وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(46)
قولُهُ ـ تباركت أسماؤه: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ} أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ تَعَالَى فِي الثَّبَاتِ عِنْدَ لِقَاءِ الأَعْدَاءِ المُشْرِكِينَ، وَبِالإِخْلاَصِ لَهُ، وَبِبَذْلِ الجُهْدِ فِي القِتَالِ، وَبِذِكْرِ اللهِ كَثِيراً لِتَطْمَئِنَّ النُّفُوسُ وَتَهْدَأَ، وَيُزَايلَهَا الخَوْفُ وَالتَّرَدُّدُ وَالقَلَقُ، كَمَا أمَرَهُمْ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللهِ، وَالتِزَامِ أَوَامِرِهِ، إِنْجَاحاً لِلْخُطَّةِ العَامَّةِ لِلْجَيْشِ فِي المَعْرَكَةِ. وأَطيعوا اللهَ ورسولَهُ في كُلِّ ما تَأتونَ وما تَذَرونَ، وكلِّ ما يَأْمُرُكم بِهِ ويَنْهاكم عَنْهُ؛ فإنَّ الطاعةَ مِفتاحُ الخيراتِ كُلِّها، ومَبْعَثُ المَسَرَّاتِ.
قولُه: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} أَمَرَهُمْ بِتَجَنُّبِ النزَاعِ، وَالاخْتَلافِ، لأنَّ فِي التَّنَازُعِ وَالاخْتِلاَفِ الفَشَلَ وَالخُذْلاَنَ وَضَيَاعَ مَا حَقَّقَهُ المُسْلِمُونَ فِي المَعْرَكَةِ. فقد أخرج ابنُ أبي حاتم عن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، فِي قَوْلِ اللهِ: "وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ"، قَالَ: الْفَشَلُ: الضَّعْفُ عَنْ جِهَادِ عَدُوِّهِ، وَالانْكِسَارِ لَهُمْ، ذَلِكَ الْفَشَلُ".
قولُه: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} تَذْهَبَ رِيحُكُمْ: تَتَلاشَى قُوَّتُكُمْ، وتَدولُ دَوْلَتُكُم. شَبَّهَ النَصْرَ والدَوْلةَ بهُبوبِ الريحِ؛ مِنْ حيثُ إنَّها تَمْشي على مُرادِها، لا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرُدَّها، وقيلَ: المُرادُ بها الرِّيحُ حَقيقَةٍ، فإنَّ النُصْرَةَ لا تَكونُ إلاَّ بِريحٍ يَبْعَثُهُ اللهُ مِنْ ناحِيَةِ المَنْصورِ تَذْهَبُ إلى ناحِيَةِ المخْذُولِ. وفي الصَحيح عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((نُصِرتُ بالصَّبَا، وأُهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ)). هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ، أخرَجَهُ البُخاريُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُثَنَّى، عَنْ شُعْبَة. وعَنْ قَتادَةَ، وابْنِ زَيْدٍ ـ رضي اللهُ عنهما، أَنَّ المُرادَ بها ريحُ النَصْرِ، وقالا: لمْ يَكُنْ نَصْرٌ قَطُّ إلاَّ بِريحٍ يَبْعَثُها اللهُ تَعالى تَضْرِبُ وُجوهَ العَدُوِّ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ قَتادَةَ في قولِهِ: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم" قال: يقولُ: لا تَخْتَلِفوا فَتَجْبُنوا ويَذْهَبُ نَصْرُكم. وأَخْرَجَ الفِريابيّ وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "وتذهب ريحكم" قال: نَصَرَكُمْ، وقدْ ذَهَبَ رِيحُ أَصْحابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حينَ نَازَعوهُ يَوْمَ أُحُدٍ. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ، وأَبو الشَيْخِ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "وَتَذْهَبَ ريحُكم" قال: الرِيحُ النَصْرِ، لم يَكُنْ نَصْرٌ قَطُ إلاَّ بِريحٍ يَبْعَثُها اللهُ، تَضْرِبُ وُجوهَ العَدُوَّ، وإذا كانَ كذَلِكَ لم يَكُنْ لهم قُوام. وأَخْرجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ النُعْمانِ بْنِ مُقْرِنٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قال: شَهِدْتُ مَعَ رسولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فكانَ إذا لمْ يُقاتِلْ أَوَّلَ النَهارَ، انْتَظَرَ حتَّى تَميلَ الشَمْسُ، وتَهُبَّ الرِياحُ.
