍ، وقد نهاني أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنكم. فمَنْ كانَ مْنكم يُريدُ الشَهادةَ ويَرْغَبُ فيها فَلْيَنْطَلِقْ، ومَنْ كَرِهَ ذلكَ فَلْيَرْجِعْ، فمَضَى ومضَى مَعَهُ أَصْحابُهُ لم يَتَخَلَّفْ عنْهُ مِنْهم أَحَدٌ، فلَقُوا عَمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ، ومَعَهُ عُثْمانُ ابْنُ عبدِ اللهِ ابْنِ المُغِيرَةِ، وأَخُوهُ نَوْفَلٌ المَخْزومِيَّانِ، والحَكَمُ بْنُ كَيْسَان، فرمى واقدُ بْنُ عبدِ اللهِ عَمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ بسهْمٍ، فقتله، وأَسَرَ عثمانَ بْنَ عبدِ اللهِ، والحَكَمَ، وفَرَّ نوفَلٌ، فأَعْجَزَهُم، وعادوا بالأسيرِ وما كانَ معهم من عيرٍ، فسمِّيتْ هذه ببدرٍ الأولى، أو الصُغرى.
رُوِيَ أَنَّهُ لما نَزَلَتْ الآيَةُ الأُولى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى ... } كَفَّ الصَحابَةُ أَيْديهِمْ عَمَّا أَخَذوا مِنَ الفِداءِ فَنَزَلَتْ هذه الآية.
قولُهُ: {واتقوا اللهَ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } واتقوا اللهَ: أَنْ تُخالفوهُ في ما أَمرَكم ونَهى، "إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ" ولذا غَفَرَ لَكم ذَنْبَكم وأَباحَ لكمْ ما أَخَذْتُموهُ، ويَغْفِرُ لَكمْ ما فَرَطَ مِنْكم مِنِ اسْتِباحَةِ الفِداءِ قَبْلَ وُرودِ الإذِنِ بذلك ويَرحمكم ويَتوبُ عليكم إذا اتَّقَيْتُموهُ.
قولُهُ تَعالى: {فكلوا مِمَّا غَنِمْتُمْ} الفاءُ للتَسَبُّبِ والسببُ محذوفٌ والتقديرُ: أَبحتُ لَكمُ الغنائمَ فَكُلوا، و "ما" يجوزُ فيها أَنْ تَكونَ مَصْدريَّةً، فيكونُ المصدرُ واقعاً مَوْقِعَ المفعولِ به. ويجوزُ أَنْ تَكونَ "ما" هذه بمعنى "الذي"، وهو في المعنى كالذي قبلَهُ تماماً، ويكونُ العائد على هذا محذوفاً.
قولُهُ: {حَلاَلاً طيِّباً} نَصْبٌ على الحالِ: إمَّا مِنْ "ما" الموصولة، أوْ مِنْ عائدِها إذا جعلناها اسميَّةً. وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف أي: أكلاً حلالاً. ووصَفَ هذا المأمورَ بِأَكْلِهِ بِأَنَّهُ حلالٌ طيّبٌ، تَأْكيداً للإِباحَةِ حتى يُقْبِلوا على الأَكْلِ مِنْهُ بِدونِ تَحَرُّجٍ أَوْ تَرَدُّدٍ.
قولُهُ: {واتقوا الله} اعْتِراضٌ فَصيحٌ في أَثناءِ القَولِ، لأنَّ قولَه: "إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ" مُتَّصلٌ بقولِهِ: "فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ" يَعني أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ مِنْ حيثُ إنَّهُ كالعِلَّةِ لَهُ.