يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
(27)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ} نداءٌ آخرُ من الله تعالى لعباده المؤمنين، وتكليفٌ جديدٌ بالحفاظِ على الأمانةِ وتجنُّبِ الخِيانَةِ، وأَصْلُ الخَوْنِ النَّقْصُ، كما أَنَّ أَصْلَ الوفاءِ الإتمامُ، واسْتِعْمالُهُ في ضِدِّ الأَمانَةِ لِتَضَمُّنِهِ إيَّاهُ، فإنَّ الخائنَ يَنْقُصُ المَخونَ شَيْئاً مما ائتَمَنَهُ عَلَيْهِ فخانَهُ فِيْهِ، والخَونُ أَيْضاً والخِيانةُ: نَقْضُ ما وَقَعَ عليْه تعاقُدٌ وإبْطالُهُ دونَ إعلانٍ بِذلِكَ. وفي هذِهِ الآية يَأْمُرُ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بعدمِ الخيانَةِ لأنَّها مِنَ الخِصالِ الذَميمَةِ، والإسلامُ مَجْمَعُ الخِصالِ الحَميدَةِ.
وخيانةُ اللهِ تكونَ بِنَقْضِ عَهْدِهِ ومِيثاقِهِ الذي عاهد اللهَ عليه بالإيمانِ به وتوحيدِهِ والخُضوعِ لِرُبوبِيّتِه، ومِنْ خِيانَتِهِ تَعالى مُخالَفَةُ شَرْعِهِ وارْتِكابُ مَعْصِيَتِهِ بِمخالفةِ أَمرِهِ ونهيِهِ.
وَخِيانَةُ الرَسُولِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، تَكونُ بمَعْصِيَتِهِ وتَرْكِ سُنَنِهِ، كَما أَنَّ الوفاءَ له، يَكونُ بإحياءِ سُنَنِهِ والعملِ بشِرْعتِهِ، وتَشْمَلُ الخيانةُ للهِ ورسولِهِ كُلَّ مَعْصيةٍ خَفيَّةٍ.
وقيل إنَّ المقصود بالخيانة هنا التقصير في أمر التسلح والغزو لما أخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله عنه في قوله { لا تخونوا الله والرسول } هو الإِخلال بالسلاح في المغازي .
وقيلَ المَقصُودُ بِ "لا تخونوا" بِغُلولِ الغَنائمِ، لأنَّ هذه السورة قد نزلت في شؤون معركة بدرٍ، وبما أنها كانت المعركة الأولى التي خاضها المسلمون دفاعاً عن أنفسهم وعقيدتهم، فقد كان فيها تشريعات كثيرة خاصةٌ بشؤون الحربِ، وقد تقدم أنَّه حدثت بعض الخلافات بين بعض المسلمين بشأنِ اقتسام الفيءِ والغنائم. وقد تقَدَّمَ في الآيات السابقةِ عددٌ مِنَ التَشريعاتِ الخاصَّةِ بشؤونِ الحربِ، وهذا تَشْريعٌ جديدٌ يَنهى اللهُ تعالى فيهِ عبادَهُ المؤمنينَ عَنْ أَنْ تَمْتَدَّ أَيْديهم إلى شيْءٍ مِنْ غَنائِمِ الحرْبِ دونَ معرفة الرَّسُولِ أو الإمامِ أو القائدِ، قبلََ أَنْ تكونَ بين يدي وليِّ الأمرِ فيَقْسِمَها ويُعْطِي كُلَّ ذي حَقٍّ حقَّهُ بِحَسَبِ ما سَبَقَ بَيانُهُ مِنْ تَشْريعٍ في هذا الخصوصِ.
وهو خِطابٌ عامٌّ شاملٌ، يجمعُ كُلَّ أَنواعِ الخياناتِ، قَليلَها وكَثيرَها، والمخاطبُ بِهِ هُمُ المؤمنونَ جميعاً إلى يومِ القيامَة.
قولُهُ: {وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} فيما بَيْنَكم، أَوْ فيما أَسَرَّ الرَّسولُ إليْكُمْ مِنْ سِرٍّ فَتُفْشوهُ، و أنْ لاَ تَخُونُوا أَمَانَاتِكمْ فِي أَعْمَالِكمْ التِي ائْتَمَنَكم اللهُ عَلَيهَا، وَتَشْمَلُ أَمَانَةَ الإِنْسَانِ نَحْوَ النَّاسِ فِي تَعَامُلِهِ مَعَهُمْ: كَالمِكْيَالِ وَالمِيْزَانِ، وَأَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالحَقِّ وَالصِّدْقِ، وَكِتْمَانِ السِّرِّ، وغيرِ ذلك من أماناتٍ.