وعَلى هذا تَكونُ الريحُ عَلى حَقيقَتِها. ومِنْ كلامِِهِم: هَبَّتْ رِياحُ فُلانٍ. إذا دَالَتْ لَهُ الدَوْلَةُ، وجَرَى أَمْرُهُ على ما يُريدُ. وقيلَ، الريحُ: الهيبةُ قال الشاعر عَبيدٌ بْنُ الأَبْرَصِ:
كما حميناكَ يومَ النَعْبِ مِنْ شُطَبٍ .. والفَضْلُ للقَوْمِ مِنْ ريحٍ ومِنْ عَدَدِ
وقال سُلَيْكُ بْنُ السَلَكَةِ:
يا صَاحِبَيَّ ألاَ لاَ حيَّ بالوادي ............... إلاّ عبيدٌ قعودٌ بين أَذْوادِ
هَلْ تَنْظُرانِ قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهم .......... أَوْ تَعْدُوان فإنَّ الريحَ للعادي
وقال آخرُ:
قد عَوَّدَتْهمْ ظُباهمْ أن يكونَ لهم ..... ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لَقُوا
وقالَ الإمامُ الشافعيُّ ـ رَضِيَ اللهُُ عنه:
إذا هَبَّتْ رِياحُكَ فاغْتَنِمْها ................... فإنَّ لِكُلِّ خافِقَةٍ سُكونُ
وإِن دَرَّتْ نياقُكَ فاحتلبْها .............. فما تَدري الفَصيلُ لمنْ يَكونُ
ولا تَغْفَلْ عَنِ الإحْسانِ فيها ........... فما تَدْري السُكُونُ مَتى يَكونُ
ويَقولونَ: رَكَدَتْ رِياحُهُ إذا وَلَّتْ عَنْهُ وأَدْبَرَ أَمْرُهُ. قالَ الحريريُّ، في مقاماتِهِ: (قَدْ جَرى بِبَعضِ أَنديَةِ الأَدَبِ الذي رَكَدَتْ في هذا العَصْرِ رِيحُهُ). ومن المعلومِ أنَّ الريحَ قد كانتْ منْ أهم عوامل هزيمة المشركين يومَ الخندق إذِ سَلَّطها الله عليهم فاقتلعت خيامهم وأثافيهم وكفأت قدورهم فَوَلًّوا مدبرين منهزمين، ونصر اللهُ الإسلامَ والمسلمين.
قولُهُ: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ثُمَّ يُكَرِّرُ اللهُ تَعَالَى أَمْرَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالتِزَامِ الصَّبْرِ، لأنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ. بالإمْدادِ والإعانةِ ومَا يُفْهَمُ مِنْ كَلِمَةِ "مع" مِنْ أَصالتِهم بناءً على المَشْهورِ مِنْ حَيْثُ أَنَّهم المباشِرونَ للصَبْرِ، فَهُمْ مَتْبوعونَ مِنْ تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ. جاء في الصحيحين، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ أَبي أَوْفى ـ رضي اللهُ عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، أَنَّهُ انْتَظَرَ في بَعْضِ أَيَّامِهِ التي لَقِيَ فيها العَدُوَّ حتى إذا مالَتِ الشَمْسُ قامَ فيهم فقال: ((يا أَيُّها الناسُ، لا تَتَمَنَّوْا لِقاءَ العَدُوِّ، واسْأَلوا اللهَ العافِيَةَ، فإذا لَقِيتُموهُم فاصْبِروا، واعْلَمُوا أَنَّ الجَنَّةَ تحتَ ظِلالِ السُيوفِ)). ثمَّ قامَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ وقال: ((اللَّهُمَّ، مُنْزِلَ الكتابِ، ومُجْرِيَ السَحابِ، وهازِمَ الأَحْزابِ، اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنا عليهم)).
قولُهُ تعالى: {فَتَفْشَلُواْ} نصبٌ على جوابِ النَهْيِ. أوْ جَزْمٌ عَطْفاً عَلى فعلِ النَهيِ قبلَهُ، وقد تقدَّم تحقيقهما في "وتَخُونوا" قبل ذلك. ويدلُّ على الثاني قراءةُ عيسى ابن عُمَر "ويَذْهَبُ" بياءِ الغَيبَةِ وجَزْمِهِ. ونَقل أَبو البقاءِ قراءةَ الجَزْمِ ولم يُقَيِّدها بياءِ الغيبةِ. وقَرأ أبو حيوة وأبان وعصمة "ويَذْهَبَ" بياءِ الغيبةِ ونَصبِه. وقرأ الحسن: فَتَفْشِلوا بكسر الشين. قال أبو حاتم: هذا غيرُ معروف. وقال غيرُهُ: إنها لغةٌ ثانية.