فَالأَمَانَةُ وَاحِدَةُ وَلاَ تَبْعِيضَ فِيهَا، والأَمانةُ اسْمٌ لما يَحْفَظُهُ المَرْءُ عندَ غيرِهِ، وهي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الأَمْنِ لأنَّهُ يَأْمَنُهُ مِنْ أَنْ يُضَيِّعَها، والأَمينُ هو الذي يحفظُ حُقوقَ مَنْ يُوالِيهِ، وإنَّما أُضيفتْ الأَماناتُ إلى المُخاطَبينَ مُبالَغَةً في تَفْظيعِ الخِيانَةِ لها وتَضييعِها، وبِأَنَّها نَقْضُ لأمانةٍ مَنْسوبةٍ إلى ناقِضِها، بِمَنْزِلَة قولهِ في سورة النساءِ: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية: 29. دون: ولا تقتلوا النَفْسَ.
وللأمانةِ شَأْنٌ عَظيمٌ في اسْتِقامَةِ أَحوالِ المُسلمين، ما حافظوا عليها وتحلَّوا بها، وهي دليلٌ على نزاهةِ النُفوسِ واعْتِدالِ أَعْمالِها وحُسنِ سِيرتِها، وقد حذَّرَ النَبيُّ ـ صلّى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ، مِنْ إضاعَتِها والتَهاوُنِ بها، وأَشارَ إلى أَنَّ في إضاعَتِها انْحلالُ أَمْرِ المُسلِمينَ. فقد جاء في صحيح الإمامِ البُخارِيِّ، عَنْ حُذيْفَةَ بْنِ اليَمانِ، رضي اللهُ عنه، قال: حدَّثَنا رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، حَديثَين: رَأَيْتُ أحدَهُما وأَنا انْتَظِرُ الآخَرَ، حَدَّثَنا: ((أَنَّ الأَمانَةَ نَزَلَتْ على جَذْرِ قُلوبِ الرِجالِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ القُرآنِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ السُنَّةِ)). وحَدَّثَنا عَنْ رَفْعِها فَقالَ: ((يَنامُ الرجلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأمانةُ مِن ْقَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مثلَ الْوَكْتِ، ثمَّ يَنامُ النَّوْمَةَ فتُقْبَضُ الأمانةُ مِنْ قَلْبِهِ فَيَظَلُّ أَثَرُها مِثلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ على رِجْلِكَ فَنَفِطَ فَتَراهُ مُنْتَبِرًا وليس فيه شيْءٌ فيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبايَعون، لا يَكادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الأَمانَةَ حتّى يُقالُ إنَّ في بَني فُلان رَجلاً أَميناً حتى يُقالَ للرَجُلِ ما أَجْلَدَهُ ما أَظْرَفَهُ ما أَعْقَلَهُ وما في قلبِهِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانْ)). أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمدُ، والتِرْمِذِيُّ، والطيالسيُّ وابُنُ ماجه، وابن حبان، وأَبو عُوانة.
و (الوكْتُ: سَوادٌ يَكونُ في البسْرِ إذا قارَبَ أَنْ يَصيرَ رُطَباً، والمَجْلُ: غِلَظُ الجِلْدِ مِنْ أَثَرِ العَمَلِ والخِدْمَةِ، ونَفَطَ: تَقَرَّحَ، ومًنْتَبراً: مُنْتَفِخاً)
وقدْ جَعَلَها النَبيُّ ـ صَلى اللهُ عليْه وسلَّمَ، مِنَ الإيمانِ، إذْ قال في آخرِ الأخبارِ عَنهْا: وما في قلبِهِ مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَل ٍمِنْ إيمانٍ، وحَسْبُكَ مِنْ رَفْعِ شَأْنِ الأَمانَةِ: أَنْ كانَ صاحِبُها حَقيقاً بِوِلايَةِ أَمْرِ المُسْلِمينَ، لأنَّ وِلايَةَ أَمْرِ المُسْلِمينَ أَمانةٌ لهمْ ونُصْحٌ، ولِذلكَ قالَ عُمَرُ ابْنُ الخَطابِ ـ رضي اللهُ عنه، عندَ احتضاره من طعنةٍ بخنجرِ غدرٍ مسمومٍ من يد المجوسي أبي لؤلؤةَ لعنه اللهُ وأخزاه، وقد أَوْصى بأَنْ يَكونَ الأَمْرُ شُورى بَينَ سِتَّةٍ من كبارِ الصَحابَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم أَجمعين: (وَلَوْ كانَ أَبو عُبَيْدَةَ عامرٌ بْنُ الجَرَّاحِ حَيّاً لَعَهِدْتُ إلَيْهِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَهُ: ((إنَّهُ أَمينُ هَذِهِ الأُمَّةِ)).
قولُهُ: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أَنَّ الخيانةَ لَيْسَتْ مِنْ شَأْنِ الكِرامِ، بَلْ هِيَ مِنْ شَأْنِ اللِّئامِ. قالَ الشاعرُ:
لا يَكتُمُ السرَّ إلا كُلُّ ذِي ثِقَةٍ ......... فالسرُّ عِنْدَ خِيَارِ النَّاسِ مَكْتُومُ
أو: وأَنْتُمْ عُلَماءُ تُمَيِّزونَ الحَسَنَ مِنَ القَبيحِ. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ مَسَاوِئَ الخِيَانَةِ، وَسُوءَ عَاقِبَتِهَا. والقبيحُ يَكونُ أَشْنَعَ في حالِ عِلْمِ فاعِلِهِ بِقُبْحِهِ، فالحالُ هُنا بمَنْزلَةِ الصِفَةِ الكاشِفَةِ في قولِهِ تَعالى في سورة (المؤمنون): {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الآية: 117. وفي قولِهِ: {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} سورة البقرة، الآيةُ: 22. وليسَ المُرادُ تَقييدُ النَهْيِ عَنِ الخِيانَةِ بحالَةِ العِلْمِ بها، لأنَّ ذلكَ قَليلُ الجَدْوَى، فإنَّ كُلَّ تَكليفٍ مَشْروطٌ بالعِلْمِ، وكَوْنُ الخيانَةِ قَبيحَةً أَمْرٌ مَعْلومٌ.
جاءَ في أسباب النزول عن الزهريِّ والكَلْبيِّ: أنَّ الآيةَ نَزَلَتْ في أَبي لُبابَةَ، هارونَ بْنِ عَبدِ المُنْذِرِ الأَنْصارِيِّ، مِنْ بَني عَوْفِ بْنِ مالِكٍ، وذَلكَ أَنَّ رسولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّمَ، حاصَرَ يَهودَ قُرَيْظَةَ إحْدى وعِشرينَ لَيْلةً، فَسَأَلوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، الصُلْحَ على ما صالحَ عَلَيْهِ إخْوانُهم مِنْ بَني النَضيرِ، على أَنْ يَسيروا إلى إخْوانِهم إلى (أَذُرُعات وأَريحاء) مِنْ أَرْضِ الشامِ، فأبى رَسُولُ اللهِ ـ صلّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، أَنْ يُعْطِيَهم ذلكَ إلاَّ أَنْ يَنْزِلوا عَلى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ، فأَبوا وقالوا: أَرْسَلَ إلَيْنا أَبا لُبابَةَ بْنِ عَبْدِ المُنْذِرِ، وكانَ مُناصِحاً لهم، لأنَّ مالَهُ ووَلَدَهُ وعِيالَهُ كانتْ عندَهم، فَبَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وآتاهم، فقالوا لَهُ: يا أَبَا لُبابَةَ ما تَرى أَنَنْزِلُ على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ؟ فأَشارَ أَبو لُبابَةَ بِيَدِهِ على حَلْقِهِ أَنَّهُ الذَبْحُ، فَلا تَفْعَلوا، قالَ أَبو لُبابَةَ: واللهِ ما زالَتْ قَدَمايَ مِنْ مَكانِهِما حَتّى عَرَفْتُ أَنّي قَدْ خُنْتُ اللهَ ورَسُولَهُ ثمَّ انْطْلَقَ على وَجْهِهِ ولم يَأْتِ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وشَدَّ نَفْسَهُ على سارِيَةٍ مِنَ سَواري المَسْجِدِ وقالَ: واللهِ لا أَذوقُ طَعاماً ولا شَراباً حتى أَموتَ أَوْ يَتوبَ اللهُ عَلَيَّ. فلَمّا بَلَغَ رَسولَ اللهَ ـ صَلّى اللهُ عليْه وسَلَّمَ، خَبَرَهُ قالَ: أَمَا لَوْ جاءَني لاسْتَغْفَرْتُ لَهُ، فأمَّا إذا فَعَلَ ما فَعَلَ فإنّي لا أُطْلِقُهُ حتى يَتُوبَ اللهُ عَلَيْهِ، فَمَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ، لا يَذوقُ طَعاماً ولا شَراباً حتى خَرَّ مَغْشِيّاً عَليْهِ، ثمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِ، فَقيلَ لَهُ: يا أَبَا لُبابَةَ قَدْ تِيبَ عَليكَ، فقالَ: لا واللهِ لا أَحُلُّ نَفسيَ حتى يَكونَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ هو الذي يَحِلُّني، فجاءَهُ فَحَلَّهُ بِيَدِهِ، ثمَّ قالَ أَبو لُبابَةَ: يا رَسولَ اللهِ إنَّ مِنْ تَمامِ تَوبَتي أَنْ أَهْجُرَ دارَ قَوْمي التي أَصَبْتُ فيها الذَنْبَ وأَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مالي كُلِّهِ، قالَ النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يَجزيكَ الثُلُثُ فَتَصَدَّقْ بِهِ))، فَنَزَلَتْ فِيهِ: "لا تخونوا اللهَ ورسوله". تفسير الطبري: 13/481، وسيرة ابْنِ هِشام: 2/237 - 238، وأَسبابُ النُزولِ للواحدي ص: (269 - 270)، والدر المنثور: 4/ 48 - 49.
وأَخْرَجَ عبدُ بْنُ حميدٍ عَنِ الكَلْبيِّ أيضاً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم، بَعَثَ أبا لبابةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إلى قُرَيْظَةَ، وكانَ حَليفاً لَّهم، فأَوْمَأَ بِيَدِهِ أَيْ الذَبْح، فأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" فقال رسول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم، لامْرأةِ أَبي لُبابَةَ. أَيُصَلِّي ويَصومُ ويَغْتَسِلُ مِنَ الجَنابَةِ؟ فقالت: إنَّه لَيُصلّي ويَصومُ، ويَغْتَسِلُ مِنَ الجَنابَةِ، ويُحِبُّ اللهَ ورَسُولَهُ. فبَعَثَ إِلَيْهِ فأَتاهُ فقال: يا رَسولَ اللهِ واللهِ إني لأُصَلّي وأَصُومُ وأَغْتَسلُ مِنَ الجَنابَةِ. وإنَّما نَهَسْتُ إلى النِساءِ والصِبْيانِ فَوَقَعْت لهم ما زالت في قلبي حتى عرفتُ أَني خنتُ اللهَ ورسولَه. النَّهْسُ: هو الأخذُ بمقدِّمةِ الأَسْنانِ، ويقالُ أيضاً نهشَ اللحمَ إذا أخذه بمقدِّمة أسنانه.
وأخرج ابن مردويه عن عكرمة ـ رضيَ اللهُ عنهُ قال: لما كان شأنُ بني قريظة، بعثَ إليهم النبيُّ ـ صلى الله عليه وسَلَّمَ، عَلِيّاً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فيمَنْ كانَ عِنْدَهُ مِنَ النّاسِ، انْتَهى إلَيْهم وَقَعُوا في رسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، وجاءَ جبريلُ عليهِ السَّلامُ إلى رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، على فَرَسٍ أَبْلَق، فقالت السيدةُ عائشةُ ـ رضِيَ اللهُ عنْها: فلَكَأَنّي أَنْظُرُ إلى رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مَسَحَ الغُبارَ عَنْ وَجْهِ جِبريل ـ عليْهِ السلام، فقُلْتُ: هذا دُحْيَةُ يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: هذا جبريلُ. فقال: يا رسولُ اللهِ ما يَمْنَعُكَ مِنْ بَني قُرَيْظَةَ أَنْ تَأْتيهم؟ فقالَ رسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: فكيفَ لي بِحُصْنِهم؟ فقالَ جِبريلُ عَلَيْهِ السلامُ: إني أُدْخِلُ فَرَسي هذا عليهم، فرَكِبَ رَسُولُ الله ـ صَلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فَرَساً معروراً، فلمّا رَآهُ عليٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: يا رسولَ اللهِ لا عَلَيْكَ أَنْ لا تَأْتيهم فإنهم يَشْتُمونَكَ. فقال: كلاّ إنَّها سَتَكونُ تحيَّةً، فأَتاهمُ النَبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، فقال: يا إخْوَةَ القِرَدَةِ والخَنازيرِ. فقالوا: يا أَبا القاسِمِ ما كُنتَ فَحّاشاً . . . ؟! فقالوا: لا نَنْزِلُ على حُكْمِ مُحَمَّدٍ ـ صلّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ولكنَّنا نَنْزِلُ على حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ، فنَزَلوا فَحَكَمَ فيهم: أَنْ تُقْتَلَ مُقاتِلَتُهُمْ، وتُسْبى ذَراريهم. فقالَ رَسولُ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّم: بِذلِكَ طَرَقَني المَلَكُ سَحَراً، فنَزَلَ فيهم: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون} نَزَلَتْ في أَبي لُبابةَ ـ رَضيَ اللهُ عنهُ، أَشارَ إلى بَني قُريظةَ حينَ قالوا: نَنْزِلُ عَلى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعاذٍ ـ رَضيَ اللهُ عنه، لا تَفْعَلوا فإنَّهُ الذَبْحُ وأَشارَ بِيَدِهِ إلى حَلْقِهِ.
وأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ عَنِ المغيرةَ بْنِ شُعْبَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قال: نَزَلَتْ هذِهِ الآيةُ في قَتْلِ عُثْمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنه.
وقيل إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أبِي بَلْتَعَةَ، الذِي أَرْسَلَ رِسَالَةً إِلَى قُرَيْشٍ مَعَ امْرَأَةٍ يُعْلِمُهَا فِيهَا بِأَنَّ الرَّسُولَ تَجَهَّزَ لِغَزْوِهِمْ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ. فقد أخرج البيهقيُّ في السنن الكبرى عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبِى رَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم، أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ فَقَالَ: ((انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ)). فَخَرَجْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا فَإِذَا نَحْنُ بِظَعِينَةٍ فَقُلْنَا أَخْرِجِي الْكِتَابَ، فَقَالَتْ مَا مَعِيَ كِتَابٌ، فَقُلْنَا لَهَا لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَنُلْقِيَنَّ الثِّيَابَ، فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلَّم، فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِمَّنْ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم، فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا حَاطِبُ؟)). قَالَ: لاَ تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَاتِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ لِي بِمَكَّةَ قَرَابَةٌ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، وَاللهِ مَا فَعَلْتُهُ شَكًّا فِي دِينِي وَلاَ رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وسلَّم: ((إِنَّهُ قَدْ صَدَقَ)). فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللهِ دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم: ((إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللهُ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)). وأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَمَاعَةٍ عَنْ سُفْيَانَ.
وأَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وأَبو الشَيْخِ، عَنْ جابرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَنَّ أَبا سُفيانَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ، فأَتى جِبْريلُ النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فقالَ: إنَّ أَبا سُفيانَ بمكانِ كَذا وكَذا فاخْرُجوا إِلَيْهِ واكْتُموا. فكَتَبَ رَجُلٌ مِنَ المُنافقينَ إلى أَبي سُفيانَ: إنَّ محمَّداً ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، يُريدُكم، فخُذوا حِذْرَكم، فأَنْزَلَ اللهُ: "لا تخونوا الله والرسول" الآية.
وَالآيَةُ عَامَّةٌ كما قالَ ابْنُ كَثيرٍ: والصَحيحُ أَنَّ الآيَةَ عامَّةٌ وإنْ صَحَّ أَنَّها وَرَدَتْ على سَبَبٍ خاصٍّ؛ فإنَّ الأَخْذَ بِعُمومِ اللّفظِ لا بِخُصوصِ السَبَبِ والمُعْتَمَدُ عِنْدَ الجَماهيرِ مِنَ العُلَماءِ.
قولُهُ تَعالى: {وتخونوا أماناتكم} تخونوا: منصوبٌ وعلامةُ نَصبِهِ حذفُ النونِ من آخره لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وناصِبُهُ "أَنْ" مُضْمَرَةٌ عَلى أَنَّهُ جوابُ النَهْيِ، في الجملةِ التي قَبْلَها: "لا تخونوا اللهَ ورَسُولَهُ" ثمَّ قال: "وتخونوا أماناتكم" أَيْ: لا تجمَعوا بين الخيانتينِ الجِنايَتَيْنِ، وهُوَ كَما هو قولُ أَبي الأسودَ الدُؤَلي:
لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه ................ عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيمُ
والأَوْلى أَنْ يَكونَ مَجْزوماً نَسَقاً على "تخونوا" الأول، لأنَّ فيه النَهيُ عَنْ كلِّ واحدٍ على حِدَته بخلاف ما قبله، فإنَّه نهيٌ عَن الجمعِ بينهما، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلِّ واحدٍ على حِدَته. وفعلُ "الخِيانَةِ" يَتَعَدَّى في الأصلِ إلى مَفعولٍ واحدٍ وهو المَخونُ، وقد يُعَدَّى تَعْديةً ثانيةً إلى ما وقع نَقْضُهُ فيقال: خانَ فلانٌ فُلاناً أَمانَتَهُ أَوْ عَهْدَهُ، وهذا أَصْلُهُ نَصْبٌ على نَزْعِ الخافِضِ، أي: خانَهُ في عَهْدِهِ أَوْ في أَمانَتِهِ، فاقْتُصِرَ في هذهِ الآيةِ عَلى المَخوفِ ابتداءً، ثمَّ اقتُصِرَ على المَخونِ فيهِ بقولهِ: "وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ" أَيْ في أَماناتِكُم، أَيْ وتخونوا الناسَ في أَماناتِكُمْ التي ائتُمِنْتُمْ عَلَيْها، وإنما أعيدَ فِعلُ "تَخُونُوا" ولم يُكْتَفَ بحرْفِ العَطْفِ، الصالحِ للنِيابَةِ عَنِ العامِلِ في المَعْطوفِ، للتَنْبيهِ على نَوْعٍ آخَرَ مِنَ الخيانَةِ فإنَّ خِيانَتَهمُ اللهَ ورَسولَهُ نَقيضُ الوَفاءِ لَهُما بالطاعةِ والامْتِثالِ، وخيانةُ الأَمانَةِ نقيضُ الوَفاءِ بأَداءِ ما ائْتُمِنوا عليه.
و "أماناتِكم" على حَذْف مُضافٍ أَيْ: أَصحابَ أَماناتِكم. ويَجوزُ أَنْ يَكُونُوا نُهُوا عن جِنايَةِ الأَماناتِ مُبالَغَةً كأنَّها جُعِلَتْ مَخُونةً.
قولُهُ: {وأنتم تعلمون} جملة حاليَّةٌ، مِْن ضَميرِ تَخونوا الأوَّلِ والثاني. ومُتَعَلَّقُ العِلمِ يجوزُ أَنْ يَكونَ مُراداً أَيْ: تعلمونَ قُبْحَ ذَلِكَ أَوْ أَنَّكم مُؤاخَذون بها. ويجوزُ ألاَّ يُقَدَّر، أيْ: وأَنْتم مِنْ ذوي العِلْمِ. والعلمُ يُحتملُ أنْ يكونَ على بابِهِ، وأَنْ يَكونَ بمعنى العِرْفانِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعلَ فعلَ "تَعْلَمُونَ" منزَّلاً مَنْزلةَ اللازِمِ، فلا يُقَدَّرَ لَهُ مَفعولٌ، فيكونُ معناهُ: "وأنتم ذوو علم" أيْ: مَعرفة حقائقِ الأشْياءِ، أَيْ وأنتم عُلَماءُ لا تجهلونَ الفَرْقَ بينَ المحاسِنِ والقَبائحِ، فيَكونُ كَقَوْلِهِ تعالى في سورة البقرة: {فَلا تَجْعَلُوا للهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الآية: 22.
وَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ لَهُ هُنا مفعولاً دَلَّ عليه قولُه: "وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ" أيْ: وأَنْتُمْ تَعْلَمون خيانةَ الأَمانَةِ أَيْ: تَعْلَمونَ قُبْحَها فإنَّ المُسلِمين قدْ تَقَرَّرَ عِنْدَهم في آدابِ دِينِهم تَقبيحُ الخيانةِ، بَلْ هُوَ أَمْرٌ مَعلومٌ للناسِ حتى في الجاهلِيَّةِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {أماناتِكم} جمع أمانةٍ، وقرأَ مُجاهد، "أمانَتَكم" بالتَوحيدِ والمُرادُ الجَمْعُ، ورُوِيتْ عَنْ أَبي عَمْرٍو كذلك.